حرّف الحقوقيون المهيمنون على الإدارة والأجهزة ومواقع القرار السياسي قبل الثورة النقاش الفكري بعد الثورة، فتكلم الناس فيما لا ينبغي أن يكون أو صرفوا عن النقاش الضروري، فتناسوا ما كان من أمر المجتمع، ونزعم أن هذا الملف المغلق قسرًا يقتضي الفتح والمعاجلة بنقاش واسع في صلب علوم الاجتماع بعيدًا عن شغل “ترزية” القانون المحترفين في صياغة نصوص معلقة بلا قاعدة، بل لعل جزءًا من النقاش يتجه حتمًا ضد هذه الهيمنة.
ونزعم أن هذا النقاش يبدأ من نقد عميق للمسلمات التي صيغت في دولة الاستقلال وتحولت مع الوقت إلى أيديولوجيا حاكمة تستعمل كل مفردات الخطاب التمامي أو الأصولي مانعة كل مساس بها وبالتالي بطبقة المستفيدين منها، كما نزعم أن هذا النقاش التونسي صالح وضروري في بقية الأقطار العربية خاصة التي مر منها المحتل الفرنسي منذ نابليون.
قائمة المسلمات/الأوثان التونسية
يمكن وضع قائمة لهذه الأوثان المقدسة والمحروسة بعناية من جهاز إعلامي فعال صنعته منظومة الحكم منذ الاستقلال وتوارثت أجياله مواقعها وأدوارها في الحراسة الأيديولوجية.
أولها أن بورقيبة زعيم فوق النقد ومنجزاته تبقى حتمًا خارج كل نقاش، بما يضعه في موقع نبي مؤسس لدعوة دينية لا سياسي اجتهد وأصاب وأخطأ، فإذا تم الاستسلام للثابت الأول فإن بقية المسلمات (الأوثان) تتسلسل منه، ومنها دون ترتيب دقيق:
أن النقابة جهاز مقدس وميراث ثوري لا يمكن الطعن في تاريخه ولا يمكن التعرض لمسؤوليه بالنقد ولا رفض تحركات يخوضها مهما كان المطلب المرفوع، وقد رأينا كثيرًا من التحركات يخوضها رجال التعليم مثلًا دون اقتناع بمطلبها ولا توقيتها، لكن بسبب رعب كبير يسكن كل فرد من تهمة كسر إضراب، فهو عار يظل يلاحق رافض الإضراب حتى الموت.
ومنها أن المرأة التونسية حصّلت مكاسب اجتماعية وسياسية فاقت كل نظيراتها العربيات، فهي الأولى في كل شيء (التعليم والوظيفة والإبداع، إلخ) وهذا دون إسناد بأرقام مقارنة أو دراسات كيفية معمقة.
ومنها أيضًا أن المدرسة التونسية مدرسة خلاقة وخريجوها يقتحمون العالم في كل تخصص ويثبتون قدرات خارقة ويُسند هذا دومًا بخطاب إعلامي دون دليل كمي أو نوعي.
ومنها أن الإدارة التونسية إدارة فعالة ومبنية على قواعد العلم والنجاعة، لذلك فإن المجتمع التونسي يدار بحكمة ويعيش بمنجاة من التخلف العربي السائد. وهناك أوثان أخرى يطول تعدادها على المقال.
صار إيثار السلامة أمام ماكينة الدعاية الأيديولوجية مقدمًا على محاولات النقد والتجريح والاقتراح
النقابة/المرأة/المدرسة/الإدارة من منجزات الزعيم الذي لا يخطئ، لذلك لا يمكن التعرض لها بالنقد أو التقليل من نجاعتها وفعاليتها، وكل من تسول له نفسه نقد هذه الأوثان يتهم بالرجعية والتخلف ويصنف سياسيًا في “الخوانجية”، ويُدمغ بلا رحمة بمعاداة التقدم ويضاف إليه حسب الحالة تهم التخابر والخيانة الوطنية، رغم أن التيار الإسلامي (الخوانجية) وقع في نفس الوهم وردد نفس المقولات عن الأوثان البورقيبية وأعاد إنتاج نفس الخطاب تحت نفس الطرق الإعلامية جهلًا منه بما كان وخوفًا من تحمل كلفة النقد وطلب التغيير.
لقد صار إيثار السلامة أمام ماكينة الدعاية الأيديولوجية مقدمًا على محاولات النقد والتجريح والاقتراح، فتكرست الأوهام الجماعية التي كان كثيرون ينتظرون أن ترجها الثورة وتكسرها ليخرج الناس نحو مشروع جديد محكوم بإرادة جماعية لا بنبؤات شخص انتهى إلى فشل مدمر.
لو نستدعي قرامشي؟
كثيرون يستدعونه لكننا نكتشف أنهم يبررون به موقعهم المحافظ، من هم المثقفون العضويون ومنهم المثقفون المحافظون في تونس؟ لقد وجدنا أن كل من سارع إلى الحلول القانونية لمشاكل البلد بعد الثورة هو مثقف محافظ يتخذ منهج التغيير الفوقي بالنص القانوني، فينتهي عمله بتعديل الموجود دون تغييره، فينتج عن ذلك حفظ مواقع المستفيدين أو الطبقة المهيمنة، بينما انتهت كل دعوات التغير الجذري إلى الوصم بالفوضوية والطفولية وأحيانًا بالعمالة والخيانة، وأدوات الوصم هذه من صميم عمل المثقف المحافظ.
لقد كان لخطاب دعاة التغيير ووصفهم بالمثقفين العضويين بعض التأثير في سنوات الثورة الأولى، لذلك تم فرض مبدأ الميز الإيجابي في الدستور ووضع مبادئ لتفكيك المركزية السياسية عبر حكم محلي منتخب لا معين، لكنه فرض بأدوات محافظة (قانونية فوقية)، فلم يصمد أمام المحافظين الحقيقيين.
وقد تكفل الإعلاميون المحافظون (ولسخرية الأقدار ينتسبون إلى اليسار التونسي التقدمي المعادي للرجعيات الدينية المحافظة)، بترذيل فكرة الحكم المحلي وحولوا مشروع الميز الإيجابي إلى مسخرة، فعادت الطبقة المهيمنة إلى قواعدها ومكاسبها لم تخسر قطميرًا.
ونرى أن أكبر المدافعين عن مشروع إسقاط دستور 2014 (بالدعاية لمشروع الرئيس الحاليّ) هم أكثر الناس تمسكًا بالأوثان البورقيبية التي سردنا بعضها أعلاه، رغم أن المسار واضح أمامهم، فدستور الانقلاب في طريق مفتوحة لنسف المسلمات (الأوثان) وترذيل الزعيم النبي نفسه، إلا أن يكون هناك بنود سرية في مشروع الدستور الذي يخفيه الرئيس في مكتبه غيرة عليه من النقد قبل الاستفتاء عليه.
المحافظون تفطنوا إلى احتمالات التغير المحمولة بالثورة، فاستعملوا وسائل القانون فاستعادوا مكانتهم (دولتهم وزعيمهم وأوثانهم المقدسة)، التقدميون وهم ليسوا اليسار التونسي حتمًا (الشبيحة غير محسوبين في أي خريطة أرسمها) أخطأوا الوسيلة فوقعوا تحت أخطبوط المشرعين، فتاهوا عن مطالبهم بل تبنى كثير منهم أوهام الزعيم فلم يخرج من جلبابه.
سمحت الثورة بمثل هذا المقال الذي يزعم النقد وهذا نجاح، لكن لنلاحظ بدقة تدخلات المنظومة المحافظة
ولا نحتاج أن نستدرك هنا لكننا نوضح ليس لهذه الأوثان من قوة إقناع فعلية، بل إن قوتها من قوة المستفيدين من الترويج لها واستعمالها ككل خطاب أيديولوجي مغالطي يبرر به المهيمنون وجودهم ويحفظون به مصالحهم ضد كل تغيير.
هل فشلت الثورة؟
السؤال موجع لكن اللحظة تحتاج طرحه لتجد عناصر الإجابة بلا قبل نعم، لقد منع حكم بورقيبة بن علي كل احتمال تشكل وعي نقدي ضد الأوثان المزعومة، بل إن معارضيهم (عبدوا هذه الأوثان أكثر منهما وزايدوا بها عليهما) وربما لذلك لم يفلحوا في إسقاطهما، لذلك أيضا جاءت الثورة من خارج تلك المعارضات (التي لم تكن إلا صيغًا أخرى من الحكم)، ولهذا السبب لم تظهر معارضة ذات مشروع نقدي يقدم اقتراحات تغيير، بل معارضة تمسح على شعر المنظومة وتسترضيها لتجد معها مكانًا داخل نفس الأوهام المؤسسة.
حتى الآن سمحت الثورة بمثل هذا المقال الذي يزعم النقد وهذا نجاح، لكن لنلاحظ بدقة تدخلات المنظومة المحافظة (وعصاها اليسارية الرجعية فعلًا وقولًا) لقصقصة أجنحة الحرية التي هي الترياق الوحيد لعلاج جسم أمرضته عبادة أوثان مزيفة.
سنقول إن الثورة ناجحة ما دمنا نملك حق الكتابة ضد المنظومة ونعمل على هدم أوثان البورقيبية التي كان صاحبها أول الكافرين بها، فهو الوحيد منذ وضع مجلة الأحوال الشخصية الذي طلق زوجته خارج المحكمة، نسيت أن أقول إن زوجته الماجدة عنوان تميز المرأة التونسية التقدمية كانت تتجسس عليه من غرفة نومه لصالح نظام القذافي، وقد أثبت مؤرخو الأوهام ذلك بعد زوال الخطر.