أكّد الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، على ضرورة التمسك بمبادرة لمّ الشمل التي كانت محور مشاورات يجريها في الأشهر الأخيرة مع الفاعلين السياسيين، والتي يرجى منها أن تنهي الانقسامات والأزمات في البلاد، خصوصًا أن أحزابًا محسوبة على المعارضة قد شاركت في اللقاءات التي نظّمتها الرئاسة الجزائرية.
ورغم استكمال إعادة بناء مؤسسات الدولة عبر الانتخابات بعد حراك 22 فبراير/ شباط 2019، إلا أن المتابعين يؤكّدون أن الساحة السياسية الجزائرية لا تزال تحتاج إلى مزيد من الثقة والتوافق لإنهاء الخلاف الموجود بين السلطة وأحزاب تُحسب على المعارضة.
رصّ الصفوف
شدد الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، في افتتاحية مجلة “الجيش” التابعة لوزارة الدفاع في عددها لشهر يوليو/ تموز، على التشبُّث بمبادرة لمّ الشمل التي تحدثت عنها وسائل الإعلام الرسمية ومسؤولون كبار في الدولة.
وقال تبون في مقاله الذي تزامن مع احتفالات الذكرى الـ 60 لاستقلال الجزائر الموافقة لـ 5 يوليو/ تموز 1962: “في هذه الذكرى المجيدة التي نستحضر فيها بطولات أسلافنا ونحيي ذكرى مقاومات ملعبنا وانتصاراته، أدعو الشعب الجزائري في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخنا إلى لمّ الشمل ورصّ الصفوف وتوحيد الجبهة الداخلية”.
وبيّنَ أن لمّ الشمل يهدف إلى “كسب معركة التجديد التي نخوضها لكسب الرهانات وتحقيق تطلعاتنا المنشودة في جزائر قوية شامخة وآمنة مثلما أرادها شهداؤنا الأبرار”، مضيفًا أن “الشعب الجزائري، ومثلما تمكّن بالأمس من دحر أعتى قوة استعمارية (الاحتلال الفرنسي) واستعادة السيادة الوطنية، قادر اليوم على مواجهة كل التحديات وتجسيد الجزائر الجديدة على أرض الواقع”.
ولم يسمِّ الرئيس تبون دعوته للمّ الشمل بـ”المبادرة”، لكن وسائل الإعلام الجزائرية تحدّثت منذ مدة عن مبادرة لمّ الشمل التي يسعى الرئيس تبون لإطلاقها، والتي بموجبها استقبلَ عدة أحزاب موالية ومعارضة، إضافة إلى بحثه الأمر مع تنظيمات جمعوية ونقابية واقتصادية.
وبدأ الحديث عن مبادرة لمّ الشمل في 3 مايو/ أيار الماضي، لمّا نشرت وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية برقية تحدثت فيها عمّا يمكن اعتباره شروط الاستفادة من “اليد الممدودة”، في إطار سياسة “لمّ شمل الأشخاص والأطراف التي لم تكن تتفق في الماضي”، كما قالت إن “الرئيس تبون هو رئيس جامع للشمل، ويده ممدودة للجميع، باستثناء المكابرين ومن أداروا ظهورهم لوطنهم أو من تجاوزوا الخطوط الحمراء”.
وجاء في البرقية ذاتها أن “أولئك الذين لم ينخرطوا في المسعى أو الذين يشعرون بالتهميش، أن الجزائر الجديدة تفتح لهم ذراعيها من أجل صفحة جديدة”، مضيفة أن “كلمة إقصاء لا وجود لها في قاموس رئيس الجمهورية الذي يسخّر كل حكمته للمّ شمل الأشخاص والأطراف التي لم تكن تتفق في الماضي”.
وتحدّث تبون في لقائه مع الجالية الجزائرية أثناء زيارته إلى تركيا منتصف مايو/ أيار الماضي عن “ضرورة تكوين جبهة داخلية متماسكة”، وقال إنه “سيعقد لقاءً شاملًا مع قادة الأحزاب السياسية في غضون الأسبوعَين أو الثلاثة المقبلة”، وهو ما لم يحدث حتى اليوم، والذي قد يكون مبرَّرًا بسبب أجندة الرئيس في الفترة الأخيرة المتعلقة بزيارته إلى إيطاليا، وانشغال البلاد بعدها بتنظيم الألعاب المتوسطية وتحضيرات احتفالية ستينية استقلال البلاد، لذلك يرجَّح أن يكون الصيف الجاري أحسن توقيت لهذا اللقاء بالنظر إلى أنه يتزامن مع فترة العطلة الرسمية، والتي ستخفف أجندة عمل الرئيس وحكومته.
عدة أطراف
ورغم أن الرئيس تبون لم يكشف حتى الآن التفاصيل الكاملة لمبادرته، إلا أنها تلقى حتى اليوم على الأقل من حيث المبدأ دعم وموافقة عدة أطراف فاعلة في رسم الفعل السياسي في البلاد، بدءًا بالمؤسسة العسكرية التي تظل دومًا اللاعب الأساسي في صناعة القرار السياسي في الجزائر.
وقال قائد أركان الجيش الجزائري، السعيد شنقريحة، الذي رُقّي هذا الأسبوع إلى رتبة فريق أول من قبل الرئيس تبون في وقت سابق: “أشد على أيدي كافة أبناء الوطن للانخراط بقوة في هذه المبادرة الصادقة.. وهي مستلهمة من قيم أمتنا العريقة ومبادئ ثورتنا الخالدة (الثورة التحريرية ضد الاستعمار الفرنسي 1954-1962)”.
واعتبر شنقريحة أن مبادرة الرئيس تبون لتمتين عُرى اللحمة الوطنية وتقوية الجبهة الداخلية، وهي “مبادرة تنمّ بحق عن الإرادة السياسية الصادقة من أجل لمّ الشمل واستجماع القوى الوطنية، لا سيما في ظل الظروف الدولية الراهنة”، وأضاف أن “الجزائر الجديدة يشارك في بنائها كل أبنائها المخلصين”.
ويتّضح من كلام قائد الجيش أن المبادرة تتضمّن جوانب أمنية وسياسية، لذلك تميل أغلب ترجيحات الصحافة الجزائرية إلى أن تفتح المبادرة بابًا للعفو عن المعتقلين السياسيين في التسعينيات أو بعض الأطراف الموجودة في الخارج التي تنتقد النظام السياسي.
تتّجه كل التوقعات إلى أن الرئيس تبون يريد من خلال هذا المشروع طيّ صفحة “العشرية السوداء” التي عاشتها الجزائر في تسعينيات القرن الماضي
وأيّدت جميع أحزاب الموالاة مبادرة لمّ الشمل، وأعلن حزب جبهة التحرير الوطني، الذي يحوز على أكبر عدد من المقاعد على مستوى البرلمان، دعمه هذا المشروع، وجاء ذلك على لسان أمينه العام، أبو الفضل بعجي، الذي قال إن “أحسن ما يقدَّم للشهداء كهدية عشية إحياء ستينية استرجاع السيادة الوطنية، هو توحيد وتمتين الجبهة الداخلية“.
وشارك في مشاورات الرئيس تبون أقدم حزب معارض في الجزائر المتمثل في جبهة القوى الاشتراكية، الذي أشار السكرتير الأول له، يوسف أوشيش، إلى أن اللقاء الذي جمعهم بتبون كان “صريحًا ومسؤولًا”.
وقال أوشيش: “طلبنا من الرئيس تبون تقديم شروحات أكبر حول مبادرة لمّ الشمل وإبداء إشارات حسنة حولها”، مبيّنًا أن “من المطالب التي رفعها الحزب قضية إطلاق سراح الناشطين، وهذه شروط مسبقة بالنسبة لنا لنجاح أي مبادرة سياسية في البلاد، لأنها بمثابة إجراءات مسبقة”، وفق ما ذكرت صحيفة “الشروق” الجزائرية.
وتلقى هذه المبادرة أيضًا دعم الأحزاب الإسلامية، وفي مقدمتها حركة مجتمع السلم التي صرح رئيس كتلتها البرلمانية، أحمد صادوق، لوكالة “الأناضول” أن حزبه “يدعم كل مبادرة تجمع الجزائريين حول رؤية سديدة في أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية”.
وسيسمح الدعم المسبق الذي يلقاه تبون من الجيش والمعارضة والموالاة في المضيّ قدمًا لكشف تفاصيل مشروع مبادرة لمّ الشمل، خاصة أنها قد تتطابق مع مشاريع سابقة للمعارضة كمشروع التوافق الوطني الذي دعت إليه حركة مجتمع السلم، أو “الإجماع الوطني” الذي تنادي به جبهة القوى الاشتراكي.
عفو
وقبل الكشف عن تفاصيل المبادرة، تتّجه كل التوقعات إلى أن الرئيس تبون يريد من خلال هذا المشروع طيّ صفحة “العشرية السوداء” التي عاشتها الجزائر في تسعينيات القرن الماضي، لما شهدت سنوات عنف تسبّبت في ما يُسمّى اليوم بـ”المأساة الوطنية” التي ذهب ضحيتها 200 ألف جزائري.
ويعزز هذا الرأي ما جاء في بيان للرئاسة الجزائرية الاثنين الماضي، الذي تضمّن الحديث عن قرارات عفو رئاسي شملت “تدابير تهدئة لفائدة الشباب المتابَعين جزائيًّا، والمتواجدين رهن الحبس، لارتكابهم وقائع التجمهر وما ارتبط بها من أفعال”، وهو العفو الذي يشمل معتقلي الرأي المشاركين في احتجاجات ضد المسار الذي اتخذته السلطة لمعالجة مطالب حراك 22 فبراير/ شباط 2019.
وجاء في بيان الرئاسة أيضًا أنه “وفي سياق التدابير التي يتخذها الرئيس تبون، من خلال المشاورات مع ممثلي الأحزاب السياسية والمجتمع المدني، يجري حاليًّا إعداد قانون خاص لفائدة المحكوم عليهم نهائيًّا، وهذا امتداد لقانونَي الرحمة والوئام المدنيَّين”.
إن أقدم تبون حقًّا على الإفراج عن السجناء السياسيين، فسيكون قد خطى خطوة لافتة في إنهاء ملف العشرية السوداء
ومكّن قانونا الرحم والوئام المدنيان، وبعدهما ميثاق السلم والمصالحة الوطنية، من عفو الدولة عبر استفتاء شعبي ومراسيم رئاسية على الإرهابيين الذين رفعوا السلاح ضد المجتمع والدولة خلال العشرية السوداء، وذلك بإعادة احتضانهم من جديد داخل المجتمع مقابل تخليهم عن الأعمال المسلحة والمتطرفة، ما ساهم بشكل كبير في تحسُّن الوضع الأمني في البلاد، ما جعلها تصنَّف من قبل عدة تقارير مختصة ودول أجنبية ضمن “الدول الآمنة” في الشمال الأفريقي.
وينتظر أن يسفر القانون الجديد المنتظر، الذي سيندرج ضمن مبادرة لمّ الشمل، عن الإفراج عن السجناء السياسيين، ويُطلق هذا المصطلح في الجزائر على سجناء التسعينيات الذين اُعتقلوا بعد توقيف المسار الانتخابي، والذين يقدَّر عددهم بـ 160 سجينًا بين مدنيين وعسكريين، وفق تقديرات حقوقية.
وإن أقدم تبون حقًّا على الإفراج عن السجناء السياسيين، فسيكون قد خطى خطوة لافتة في إنهاء ملف العشرية السوداء، والذي سيمحو به نقطة سوداء تظلّ محل انتقاد تجاه عمل السلطة في المجال الحقوقي والسياسي.