لقد وضعت الدول الغربية نفسها وصية على راوية التجربة الإنسانية العالمية؛ غاضة البصر عن الجذور الاستعمارية لها.
أتذكر زيارتي لمعرض “جميل” في متحف فيكتوريا وألبرت في لندن عندما كنت في السابعة عشرة من عمري في سنة 2003، بعد وقت قصير من بدء الغزو الأمريكي والبريطاني للعراق؛ حيث كان عقلي الشاب في حيرة من أمره حول كيفية تعرض العراق – إحدى أقدم الحضارات المستمرة في تاريخ البشرية – للقصف، بينما كان الأمريكيون والأوروبيون يتجولون في المتاحف ذات الأرضيات الرخامية مسحورون بالتاريخ الغني للبلاد.
بمرور الوقت؛ أدركت أن الإجابة تكمن في تأسيس المتحف نفسه؛ فهو رمز مستمر للنصر الإمبراطوري حتى يومنا هذا، فعندما افتُتِح المتحف البريطاني سنة 1753، كان يضم مجموعة من 71000 قطعة، وعلى مدى الـ 250 عامًا التالية، توسعت مجموعته بسرعة – بفضل الاستعمار – ونمت بشكل كبير لدرجة أن المتحف فتح عدة فروع، ويضم الآن حوالي ثمانية ملايين قطعة، بما في ذلك بعض أشهر القطع في العالم – والمتنازع عليها – من رخامات إلجين اليونانية لحجر رشيد في مصر.
وافتُتِح متحف اللوفر في باريس سنة 1793 بعدد 537 لوحة – نُهبت غالبيتها من الطبقة الوسطى والكنيسة كجزء من الثورة الفرنسية الأولى – ثم توسعت أيضًا بسرعة بفضل الحملات العسكرية لنابليون بونابرت،كما تم افتتاح متاحف أخرى في جميع أنحاء أوروبا في ظل التوسع العالمي للاستعمار،فقد تم مسبقًا إنشاء وسائل الحصول على القطع الفنية والتحف والمصنوعات اليدوية المسروقة من الحفريات الأثرية والأماكن ذات الأهمية التاريخية أو الدينية والمخطوطات النادرة والقيمة، وحتى الرفات البشري، وتم ترسيخ المبدأ القائل: خذ ما تستطيع، بأي وسيلة ضرورية.
وكانت هذه المجموعات بمثابة برهان على القوة الأوروبية في الوصول وقدرتها على جذب الجماهير وأسرهم من خلال إظهار الغموض والغرابة الموجود في “السكان الأصليين الظلاميين وغير المتحضرين” الموجودين في الأراضي البعيدة، وقد تكون الكتب المكتوبة باللغة العربية أو الفارسية أو التركية – خاصة تلك المتعلقة بالإسلام – قد دُرست لأغراض الجدل، لكن الكثير منها بقي يتجمع عليه الغبار في المكتبات لأن هناك القليل من الناس يستطيع ترجمتها.
ويعرّف المتحف البريطاني اليوم عن نفسه بأنه “فريد من نوعه في جمع ثقافات العالم عبر القارات والمحيطات تحت سقف واحد. ولا يوجد متحف آخر مسؤول عن تجميعات من نفس العمق والاتساع والجمال والأهمية”؛ وهو بيان جريء يتجاهل السياق التاريخي الذي كان قادرًا فيه على “جمع” هذه الثقافات.
بدأ الأوروبيون في بناء نماذج أصلية سلبية للمسلمين. وهذه الظاهرة؛ التي أصبحت تُعرف فيما بعد باسم الاستشراق
ومع ذلك؛ هناك وعي متزايد في السنوات الأخيرة حول مشكلة الضعف في – أو في بعض الحالات عدم توفر – مصدر الفنون والأشياء الموجودة في المتاحف الغربية؛ فقد قام النشطاء الذين تعود جذور بعضهم إلى البلدان التي كانت مستعمرَة في السابق، بإطلاق حملات لاستعادة القطع الأثرية المنهوبة، وفي بعض الحالات وصلت هذه المطالب إلى المستوى الدولي.
الفن الإسلامي في المتاحف الأوروبية
منذ اللحظة التي وطأت فيها قدم نابليون مصر عام 1798، واحتل العالم العربي، وبالتالي العالم الإسلامي، مركز الصدارة في الخيال الأوروبي؛ ففي محاولة لفهم مكانهم في تاريخ العالم، بدأ الأوروبيون في بناء نماذج أصلية سلبية للمسلمين. وهذه الظاهرة؛ التي أصبحت تُعرف فيما بعد باسم الاستشراق، أطلقت العديد من الحركات، وأصبح جمع وعرض الأشياء من العالم الإسلامي إستراتيجية رئيسية في تشكيل وإعادة تشكيل الخيال الغربي.
لقد توصل جيش علماء الاجتماع والمؤرخين والمساحين الذي انضم إلى نابليون في مهمته، في الغالب، إلى نفس النتيجة: لم يكن هؤلاء البدو الصحراويون الظلاميون والسكان الذين يعانون من الفقر الموجودون في متاهات المدن القديمة؛ هم نفس الأشخاص الذين حكموا العالم المعروف والذين كانوا روادًا في مجالات العلم والفلك؛ وكان من المقرر معاملتهم وفقًا لذلك.
اليوم؛ تضم متاحف اللوفر ونيويورك متروبوليتان للفنون وفيكتوريا وألبرت والمكتبة البريطانية في لندن ومتحف بيرجامون في برلين؛ مجموعات كبيرة من الأشياء النادرة والقيمة التي تم جمعها من جميع أنحاء العالم الإسلامي الواسع؛ وهذه المجموعات – أو المتاحف التي تحاول جمع أكثر من ألف عام من الثقافة والفن في عدد قليل من الغرف – تقدم نظرة ثاقبة حول كيف تستمر هذه المؤسسات في النظر إلى الإسلام والعالم الإسلامي الأوسع وكيف تعرضهما، ففي حين أن الأشياء المعروضة تدل على التطور والتألق التاريخي؛ فلا يوجد سرد يربط الماضي بالحاضر، وهذه ليست مصادفة.
لطالما كافح المسلمون من أجل أن يتم تمثيلهم بشكل عادل ودقيق في الخيال الأوروبي، لكن عدم نجاح هذا الكفاح لم يكن بسبب قلة المحاولة، ففي السنوات الأخيرة؛ حاولت المعارض الممولة – والمنظمة جزئيًّا – من قبل منظمات من داخل العالم الإسلامي “تصحيح” سوء الفهم التاريخي القديم.
في عام 2009؛ اشترك متحف فيكتوريا وألبرت مع “فن جميل”، وهي مجموعة خيرية سعودية خاصة، لإطلاق “مسابقة جائزة جميل”، وفي عام 2021؛ منحت الجائزة الأولى للفنان السعودي عجلان غارم عن عمله الفني – الذي حظيَ بثناء واسع – والذي كانت بعنوان “الجنة لها أبواب كثيرة”؛ حيث قال الفنان إن عنوان القطعة يشير إلى المسارات المختلفة إلى الجنة الموصوفة في القرآن؛ حيث يكرر العمل الفني تصميم مسجد تقليدي، لكنه مصنوع من أسلاك تستخدم لصنع أقفاص الدجاج؛ لكنها في المراكز الحدودية ومقرات الاحتجاز الشرطية.
“تثير المادة التي صُنع منه المسجد القلق، لكنها تجعل أيضًا ما بداخله مرئيًا ومفتوحًا لإظهار العناصر بداخله… كما يسعى العمل إلى إزالة الغموض عن الصلاة الإسلامية لغير المسلمين، ومعالجة الخوف من الآخر التي هي جوهر الإسلاموفوبيا”؛ كما يقول الفنان على موقعه على الإنترنت.
في أوائل عام 2020، أقام المتحف البريطاني معرضًا بعنوان “مستوحى من الشرق: كيف أثر العالم الإسلامي على الفن الغربي
ولكن العمل أثار العديد من التساؤلات الأخرى: هل يحاول الفنان تفسير الأعراف الاجتماعية والدينية الخانقة لبعض الاجتماعيات الإسلامية التي تجبر الناس على دخول المساجد؟ أم أنه يحاول “إزالة الغموض” عن الإسلام في محاولة “لمعالجة الخوف… في جوهر الإسلاموفوبيا”؟ وإذا كان للجنة بوابات عديدة، فكيف تبدو هذه البوابات وإلى ماذا تؤدي؟ هل الجنة قفص؟ وهل أتباع هذا الإيمان سجناء؟
ومع ارتفاع معدلات الكراهية ضد المسلمين في المملكة المتحدة وأوروبا؛ يأمل المرء أن تولي مثل هذه المؤسسات اهتمامًا خاصًا لمنع سوء الفهم حول الإسلام ومحاربة القوالب النمطية التي تصور أتباعه على أنهم غير متسامحين وخطيرين.
وفي أوائل عام 2020، أقام المتحف البريطاني معرضًا بعنوان “مستوحى من الشرق: كيف أثر العالم الإسلامي على الفن الغربي؟”، ومع ذلك؛ كان من الأفضل أن يُطلق على المعرض اسم “الفن المستشرق: كيف ينظر الغرب إلى الشرق؟”؛ فبسرد دقيق، كان من الممكن أن يكون عرض أعمال بعض أشهر الفنانين المستشرقين في أوروبا – من جان ليون جيروم وأنتوني فابريس إلى لودفيج دويتش وفريدريك آرثر بريدجمان – تجربة تعليمية تهدف إلى إعادة تثقيف الجماهير وتصحيح الأكاذيب المنتشرة. لكن لم يكن هذا هو الحال، فبدلًا من ذلك؛ كان المعرض عرضًا جريئًا واحتفالًا بالخيال الأوروبي لـ”الشرق” الذي كان موجودًا فقط في أذهان الفنانين كشيء يمكن تشكيله بالشكل الذي يرونه مناسبًا.
لم يكن هناك تعليق على الضرر الاجتماعي والثقافي الذي نتج عن ذلك الاختزال – وفي كثير من الأحيان – التخيلات غير الدقيقة؛ فلقد فشل المعرض أيضًا في تسليط الضوء على أن هذه القطع الشهيرة كانت دائمًا مفتعلة بالكامل تقريبًا، وأنها أنشئت بناءً على الصور النمطية العنصرية والمهينة التي كانت تهيمن على أوروبا في ذلك الوقت.
هل كانت هذه هي الطريقة التي ينوي بها المتحف البريطاني إظهار تأثير الإسلام على الفن الغربي؟
أثبت التجول في هذا الخليط من المفاهيم القديمة عن الإسلام – التي تم إحياؤها لعرضها على جيل جديد – أنه محبط للغاية، فقد كان من الممكن أن يتضمن المعرض أعمال ويليام موريس وإدوارد بيرن جونز وآخرين من حركة الفنون والحرف اليدوية، أو حتى الرسوم التوضيحية أو اللوحات الزيتية التي تصور القوام والأنماط الغنية والخط العربي الموجود على الحرير والقماش المستورد من الشرق، وكان من الممكن أن يركز القيمون على المعرض على الفن والهندسة المعمارية، أو المصابيح الزجاجية، والسجاد وتطريز الحرير والأقمشة، أو المخطوطات المضيئة والتجليد، فقد كانت مثل هذه المجموعة ستكون على الأقل بداية محترمة في احترام تأثير الإسلام على الفن الغربي خلال الألفية الماضية.
استمر المعرض لمدة أربعة أشهر وتلقى إشادة شبه عالمية، حتى من المسلمين، لجرأته في الاعتراف “أخيرًا” بتأثير الإسلام على عالم الفن الغربي، وهو ما يجعلني أتساءل عما إذا كنا جميعًا رأينا نفس المعرض أم كانت معارض مختلفة تمامًا؟ّ!.
من النادر أن يُمنح المسلمون فرصة لعرض وتنسيق ثقافتهم وتاريخهم، ومن النادر أن توفر المتاحف الأوروبية الكبرى هذه الفرص؛ كما أن الافتقار إلى الرؤية والشجاعة والتحلي بالجرأة عندما تكون هناك الآن منصات لتنظيم وعرض التراث والهوية الإسلامية أمر مخيب للآمال بالفعل.
المصدر: تي آر تي وورلد