ترجمة وتحرير: نون بوست
في كتابه “ناصر في المخيلة المصرية” كشف المؤلف عمر خليفة كيف أصبح الرئيس السابق جمال عبد الناصر مرآة تعكس أحلام العرب وتطلعاتهم وهزائمهم وإحباطاتهم.
بعد أكثر من 50 سنة على وفاته، لا يزال جمال عبد الناصر حيًا في المخيلة المصرية. يستشهد الكثير من المحللين بشخصيته على نطاق واسع ويناقشون إرثه ويرفعون صوره وينشرون خطاباته. ومن بين جميع القادة العرب في القرن الماضي، كان لقلة منهم تأثير مستمر امتد إلى دول عربية أخرى مثل عبد الناصر. ولا تزال مواقفه من بعض القضايا متميزة ومتفردة، ولا يزال تأثيره ملموسا حتى يومنا ليتنقل من التاريخ إلى الذاكرة ومن محاضرات علماء السياسة إلى الأعمال الأدبية والفنية ومن الواقع إلى المجاز.
سواء تم تمجيده أو شيطنته أو تعظيمه أو إهانته أو الإشادة به باعتباره رمزا للحرية ومناهضة الاستعمار والعدالة الاجتماعية أو تشويه صورته باعتباره دكتاتورًا ظالما يسعى لفرض نفوذه وتأثيره ونشر نموذجه نظامه الاستبدادي بين العرب، لا يمكن إنكار حقيقة كون عبد الناصر شخصية مثيرةً للجدل والانقسام حيث تمكن من تجاوز النتائج المباشرة لحكمه ليغوص بعمق في نفسية أجيال من المصريين والعرب ليصبح مرآة تعكس أحلامهم وتطلعاتهم وهزائمهم وخيباتهم.
في محاولته لتحليل الأيديولوجيا الناصرية، يخلص المؤرخ المصري شريف يونس إلى أن منتقدي عبد الناصر وكذلك المدافعين عنه يشهدون على الوجود والحضور المستمر للرئيس في الحياة المصرية. بالنسبة ليونس، يعد عبد الناصر التجسيد المطلق لمفهوم “المنقذ” والحلم المتجذّر في المخيلة المصرية. وفي هذا السياق، يتساءل يونس “لماذا لا يستطيع حتى أولئك الذين يدركون زيف هذا المفهوم أن “يتركوا عبد الناصر يرتاح في قبره ويتجاوزونه؟”.
تستند حجته إلى أن المصريين لم يجدوا بعد نموذجًا سياسيًا بديلًا يمكن أن يحل مكان نموذج عبد الناصر. أمّا أولئك الذين توقفوا عن الإيمان بهذا “البطل الفردي” فقد تحرروا من الوهم الكبير لكنهم ما زالوا غير قادرين على ملء الفراغ الذي تركه عبد الناصر، الذي يعتبر الممثل الأعلى لذلك النموذج.
بعبارة أخرى، حتى يتوقّف المصريون عن استحضار عبد الناصر وعلاقاته واعتباره جزءًا من ماضٍ بعيد، يجب أن يحدث تغيير جذري في الطريقة التي ينظرون بها لأنفسهم في مواجهة واقعهم وتاريخهم ودولتهم القومية – وهو تحول ينبغي أن يكون نابعًا من خيالهم الاجتماعي.
منعطفات متعددة
سعيت في كتابي إلى أن أحدّد بدقة الحيّز الذي احتله عبد الناصر في الخيال المصري وتاريخه ومساراته وأشكاله وخصوصياته وتقلباته. لقد حاولت أن أظهر أن صورة عبد الناصر لم تمر عبر طريق سلس ومتواصل وفريد من المجد أو تشويه السمعة، وإنما شهدت منعطفات ونقاط تحول متعددة كانت نتاج العديد من الروايات المتناقضة والآراء المتباينة والمواضيع الحساسة المتضاربة.
إن النظرة الرومانسية الإيجابية لصورة عبد الناصر التي انتشرت في الأدب المصري والسينمائي في العقدين الماضيين تخفي إلى حد كبير قصة صعود وسقوط أكثر تعقيدًا ومتعددة الأبعاد.
إن حنين الكثير من المصريين المستمر لعبد الناصر يعد في حد ذاته مؤشرًا على المكانة الخاصة التي احتلها رغم الضربة المخزية التي تلقاها سنة 1967 وحملة اجتثاث الناصرية المكثفة التي أطلقها خَلفه.
تتمثل إحدى المساهمات الرئيسية لهذا الكتاب في الكشف عن الطرق التي يفصل بها العديد من المصريين عبد الناصر عن نظامه. يمكن اعتبار نظام عبد الناصر قمعيًا وظالمًا ووحشيًا، إلا أنه غالبًا ما يُنظر إليه بشكل منفصل عن تجاوزاته وبالتالي يتم تبرئته بحجة أنه لا يعرف بالضرورة بأمر هذه الإجراءات أو لم يوافق عليها.
تزخر الأعمال الأدبية والأفلام السينمائية المصرية بشخصيات تدعي أن عبد الناصر كان دائما يدعم شعبه ويقف في وجه نظامه، مؤمنين بشخصيته الاستثنائية. ومن النتائج اللافتة لهذا الاتجاه أنه حتى الأفلام التي تنتمي إلى مرحلة اجتثاث الناصرية لم تنتقد عبد الناصر ونادرًا ما ظهرت شخصيته في غرف الاستجواب والتعذيب.
من خلال محاولة تحديد “المؤامرات” التي ارتبطت بمختلف تمثلات شخصية عبد الناصر، يمكن الحديث عن تأريخ صورة عبد الناصر منذ سنة 1952 على عدة مراحل كان لكل واحدة منها نهج خاص في التعاطي معه.
خلال السنوات الأربع التي سبقت حرب السويس سنة 1956 – مثلا – كان الكتّاب يميلون إلى انتقاد عبد الناصر بشكل معتدل وقد أعربوا عن قلقهم من الإجراءات القمعية التي اتخذها – بينما كانوا في الوقت نفسه يعترفون بنواياه الحسنة وجهوده المخلصة لتحسين وضع البلاد.
اتسمت الفترة ما بين 1956 و1967 إلى حد كبير بتمجيد عبد الناصر كبطل رمزي للاستقلال ومناهض للاستعمار وداع للعدالة الاجتماعية مع أنه كان يترأس نظامًا شهد جرائم التعذيب والفساد والاضطهاد، لكن في غالب الأحيان كان يُفصل بين عبد الناصر وتلك الجرائم.
انتهت هذه الفترة الطويلة من تمجيد عبد الناصر في أعقاب نكسة 1967 التي تسببت في شقاق بين الكتّاب وصانعي الأفلام بشأن مسؤولية ناصر عن الهزيمة الكارثية. وهكذا جاءت ثلاث سنوات من التحرر من وهم عبد الناصر تخللتها أعمال سينمائية وأدبية ناقدة، شكك بعضها في الفصل بين عبد الناصر ونظامه، بلغت ذروتها بفيلم “شاي من الخوف” للمخرج حسين كمال الصادر سنة 1969.
بين عبد الناصر والسادات
وصلت حقبة تصوير عبد الناصر بشكل سلبي إلى ذروتها في عهد السادات (1970-1981) من خلال شن هجوم ممنهج على إرثه والسعى إلى اختزال صورته في مشاهد التعذيب والخوف والقمع. كان الهدف من هذا الهجوم إقامة مقارنة بين عبد الناصر والسادات، وبالتالي إضفاء الشرعية على التغييرات الجذرية التي أدخلها السادات في المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
مع ذلك، يُظهر الفحص الدقيق لهذه الفترة أن هذه الصورة كانت حاضرة بشكل أساسي في الأفلام، وأن معظم الروايات الأدبية (مع استثناء ملحوظ في كتاب نجيب محفوظ “الكرنك”) ظلّت صامتة تجاه إعادة تقييم صورة عبد الناصر في السبعينيات. شارك غالبية الكتاب توجهات عبد الناصر الطبقيّة ومثله الخاصة بالعدالة الاجتماعية والمساواة، وكانت تلك الأفلام إلى حد كبير من إنتاج شركات خاصة وكانت محكومة بقيمها وموقفها من عبد الناصر.
على عكس الكتاب الذين شهدوا انهيار المشروع الناصري على يد السادات، وجد عدد كبير من منتجي الأفلام فرصة ذهبية في هذا العقد لإطلاق العداوة التي كانوا يكنونها على مر السنين تجاه ناصر وسياساته الاشتراكية. لكن تفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الذي كان محسوسًا بقوة في السنوات الأخيرة من حكم السادات واستمر في عهد حسني مبارك، مهّد لعودة الصورة الإيجابية لعبد الناصر التي بدأت في أوائل الثمانينيات وهيمنت على السنوات التالية.
من المثير للاهتمام أن هذه العودة المواتية لعبد الناصر كادت أن تقضي على الاختلاف الملحوظ بين الكتّاب وصانعي الأفلام في العقد الماضي، ووحدتهم أمام التذرع بعبد الناصر في مواجهة الواقع المنهار. وهكذا أصبح عبد الناصر شهيدًا في كتاب “التجليات” لجمال الغيطاني، وملاذًا للفقراء في كتاب “زينات في جنازة الرئيس” لسلوى بكر، بينما بدأت مجموعة من صانعي الأفلام الشباب التقدميين سياسيًا في إعادة النظر في الصورة السينمائية لعبد الناصر، ورفض المعاملة المغالية لأسلافهم في السبعينات.
إن تجدد النظرة التي يغلب عليها الحنين إلى عبد الناصر في العقدين الماضيين تتمحور حول المواقف المحيطة بهذا التجدد وما يعنيه ذلك بالنسبة لمصر أكثر من صورة الرئيس. وكون العديد من المصريين ما زالوا يتوقون إلى نفس المُثل والأحلام والتطلعات التي سعى عبد الناصر لتحقيقها دليل على أن مصر شهدت حقبة مؤقتة فقط لما بعد عبد الناصر. فقد تغلغل الفقر والظلم الاجتماعي والهيمنة الأجنبية في البلاد لدرجة أنها أصبحت مكونات ثابتة للحياة المصرية.
لعل الأسوأ من ذلك أن التطرف والنعرات الطائفية وهجرة الأدمغة التي كانت مصر في عهد عبد الناصر محصنة ضدها لم تكن سوى أعراض قليلة من الواقع المتدهور. جاءت وفاة عبد الناصر المفاجئة في سنة 1970 في وقت كانت فيه الأمة لا تزال تعاني من صدمة هزيمة مهينة غير مسبوقة لا تتوقف صورها وذكرياتها عن مطاردة الخيال المصري.
وعندما يستيقظ المصريون حقًا من هذا الكابوس حينها فقط يمكن أن تفقد سنة 1967 جزءًا من ارتباطاتها الضارة وتصبح لحظة بعيدة في حقبة ماضية. قدمت إنجازات الجيش المصري خلال حرب أكتوبر 1973 علاجًا محتملاً سرعان ما أحبطته سياسات السادات السياسية والاقتصادية. وما يلفت النظر هو أن حرب أكتوبر لم يتم تبنيها وتمثيلها بحرارة من قبل الكتاب وصانعي الأفلام المصريين.
2011: الصلة بعبد الناصر لا تزال موجودة
خرج هذا الكتاب إلى النور قبل سنة تقريبًا من ثورة 2011 المصرية، وتسبقه جميع الأعمال التي ناقشتها الفصول السابقة. لكن وبطبيعة الحال، لا يزال من السابق لأوانه تقديم إجابة نهائية لأي تأثير محتمل للأحداث المضطربة الأخيرة في مصر على صورة عبد الناصر ومعناه بالنسبة للمصريين.
في الحقيقة، نادرا تُصوّر الثورة نفسها في الروايات المكتوبة أو المرئية. تقدم أهداف سويف (من مواليد عام 1950) تحليلاً لهذا الوضع في مقال بعنوان “في أوقات الأزمات، يجب أن يجلس الخيال في المقعد الخلفي”. نُشر المقال في آب/ أغسطس 2012، ويجادل بأن الوقت لم يحن بعد لإنتاج رواية خيالية ناضجة عن الثورة.
إذا كان الروائيون المصريون “أنتجوا نصوصًا للنقد والديستوبيا والكابوس” قبل الثورة، فيبدو أنهم جميعًا “استسلموا – في الوقت الحالي – للخيال”. ثورة 2011 ليست خيالية حتى الآن لأن “الحقيقة المباشرة ساطعة للغاية بحيث لا تسمح بتكوين صوررة خيالية عنها. ويجب أن يستغرق الواقع وقتًا حتى يتم معالجته ليتحول إلى خيال”.
إن كتابة رواية يتطلب وقت انسحاب من العالم الحقيقي والانعطاف إلى الداخل، وعزل النفس بعيدًا عن الحشود التي تحتل الشوارع. وهنا تفضل سويف، وهي نفسها روائية بارزة ومشاركة في الثورة، النشاط السياسي على الإنتاج الخيالي، أو بالأحرى تفضل المواطن على الروائي: “أنت، المواطن، تحتاج إلى أن تكون حاضرًا، هناك على الأرض، تسير وتدعم وتتحدث وتحرض وتعبر”.
ومع أنها كتبت منذ أكثر من ثلاث سنوات، إلا أن رؤى سويف أثبتت صحتها إلى حد كبير؛ وقلما أنتجت أي شخصية أدبية كبيرة في مصر عملاً مهمًا يتعلق بثورة 2011 ونتائجها. ومع ذلك، فإن وجود عبد الناصر في ثورة 2011 موثق بوفرة. بدأت المقدمة بحادثة فعلية تتحدث عن استمرار أهمية عبد الناصر في حياة المصريين.
أظهرت الصور من ميدان التحرير التي تم تداولها في جميع أنحاء العالم فئات من المصريين يحملون صور عبد الناصر، بينما تحدثت شهادات مباشرة عن وجود عدة أكشاك في ميدان التحرير تبث خطاباته وأغانيه المعروفة التي خصصت له.
يمكن للمرء أن يتحدث عن ثلاث مراحل رئيسية أكدت صلة عبد الناصر بالأحداث الجارية في مصر منذ سنة 2011. أذنت المرحلة الأولى ببدء مناقشات حيوية حول الموقف الذي شكله عبد الناصر في ثورة 2011. تركز السؤال الرئيسي الذي هيمن على هذه المناقشات على ما إذا كانت ثورة 2011 تمثل قطيعة مع 30 عامًا من حكم مبارك، أو مع حكم السادات، أو مع نظام تموز/ يوليو 1952 بأكمله – سواء مثل الثوار المصريون المعاصرون استمرارا لعبد الناصر أو قطيعة معه.
فعلى سبيل المثال، حذرت الصحفية المصرية نجلاء بدير، في الوقت الذي كانت فيه مصر تحت حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة، من اعتبار الجيش المصري كيانًا واحدًا منذ عبد الناصر، بحجة أنه ليس جزءًا من “حكم الجيش” الذي كان الثوار يحتجون عليه.
تكهن المخرج السينمائي المصري خالد يوسف بأن الصورة الإيجابية لناصر ستنال زخمًا جديدًا في السينما المصرية بعد الثورة، بينما أعلن الروائيون مثل صنع الله إبراهيم وإبراهيم عبد المجيد وجمال الغيطاني بالإجماع الثورة كحادث كبير ضد نظام تموز/ يوليو.
بالإضافة إلى ذلك؛ استقطب المعرض الذي افتُتِح قبل أيام قليلة من عيد ميلاد ناصر الأول بعد الثورة اهتمامًا واسعًا، وأكد الانقسام العام فيما يتعلق بذكرى الرئيس. المعرض الذي حمل عنوان “ناصر الحلم”، والذي لم يحضر افتتاحه سوى عائلته، تضمن لوحات قديمة وحديثة، بما في ذلك القليل من اللوحات التي تم رسمها بعد ثورة 2011، ولكن جميعها توضح الجانب المشرق من الصورة، كما أوضح عنوان إحدى المراجعات النقدية.
وانتقدت المراجعة، المنشورة في الأهرام الأسبوعية، المنظمين لمحاولة ربط ناصر بثورة 2011 متسائلة: إذا كان عبد الناصر رمزًا لأحلام العدل والحرية والمساواة بين الأغنياء والفقراء، فلماذا ما زلنا نعاني من الظلم وانعدام الحرية في المجتمع المصري؟ وإذا كانت مبادئ ثورة 1952 قد فشلت، فلماذا ما زلنا نحتفل بالحلم؟ بمعنى آخر، الحلم الذي تحول إلى كابوس.
وبالمثل، ظهر عبد الناصر في اثنين من الردود الأدبية المبكرة على ثورة 2011؛ حيث يقدم كتاب “مئة خطوة من الثورة”، مذكرات تتبنى موقفًا متناقضًا تجاه العلاقة بين ناصر وثوار التحرير.
الكاتب، الذي يسرد ملاحظاته الشخصية عن 18 يومًا من الاحتجاجات التي أدت إلى سقوط الرئيس مبارك، يتأرجح بين تصوير الجماهير في التحرير على أنها “يهتفون من كرامتهم المجروحة ضد ثلاثين عامًا من حكم الديكتاتور”، ويعلنون بشكل قاطع أن “هذه الثورة هي قطيعة كاملة مع نظام ثورة يوليو/ تموز الذي بلغ عمره 62 عامًا”.
والأهم من ذلك هو المقارنة بين خطاب استقالة عبد الناصر في أعقاب هزيمة 1967 وخطاب مبارك الثاني في 1 فبراير/ شباط 2011، المعروف بتأثيره القوي والعاطفي على عدد كبير من المصريين خلال الثورة، وخلق انقسامًا بين أولئك الذين يؤمنون بتنازلات مبارك والوعود التي قطعها والذين لم يفعلوا؛ وهذه المقارنة تمت بين الأم وابنها خالد، في رواية هشام الخشن “سبعة أيام في التحرير”، حيث أقنع الخطاب خالد وأصدقائه بمغادرة التحرير وإعطاء مبارك المهلة التي طلبها، لكن والدة خالد تذكِّر ابنها بما تعتبره تلاعبًا بالمصريين على غرار ما مارسه عبد الناصر، مما يثبت الاستمرارية بين الرئيسين؛ حيث تقول: “حماسك يا خالد يذكرني بالأيام التي استقال فيها ناصر. إحدى الكلمات جعلت هؤلاء الطيبين يملأون الشوارع، متوسلين من قادهم للهزيمة والعار بالبقاء. يفهم كل القادة المصريين الطبيعة العاطفية للجمهور المصري، ويسعون لاستغلالها لمصالحهم”.
ناصر جديد: صباحي أم السيسي؟
تزامنت المرحلة الثانية مع الصعود المذهل لحمدين صباحي، والذي أعاد بلا شك الأسئلة المتعلقة بمكانة القائد الكاريزمي في مصر ما بعد 2011. فقد كان صباحي، الناصري طوال حياته، مرشح الحصان الأسود للانتخابات الرئاسية المصرية لسنة 2012، ومن المفاجئ أنه احتل المركز الثالث بفارق ضئيل خلف مرشح الإخوان المسلمين والفائز في نهاية المطاف محمد مرسي ورئيس الوزراء في عهد مبارك أحمد شفيق.
وصفه كثير من المتابعين بأنه سياسي على طريقة عبد الناصر، ولم يخفِ صباحي ميوله السياسية، معتمدا على جاذبية بطله لدى الجماهير، فقد سعى إلى الحفاظ على رؤيته الخاصة للرئاسة، لكنه حاول تجنب ما اعتبره مطبات عبد الناصر: “سوف أؤيد مبادئ عبد الناصر بشأن العدالة الاجتماعية بينما أضغط من أجل نظام ديمقراطي بالكامل، يحدد بوضوح ويحد من دور الرئيس، وهو ما لم يفعله ناصر”.
لا يمكن أن تُعزى ظاهرة صباحي فقط إلى توق المصريين إلى زعيم يشبه عبد الناصر؛ فالخوف من الإخوان المسلمين والنظام القديم دفع بالتأكيد العديد من الناخبين إلى البحث عن طريق ثالث. ومع ذلك؛ كان وجوده بمثابة تذكير أولي، إن لم يكن مُنبئًا، بصورة عبد الناصر وجاذبيته المستمرة لدى للمصريين العاديين. ومع ذلك؛ لا يمكن التعرف على أهمية ناصر وقوة صورته بشكل أفضل من صعود وزير الدفاع السابق عبد الفتاح السيسي إلى السلطة. ففي حلقة مكررة للغاية؛ تدخل الجيش المصري مرة أخرى في المجال السياسي، بعد أيام من الاحتجاجات الحاشدة ضد الرئيس مرسي، وذلك في 3 يوليو/ تموز 2013، عندما أطاح السيسي، قائد الجيش آنذاك، بمرسي من السلطة فيما أصبح موضع خلاف ما إذا كان انقلابًا أو ثورة ثانية.
بعد سنة تقريبًا؛ ألغى السيسي قراره الأولي بعدم الترشح للرئاسة، ولم يكن مفاجئًا أنه فاز في الانتخابات الرئاسية ضد صباحي نفسه، ولكن هذه المرة بهامش أكبر بكثير (96.91 بالمئة). ومع ظهور السيسي وتنصيب ما وصفه جوان كول بـ “هوس السيسي”، عاد ناصر إلى الظهور في الحياة المصرية، ربما بشكل لم يسبق له مثيل في العقد الماضي.
وبثت القنوات الإخبارية صورا لآلاف المصريين يحملون ملصقات تصور عبد الناصر والسيسي. وأشاد بعض المفكرين البارزين في البلاد مثل صنع الله إبراهيم وجمال الغيطاني بالسيسي ووصفوه بأنه امتداد لعبد الناصر. كما أن السيسي نفسه، في مواقف ومقابلات مختلفة، استفاد من هذه المقارنة وبدا منه أنه يشعر بالإطراء والتواضع.
وسيؤدي أي بحث على جوجل عن المقارنة بين الرجلين إلى عشرات الزيارات، باللغتين العربية والإنجليزية، تشمل مجموعة واسعة من الوسائط، من الأغاني إلى مقاطع الفيديو إلى مقالات الرأي في الصحف، مع الانخراط في نقاش ساخن حول زيف أو أصالة هذه المقارنة.
إن ظاهرة السيسي – ناصر الأخيرة، رغم أنها غير مكتملة ولا تزال تتكشف، تجبرنا مع ذلك على التفكير في آفاق موقع عبد الناصر في المخيلة المصرية. أولًا لأن الإحياء القوي لعبد الناصر وإرثه في العامين الماضيين يخبرنا عن المصريين أكثر مما يخبرنا عن السيسي نفسه، فحتى تدخله في حزيران / يوليو 2013، كان السيسي مجهولًا تقريبًا بالنسبة لعامة المصريين؛ بحيث إن وضع صوره بجانب ناصر في غضون أشهر قليلة من صعوده إلى السلطة كان شكلًا من أشكال التمني، ومما لا شك فيه أن ذلك يشير إلى توق المصريين لشخصية تشبه ناصر يمكنهم الاعتماد عليها وقد يجدون فيها حلولًا للكثير من الظروف الصعبة التي تجتاحهم.
سعت أصوات قليلة داخل الإخوان إلى تحطيم المقارنة بين عبد الناصر والسيسي، معتبرة أنها محاولة وهمية لإضفاء الشرعية على مغتصب غير شرعي للسلطة.
كما ذكرتُ سابقًا؛ تركت الأشهر الأولى التي أعقبت ثورة 2011 المصريين يفكرون في إمكانية تخطي الحاجة إلى قائد قوي وصياغة عقد اجتماعي جديد يتمتع بموجبه الجيش بدور محدود للغاية في الحياة العامة، لكن جنون السيسي قدم إجابة أكثر تحديدًا على هذا. وبغض النظر عن مدى تنظيمها من قبل وسائل الإعلام الرسمية والشخصيات المصرية؛ فلا يمكن إنكار أن المقارنة بين السيسي وناصر تطرقت إلى مشاعر حنين معينة بين المصريين.
وأثبتت الارتباطات التي أثارها عبد الناصر في المصريين العاديين مرة أخرى أنها عامل حاسم يمكن لخلفائه الاستمرار في الاستحواذ عليها بالباطل أو بأي طريقة أخرى.
ثانيًا؛ من المهم ملاحظة الطريقة التي تمت بها الادعاء بتشابه شخصية السيسي مع بشخصية ناصر والاستحواذ عليها من قبل وسائل الإعلام المصرية الرسمية ورجال الأعمال والوفد المرافق للسيسي؛ تعتمد – إلى حد كبير – على من شخصيات تتعارض توجهاتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية مع عبد الناصر، إلا أن هذه الشريحة المؤثرة في المجتمع المصري كانت قادرة على اختيار جوانب قليلة من عبد الناصر يمكن من خلالها إعلان أن السيسي وريثه الحقيقي؛ وأهمها كان مما لا شك فيه أن كلا الرجلين قضى على الإخوان المسلمين.
وكما لاحظ العديد من المراقبين، فإن “الطبقة العليا والطبقة الوسطى العليا التي تطلق حاليًا على السيسي لقب ناصر الجديد وتهتف له لن تتسامح مع قبول سياسات ناصر الاجتماعية والاقتصادية مرة أخرى في مصر”.
ومن المثير للاهتمام أن عبد الناصر أصبح دلالة غير حقيقية؛ بحيث أصبح يمثل اختلاطًا لدى المراجع التي لا تعتمد في دلالتها الحاسمة على ما فعله بالضبط وما دعا إليه بقدر ما تعتمد على قوة أولئك الذين يستفيدون من صورته.
هذا لا يعني وجود تجانس كامل لدى قطاع المجتمع المصري الذي تبنى وجهة نظر أن السيسي هو ناصر جديد وهم في الأساس مناهضين لناصر، من بينهم عدد كبير المفكرين والناشطين اليساريين المشهورين في مصر، وشمل أيضاً أفراد من عائلة عبد الناصر. بدلاً من ذلك، من المهم ملاحظة كيف يمكن تقسيم عبد الناصر إلى عدة شخصيات، كل منها يخدم احتياجات شرائح مختلفة من المجتمع المصري.
ثالثاً، كانت الانتخابات الرئاسية سنة 2014 في مصر مظهرًا آخر من مظاهر أهمية عبد الناصر في الساحة المصرية اليوم والذروة في النسب لعبد الناصر كوسيلة لاستمالة المصريين العاديين، فإذا كانت انتخابات 2012 قد حرضت حمدين صباحي الناصري الذي نصّب نفسه ضد الإخوان المسلمين وكشخصية من عهد مبارك، فإن انتخابات 2014 شهدت منافسة صباحي ضد السيسي أو، كما يمكن وصفها، ناصر ضد ناصر.
فبينما سعى المرشحان وراء ناصر وإرثه كطريقة لإضفاء الشرعية على مشاريعهما ومخططاتهما المدعومة، وإن كانت بصورة غير متناسبة، من قبل عدد كبير من وسائل الإعلام والشخصيات، فقد فضّل كلاهما عبد الناصر الذي تناسب مع مصالحهما بشكل كبير. في نهاية المطاف، بل كما هو متوقع، انتصر الغريم القوي لجماعة الإخوان المسلمين، عبد الناصر كما جسده السيسي، على النسخة الاشتراكية لناصر التي روج لها صباحي.
رابعًا، على الرغم من أن السرد السائد بين جماعة الإخوان المسلمين في مصر وخارجها، كان يُنظر إلى محنتهم على يد السيسي على أنها تجسيد لصراعهم الدموي مع عبد الناصر في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي؛ حيث سعت أصوات قليلة داخل الإخوان إلى تحطيم المقارنة بين عبد الناصر والسيسي، معتبرة أنها محاولة وهمية لإضفاء الشرعية على مغتصب غير شرعي للسلطة.
ومن الجدير ذكره أن عبد الناصر، العدو تاريخي للإخوان المسلمين، قد تم استرجاعه جزئيًا ليس من أجل إعادة النظر في منظور الإخوان تجاهه بقدر ما كان من أجل إدانة السيسي بشكل أكبر ووصفه بأنه طاغية لا يرحم ولم يسبق له مثيل في التاريخ المصري. وهكذا، حدد ياسر أبو هلالة، المدير العام لقناة الجزيرة آنذاك، في مقال رأي نُشر سنة 2014 ما يعتقد أنه تسعة اختلافات بين ناصر والسيسي، قائلاً إن الشيء الوحيد المشترك بين الرجلين هو الزي العسكري.
وكما ذكرتُ سابقًا، فإن العودة المؤثرة لناصر منذ سنة 2013 تشهد على صورته القوية وقدرته على ملازمة المخيلة المصرية في مثل هذه اللحظة الحاسمة من التاريخ المصري.
إن احتمالات أداء السيسي بأنه سيؤثر على تذكر المصريين لعبد الناصر متروك للتكهنات، وذلك على الرغم أن إخفاقات السيسي التي يمكن ملاحظتها بسهولة الآن والتي قد تدفع المصريين العاديين إلى التخلي عن فكرة المنقذ وفصلها عن تطلعاتهم إلى مستقبل أفضل، إلا أنها قد تضيف المزيد إلى الطابع الاستثنائي الذي يتمتع به ناصر وترتقي به إلى موقع لا مثيل له؛ حيث لا السيسي ولا أي شخصية سياسية أخرى يمكن الوصول إليه.
يمكن أن يثبت هذا، مرة أخرى، أن ناصر بالنسبة للعديد من المصريين ليس مجرد شخصية تاريخية حكمت مصر في وقت معين في ماضيهم البعيد ونجح أحيانًا وتعثر في أحيانًا أخرى كثيرة، بل هو بالأحرى عبارة عن فِكر مرادف لمفاهيم العدالة الاجتماعية والكرامة والمساواة.
هل ستستمر هذه الارتباطات في مسارها وتفقد بريقها في النهاية في مصر؟ ربما. ولكن إلى ذلك الحين، لا يزال عبد الناصر، كما أوضحت الفصول السابقة، مكونًا أساسيًا للمخيلة المصرية.
المصدر: موقع ميدل إيست آي