يحملني نقاش منع المحكمة الأمريكية العليا للإجهاض على التفكير في مسألة تعاني منها كل النساء حول العالم، وهي “الحبة”، كبسولة منع الحمل التي لها استخدامات علاجية أخرى تكاد لا تنتهي، فهي تذكّرني باستمرار في كيف يتمّ التساهُل مع آلام النساء ومشاكلهن الصحية، وعدم إعطاء البحوث الطبية المتعلقة بجسد المرأة القدر الكافي من الاهتمام العلمي والتطوير العلاجي.
في خمسينيات القرن الماضي بدأَت ما يطيب لي تسميتها بـ”الفضيحة الطبّية” المستمرة حتى يومنا هذا، باكتشاف بعض الأطباء لدواء مطوَّر عن عشبة السيلفيوم الطبيعية، التي استخدمتها النساء لقرون طويلة لمنع الحمل عبر غليها بالماء وشربه، وهي العشبة الملهمة لهذا الابتكار، إلا أنها على عكسه لا تترك آثارًا جانبية من الممكن أن تحوّل حياة المريضة إلى جحيم أو أن تتسبّب في قتلها.
في عام 1957 أصبح أول منتج لحبوب منع الحمل متاحًا في الأسواق، وهو عبارة عن جرعة يومية من هرمونَي الإستروجين والبروجسترون الاصطناعيَّين، وبيع المنتج في الولايات المتحدة الأمريكية على أنه حبوب منع حمل باسم Enovid، وفي بريطانيا بنفس الاسم “Enavid” لكن لعلاج شيء آخر، وهو مشكلات الدورة الشهرية.
ورغم الإيجابيات العديدة التي انعكست على حياة النساء اللواتي استخدمن هذا العقار، بدايةً من تمتعهن بمؤشر أعلى لكتلة الجسم نتيجة تأجيل الحمل والعيش حتى سن متقدمة بنسبة 20%، وحصولهن على سنوات أكثر من التعليم وتحقيق دخل مادي أعلى، إلا أن هذه الإيجابيات سرعان ما غطّت عليها مساوئ هذا العقار وبدأن بدفع الثمن.
بدأت حبوب منع الحمل الهرمونية بالتسبّب في حالات صداع وغثيان، وزادت من احتباس الماء في الجسم الذي أدّى إلى كسب الكثير من الوزن الزائد وبالتالي مشاكل بدانة وما ينتج عنها، كما لعبت دورًا في تنظيم المشاعر وردّات الفعل، إلى جانب حقيقة أن الإستروجين زاد من احتمالات تجلُّط الدم الذي من شأنه أن يتسبّب في الموت، وهو بطبيعة الحال أسوأ “آثاره الجانبية”، ليتبيّن لاحقًا أن هذا العقار يحتوي على 10 أضعاف كمية الهرمونات المطلوبة لتكون فعّالة، ومع ذلك لم يتمَّ سحبه من السوق أو فتح تحقيق حول كيفية نشر عقار خطير بهذا القدر دون إجراء الاختبارات اللازمة عليه.
بعد أكثر من 10 سنوات، والعديد من التركيبات الجديدة، وتناوُل ملايين النساء حول العالم لهذا العقار، وبعد أن قامت الصحفية الأمريكية باربرا سيمان بتأليف كتاب عنوانه “دعوى الأطباء ضدّ الحبّة” يروي قصصًا عن تأثير هذا العقار على حياة آلاف النساء، وكيف أنه تسبّب في موت المئات منهنّ؛ دعا الكونغرس الأمريكي لعقد جلسة لمناقشة الأمر، ما أدّى إلى تقليل جرعات العقار من 10 مليغرامات إلى 4.05 مليغرامات أو أقل، بالتوازي مع ظهور عشرات العقارات الدوائية بأسماء مختلفة تحمل التركيب ذاته تقريبًا.
وقد حقق هذا التقليل من ظهور العديد من الآثار الجانبية مثل الصداع والغثيان وزيادة الوزن، وبفضل تطوير أشكال جديدة مصنّعة من البروجسترون، تمكّنا من الحصول على حبوب تقلِّل من التشنجات والآلام المصاحبة للدورة الشهرية، ومع ذلك لم تنتهِ أخطر “الآثار الجانبية”، مثل السكتات القلبية والتجلط الدموي وارتفاع ضغط الدم.
في عام 2000، ونتيجةً لعدم إجراء الاختبارات اللازمة قبل طرح المنتج في السوق، وأيضًا نتيجةً للدعاية المهولة التي استطاعت الترويج للمنتَج بذكاء، انتشرَ عقار Yaz الذي تمَّ تقديمه على أنه الحل السحري الذي لا يمنع الحمل فقط، بل يوقف آلام الدورة الشهرية ويقضي على التشنجات والصداع ويجعل البشرة نقية، ليتّضح أن له آثارًا جانبية تسبّبت في جلطات دموية وفشل في الأعضاء الحيوية وسكتة دماغية للعديد من النساء، ورغم وجود 10 آلاف قضية (استمرت المداولات فيها حتى عام 2015) ضدّ الشركة المصنّعة، باير، إلا أنها -القضايا- لم تؤدِّ ولا حتى إلى سحب المنتج من السوق حتى يومنا هذا.
من الممكن الآن المجادلة بشأن وجود أساليب منع حمل أخرى غير هرمونية، لكن لا يمكننا أن ننسى أن الأدوية الهرمونية هي الأقل تكلفةً من بين كل الوسائل الأخرى المتوفرة، بل الأسهل استخدامًا حتى الآن، حيث لا تتطلب تدخلًا جراحيًّا على سبيل المثال.
معظم النساء حول العالم يرين أن حملهن بشكل غير مخطَّط له يحمل تبعات سلبية على حياتهن، وهكذا يصبح اختيار حبوب منع الحمل أسهل بالطبع، ولهذا في الولايات المتحدة الأمريكية، مثلًا، أكثر من ثلثَي النساء المرتبطات يستخدمن وسائل منع الحمل، و68% في السلفادور و58% في كينيا و80% في الصين، هذا كله دون أن نتحدث عن نِسَب استخدام هذا النوع من العقار لمعالجة الأمراض النسائية وعدم انتظام الدورة الشهرية.
إذ إن استخدام هذه الحبوب لا يكون لمنع الحمل فقط، بل هو العقار الوحيد المتاح لعلاج مرض تكيُّس المبايض الذي أيضًا لا يُعرف سببه حتى اليوم، وهو أيضًا العلاج الوحيد لمشكلة عدم انتظام الدورة الشهرية، إذ إنه دون دورة حيض منتظمة لا يمكن للنساء أن يحملن، لذا يتعيّن على المرأة التي تعاني في الأصل من عدم انتظام في الدورة الشهرية، أن تواجه بل تعيش مع آثار جانبية من الممكن أن تؤدّي إلى الموت حتى تستطيع تنظيم دورتها ومن ثم الحمل.
إذًا من الواضح أننا عالقون في دوامة مستمرة من إنتاج هذه الفضيحة، تبدأ بحاجة النساء لتناول هذه الحبّة لزهد ثمنها وسهولة الوصول إليها وأيضًا عدم وجود بديل آخر بالخصائص نفسها، وتنتهي باستمرار الشركات في تصنيعها وإنتاجها بسبب الطلب العالي عليها، دون أن تكلّف نفسها -فيما يبدو- عناء تطويرها وتجريدها من آثارها السلبية الخطيرة، ما يعني أننا أمام مشكلة طبية – اقتصادية تتطلب حلًّا مشتركًا.
ولأنني لا أتوقع تحقق هذا الحلّ قريبًا، فإنني أدعو كل النساء أن يبحثن جيدًا وأن يطالبن في كل مرة يزرن فيها الطبيب المختص بالكشف عن الآثار الجانبية للعقار وما يترتّب عنه من مآلات صحية محتملة على أجسادهن ومشاعرهن، واقتراح بدائل للعقار، وتوعيتهن بوسائل منح الحمل الطبيعية، ريثما تنفكّ العقدة الربحية الجشعة لدى شركات صناعة الدواء العالمية، ورسم سياسات صحية أكثر عناية وعدالة بصحة المرأة وأمراض جسدها.
وأيضًا أن يبيّن كل طبيب مختص لمريضته المخاطر المترتّبة على تناول هذا النوع من الأدوية، حتى تستطيع هي أن تقرر ما إن كانت مستعدة لتحملها أم لا، لأن الاطّلاع على مدى سوء هذه الأدوية هو الخطوة الأولى نحو رفضها والمطالبة ببديل لها، ما قد يسفر في نهاية المطاف عن سياسات صحية أكثر عدلًا.