لا تزال الأرتال العسكرية التركية تتحشد داخل الأراضي السورية في إطار التجهيزات لبدء عملية عسكرية محتمَلة ضد القوات الكردية، وذلك لإبعادها عن الشريط الحدودي وتأمين حدودها من عملياتها، ويتزامن ذلك مع حراك سياسي يقوم به المسؤولون الأتراك لتهيئة الأجواء المناسبة لانطلاق عمليتهم العسكرية، التي قال عنها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان: “ستنفَّذ عندما يحين الوقت المناسب”.
وقد أوضح أردوغان غير مرة عن أهداف التحرك العسكري الحالي داخل سوريا بأنه استكمال لمشروع المنطقة الآمنة الذي اقترحته تركيا منذ سنوات، وقد صرّح الرئيس التركي مؤخرًا عن أن “ليس هناك داعٍ للاستعجال، نحن نعمل بالفعل في تلك المنطقة في الوقت الحالي وقواتنا تعمل حاليًّا في شمالي العراق، وفي عفرين شمالي سوريا، والعملية الجديدة ستجري حينما يحين الوقت المناسب”.
وفي تصريح لافت للرئيس التركي عن مدى اتّساع رقعة العملية، قال أردوغان: “نعمل على شنّ عملية ستكون أكبر من العمليات التي قمنا بها بشكل تدريجي، وسننفّذها في الوقت المناسب”، لكن لم يحدد إلى الآن موعد رسمي لساعة الصفر التي سيتمّ فيها إطلاق رصاصة المعركة الأولى، إلا أن صحيفة “حرييت” التركية قالت إن فترة ما بعد عيد الأضحى المقبل هي موعد انطلاقة العملية العسكرية التركية الجديدة في سوريا.
ميدانيًّا
صحيح أن المعركة لم تبدأ بعد، إلا أن التمهيد العسكري والوقائع الجارية على الأرض يشيان بأن تغييرًا قادمًا على الخرائط سيحصل، حيث استقدمت أنقرة أرتالًا من قوات جيشها وعززت بها قواعدها المتواجدة في منطقة أخترين بريف حلب الشمالي، وتضمّ التعزيزات معدّات عسكرية وذخائر، وهي استكمال للأرتال التي بدأت تركيا بإرسالها إلى المنطقة منذ أعلن الرئيس أردوغان عن عزم بلاده إقامة العملية العسكرية لاستكمال المنطقة الآمنة في سوريا.
بالتزامن مع التعزيزات، استهدف الطيران التركي المسيَّر مواقع لقوات سوريا الديمقراطية “قسد” بمدينة تل رفعت شمالي حلب، إضافة إلى استهداف مقرّ من مقرّات قوات النظام السوري في المنطقة ذاتها أدّت إلى سقوط جرحى، في عملية اعتبرها محلّلون سوريون أنها تحذير من أنقرة لقوات النظام السوري المتواجدة ومطالبتها بالانسحاب.
وهنا يقول الباحث السوري عبد الوهاب عاصي في تغريدة له بهذا الخصوص: “وجّهت تركيا اليوم رسالة تحذير لقوات النظام السوري في منطقة تل رفعت شمال حلب، عبر قصف موقع عسكري تابع لها بطائرة مسيَّرة. بذلك، ستكون مواقع قوات النظام تحت مرمى النيران حال استمرارها بتوفير التغطية والدعم لقوات تحرير عفرين -التابعة لـ PKK مباشرة- بمنطقة تل رفعت”.
وجّهت تركيا اليوم، رسالة تحذير لقوّات النظام السوري في منطقة تل رفعت شمال حلب؛ عبر قصف موقع عسكري تابع لها بطائرة مسيّرة.
بذلك، ستكون مواقع قوّات النظام تحت مرمى النيران حال استمرارها بتوفير التغطية والدعم لقوّات تحرير عفرين -التابعة لـ PKK مباشرة- بمنطقة تل رفعت.
— عبد الوهاب عاصي | Asi (@abdulwahhabAssi) July 3, 2022
الجدير بالذكر أن قوات النظام السوري تتمركز في المنطقة إلى جانب الوحدات الكردية في مدينة تل رفعت، وكان هذا التواجد إلى جانب القوات الروسية قبل أن تنسحب الأخيرة منذ فترة غير بعيدة، كما أن النظام يعزز مواقع يتواجد فيها في مناطق منبج وعين عرب وعين عيسى، وكان رئيس النظام السوري، بشار الأسد، قد ألمح خلال لقاء صحفي إلى إمكانية مواجهة جيشه لتركيا في حال حصول مواجهة عسكرية.
وفي السياق ذاته، بدأت قوات الجيش الوطني السوري بالتحرك ميدانيًّا لتعزيز مواقعها على خطوط التماسّ مع القوات الكردية، حيث أرسلت قوات المعارضة تعزيزات عسكرية إلى تخوم مدينة تل رفعت لتنفيذ مناورات مكثَّفة قبيل عملية عسكرية تركية محتملة في المنطقة، وتضمّنت أرتال المعارضة مدرّعات وقاذفات صواريخ.
وفي إطار التحركات العسكرية في المنطقة، ذكرت وسائل إعلام روسية أن الجيش الروسي استقدمَ المزيد من الجنود إلى مدينة القامشلي، ومن بين الجنود الـ 300 الذين أرسلتهم موسكو يوجد مظليون، وبحسب وسائل الإعلام فإن روسيا أرسلت خلال أسبوعين مئات الجنود إلى هذه المنطقة.
التحركات السياسية
إلى جانب التحركات العسكرية تبرز التصريحات السياسية من الدول المنخرطة في سوريا ردًّا على عزم تركيا إطلاق عمليتها العسكرية في سوريا، حيث أعلنت إيران معارضة العملية التركية، معتبرة أن “استخدام الحلّ العسكري لتسوية الخلافات يُعتبر انتهاكًا لوحدة الدول وسيادتها الوطنية”، إلا أن وزير الخارجية، أمير حسين عبد اللهيان، غيّر من نبرة بلاده تجاه تركيا، حيث قال إن طهران “تتفهّم مخاوف تركيا الأمنية والحاجة إلى معالجتها بشكل دائم وكامل”، وذلك في إطار زيارته لتركيا أواخر الشهر الفائت.
وبحسب تقرير لـ”مركز جسور“، فإن رفض طهران للعملية التركية يرتبط بعدد من العوامل، أبرزها “تراجُع التنسيق الثنائي في سورية والعراق، وتهديد نفوذ ومصالح إيران شمال سورية، بما في ذلك تغيُّر خارطة السيطرة لصالح المعارضة على حساب النظام، إضافة إلى المخاوف من أي زيادة للتنسيق الأمني بين تركيا و”إسرائيل” بما يشمل الملف السوري”.
ووفقًا للمركز، فإنه بالتزامن مع عوامل الرفض يوجد ما قد يدعو طهران إلى تغيير موقفها الرافض للعملية العسكرية، “كالحصول على ضمانات من تركيا بعدم التعرُّض لمصالحها شمال حلب، وضمان عدم التزام أنقرة بالعقوبات الغربية المفروضة عليها، وتقديم الدبلوماسية على أي سُبل أخرى لحلّ الخلافات الثنائية حول سورية وغيرها”.
أما بالنسبة إلى الفاعل الأقوى، فقد أعلنت روسيا معارضة أي عملية عسكرية جديدة تغيِّر خارطة السيطرة على حساب نظام الأسد، وفي تقرير “مركز جسور”: “يمكن فهم موقف روسيا المتحفّظ إزاء العملية التركية من حرصها على عدم خسارة دورها كوسيط موثوق أمام “قسد”، خاصة أن مثل هذه الخطوة قد تقوّض جهودها الرامية لإبعاد الأخيرة عن الولايات المتحدة، واستمالة الأكراد عمومًا لإجراء تسوية مع النظام”.
بالإضافة إلى أنه “من غير المتوقع أن تفرّط روسيا بموقفها لصالح تركيا بسهولة، في ظلّ التوتر غير المسبوق بين موسكو والناتو، وما لم تحصل على مقابل في قضايا أخرى سواء كانت تتعلّق بسورية أو أوكرانيا”.
لماذا قد تكون العملية الأكبر؟
سألنا الكاتب والباحث السياسي السوري أسامة أبو زيد عمّا يقصده الرئيس التركي بقوله إنّ العملية المزمعة ستكون الأكبر، ويحلل لنا أبو زيد الأمر بشكل تفصيلي عبر الرجوع إلى شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2019، وهو موعد انطلاق عمليات نبع السلام التي قام بها الجيش التركي وسيطر فيها على مدينتَي تل أبيض ورأس العين.
وهنا يشير أبو زيد إلى أن تلك العملية جرت وسط تفاهم روسي تركي، إلى جانب اتفاق بين الرئيسَين الأمريكي دونالد ترامب والتركي رجب طيب أردوغان.
ويرى أبو زيد أنه رغم “ردة الفعل الدولية ضد تركيا والعقوبات التي فُرضت عليها من بعض دول العالم، إلا أن العملية تمّت ولو أنها لم تحقِّق كل الأهداف العسكرية التي طمحت لها تركيا”.
وعن الظروف السياسية والوقائع التي تحيط بالعملية العسكرية المحتمَل حصولها قريبًا، يلفت أبو زيد إلى أن أنقرة حاليًّا في وضع سيسمح لها بالتحرك براحة أكبر، ويقول إن “الظرف الدولي بالنسبة إلى تركيا أفضل بكثير حاليًّا ممّا كان عليه في العمليات العسكرية السابقة”، ويشير إلى أن هذه الظروف تتمثل بالتطورات التي أفرزتها الحرب الروسية الأوكرانية، إضافة إلى الموقع الذي أخذته تركيا بين الطرفَين.
إضافة إلى الوقائع السابقة، يبرز الانتصار التركي الذي حقّقه أردوغان في قمة الناتو عبر فرض شروطه على فنلندا والسويد للسماح لهما بدخول حلف شمال الأطلسي بعد عقد اتفاق مع الدولتَين، كما تحدّث أبو زيد عن أهمية الوساطة التركية لموضوع الحبوب الذي باتت يشكّل أزمة عالمية، ويرى أنه “إذا استطاعت تركيا التأسيس لمركز إسطنبول الذي سيعمل على الإشراف على نقل الحبوب الأوكرانية لدول العالم، فسيكون هذا تعزيزًا لقوتها العالمية أيضًا”، كل ذلك يوضّح أن وضع تركيا الدولي اليوم أفضل بكثير من ظروفها وقت عملية نبع السلام، وفقًا للمتحدّث.
يكمل أبو زيد حديثه عن الظروف التي تساعد تركيا في شنّ عمليتها في سوريا، حيث يقول: “نجحت أنقرة في تفكيك مخطط استخباراتي إيراني في إسطنبول، وعلى إثره اعتقلت خلية استخباراتية إيرانية، بعد ذلك قدم وزير خارجية “إسرائيل” إلى تركيا لشكرها على جهودها والتنسيق الأكبر معها، وتبع ذلك زيارة وزير الخارجية الإيراني إلى تركيا وتصريحه بأن بلاده تتفهّم التحركات التركية لحماية أمنها على حدودها”.
كل ما سبق يشرح الظرف الدولي الجيد الذي تمرُّ به تركيا بالمقارنة مع ما كان عليه في عمليتَي نبع السلام وغصن الزيتون، وكلا العمليتَين لم تكن تركيا في هذه الأريحية.
أهداف العملية
إذًا – والكلام لـ”أبو زيد” – اليوم ومع هذه الأريحية التي تتواجد في الطرف التركي، تستطيع تركيا شنّ عملية عسكرية من أجل تحقيق هدفَين أساسيَّين، وفي حال تحقيقهما ستكون هذه العملية فعلًا هي الأكبر عسكريًّا واستراتيجيًّا.
الهدف الأول: يتمثّل بالسيطرة على منبج وعين العرب، وتحقيق هذا الهدف تستفيد منه تركيا على عدة أصعدة، أولها ستنجح تركيا بربط مناطق عمليات نبع السلام، وهي مدن تل أبيض ورأس العين بمنطقة درع الفرات، وهذا الأمر يسهّل الحركة الاقتصادية والتنموية في المنطقة بشكل كبير، حيث تتركز المحاصيل الزراعية والمواشي في مناطق نبع السلام، ونقلها إلى مناطق درع الفرات وغصن الزيتون حاليًّا يستدعي تمريرها عبر الأراضي التركية، ما يشكّل عائقًا أمام الحركة والتكاليف، بينما الربط بين هذه المناطق سيفيد بتوسيع الرقعة الجغرافية والبدء بحركة تجارية ممتازة، وأيضًا سيتمّ السيطرة على موارد مائية يمكن أن تحلَّ مشكلة المياه والطاقة في بعض المدن.
عدا عن كل ذلك، ستصبح تركيا والجيش الوطني السوري مرة أخرى على مشارف مدينة حلب من الجهة الشرقية، وهذا يعني أن القوات هذه قد وضعت حلب بين فكَّي كماشة، وتكون تركيا سيطرت على الشريط الحدودي بينها وبين سوريا من جهة محافظة حلب، ومعظم الشريط الحدودي من جهة ريف الرقة وريف الحسكة، ويتبقّى فقط الحدود في منطقة القامشلي والدرباسية، وهنا تكون تركيا قضت على تواجد قوات سوريا الديمقراطية من معظم شريطها الحدودي مع سوريا.
الهدف الثاني: هو السيطرة على القرى العربية غربي الفرات التي تحتلها “قسد”، وهي على سبيل المثال لا الحصر تل رفعت ومرعناز ودير جمال وحربل وأم حوش، وكلها تقع جنوب منطقة عفرين وشمال مدينتَي نبّل والزهراء الشيعيتَين اللتين يسيطر عليهما النظام، وهذه القرى تمثّل الوجود الأخير لـ”قسد” غرب الفرات، والسيطرة على هذه المناطق والقضاء على الوحدات الكردية يعني أن هذا التنظيم لم يعد له وجود غرب نهر الفرات إلا في منطقة وحيدة، وهي منطقة الشيخ مقصود المتواجدة داخل سيطرة قوات النظام بمدينة حلب.
والنقطة الأهم من هذا الهدف هو أن عددًا كبيرًا من أهل هذه المناطق المهجّرين والنازحين المتواجدين في الخيام سيعودون إليها، وهو أمر مهم جدًّا لتركيا في مسألة تنمية المنطقة وتحضيرها لمرحلة يمكن من خلالها تنفيذ جزء من الخطة التركية لإعادة مليون لاجئ من تركيا إلى الأراضي سوريا.
ختامًا.. “في حال تحقيق تركيا للأهداف آنفة الذكر، ستكون عمليتها هي الأكبر والأضخم من كل عملياتها السابقة، سواء على المستوى الاستراتيجي أو العسكري، لأن تحقيق الهدفَين يحتاج إلى دعم عسكري كبير جدًّا على الصعيد البشري والمعدّات، إضافة إلى أن السيطرة على هذه الأهداف يعزز موقع تركيا داخل سوريا من حيث تطويق مدينة حلب من جهات متعددة، وسيضع تركيا وقوات المعارضة على تماسّ مباشر مع قوات النظام من جهة نبّل والزهراء، وهذا من أهم النتائح بالنسبة إلى تركيا والجيش الوطني في حال تمَّ تحقيق الأهداف”، يقول أسامة أبو زيد.