تعجّل الغرب إعلان إفلاس روسيا، وهي أغرب حالة إفلاس لدولة تتخلف عن سداد ديونها، رغم أن موسكو تملك احتياطات مالية وفيرة، ولم تبدِ نية الامتناع عن السداد، لكن العقوبات الاقتصادية حالت دون ذلك.
أفلست روسيا عنوةً، لأنها لم تجد أية مؤسسة مالية لنقل السيولة إلى الدائنين، حيث إن ترسانة العقوبة الاقتصادية شملت كذلك البنوك الروسية بما فيها البنك المركزي وجميع البنوك الكبيرة.
الواضح أن التحالف الغربي يرغب، من خلال هذا الإفلاس “الصوري”، زيادة الضغط على الاتحاد الروسي الذي يحارب على جبهتَين مختلفتَين، عسكريًّا في أوكرانيا واقتصاديًّا ضد العقوبات الغربية.
حجب الثقة عن الاقتصاد
في أواخر يونيو/ حزيران الماضي، توقّفت روسيا عن سداد أعباء دين مستحق عليها بقيمة 100 مليون دولار، فالتقطَ الغرب هذا الحدث وروّج له بكثافة كذريعة لاعتبار روسيا في عداد المفلسين، والغاية من ذلك هي نزع الثقة كليًّا عن الاقتصاد الروسي.
شنَّ الغرب حملة دعائية، الهدف منها تجفيف موارد الحرب التي تطيل من أمد العملية العسكرية المستمرة في أوكرانيا منذ فبراير/ شباط الماضي، ولا يبدو أن الدبّ الروسي العنيد سوف ينسحب هكذا خاسرًا، دون تحقيق مكاسبه المتوخاة من هذه الحرب التي بدأها ولا يعرف هو نفسه متى سوف ينهيها.
استهدفت الدعاية الغربية الأسواق المالية الدولية، وابتغت بثّ الرعب بين المستثمرين الأجانب، وكذلك منع وصول روسيا إلى الدائنين الذين لن يرغبوا في منح قروض جديدة لدولة غير قادرة، بأي حال من الأحوال، على سداد ما لديها من ديون.
أعلنت مؤسسة موديز للأبحاث الاقتصادية أنه من المحتمل حدوث مزيد من التخلف عن سداد الأقساط المستقبلية، كما أن المرسوم الرئاسي الروسي الصادر في 22 يونيو/ حزيران بشأن سداد دينها الخارجي عن السندات الأوروبية بالروبل فقط يتعارض فعليًّا مع الشروط التعاقدية، وبالتالي من المحتمل أن يتمَّ التعامل مع المدفوعات بالروبل على أنها تقصير في السداد.
للإشارة، تسمح السندات الأوروبية الصادرة بعد عام 2018 بسداد المدفوعات بالروبل وفق شروط معيّنة، على عكس السندات التي أصدرتها روسيا قبل عام 2018، حيث إما أنها لا تحتوي على شرط العملة البديل هذا وإما تسمح بالسداد فقط بعملات صعبة أخرى، كالدولار أو اليورو أو الجنيه الإسترليني أو الفرنك السويسري.
هل هو إفلاس سيادي؟
بعد أسابيع من اندلاع الحرب، أكّدت رئيسة البنك المركزي الروسي، إلفيرا نابيولينا، أن بلادها تمتلك ما يكفيها من الموارد المالية للوفاء بالتزاماتها المالية، ولا يتهددها التخلف عن السداد.
السلطات المالية الروسية تهرّبت أيضًا من مطالبات الدائنين المحتملة، إذ قالت وزارة المالية إن الدائنين عليهم أن يطالبوا سلطات الدول التي خلقت “بشكل غير قانوني” عقبات أمام روسيا للوفاء بالتزاماتها المتعلقة بالديون.
تزعم روسيا أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يضعان عقبات مفتعلة لمنعها من سداد الديون، وإعلان عجزها عن القيام بذلك، في حين أن روسيا تقوم بكل ما تستطيع لسداد ديونها، بيد أن الغرب نجح في جعل روسيا تفلس بالإكراه.
ويعني إفلاس الدولة عدم قدرتها أو رفضها لسداد ديونها جزئيًّا أو كليًّا أو الوقف الفعلي للدفعات المستحقة، غير أنه يجب التفرقة بين التعثر عن السداد، أي عندما تطلب الدولة المتعثرة من الدائنين إعادة هيكلة مديونيتها من خلال مد آجال الاستحقاق أو خفض قيمة الدين أو شطب جزء منه، وبين الإفلاس السيادي الذي هو عندما تعلن الدولة عدم نيتها السداد.
الواقع هو أن الإفلاس السيادي لا ينطبق الآن على حالة روسيا، وليس كما في عام 1918 عندما أعلن البلاشفة امتناعهم عن الأداء معتبرين أن ديون القيصر لا تعنيهم، وفي عام 1998 سجّلت روسيا الحديثة أول حالة تخلُّف عن السداد في عهد أول رؤسائها بوريس يلتسن.
غير أنه في الإفلاس الأول لم يكن لدى الروس ما يكفي من الأصول لتسديد تلك الديون المذهلة، وفي الثاني شهدت روسيا أزمة مالية خانقة أدّت إلى فقدان الروبل ثلثي قيمته أمام الدولار، وارتفع التضخم في ذلك العام إلى 84%.
وفي الوقت نفسه، كان للصدمة التي مرَّ بها الاقتصاد بسبب ضعف الروبل، وكذلك التغيرات في السياسة الاقتصادية للحكومة والبنك المركزي تأثير إيجابي على تطوره، حيث زادت الكفاءة الاقتصادية للصادرات على وجه الخصوص، كما تعلمت البنوك الروسية تنويع أصولها.
في سجلّ التاريخ
تبلغ قيمة ديون روسيا من السندات بالعملات الأجنبية 40 مليار دولار تقريبًا، بينما لدى روسيا 640 مليار دولار من الاحتياطات من الذهب والعملات الأجنبية، جزء كبير من هذه الاحتياطات جعلتها روسيا لدى بنوك غربية من أجل تسهيل المبادلات التجارية، تناهز قيمتها 300 مليار دولار، لكن بعد اندلاع الحرب شملت العقوبات الاقتصادية تجميد هذه الاحتياطات، ونتيجة لذلك لا تستطيع روسيا التصرف في هذه الأصول المجمّدة، بينما تتهم أمريكا وحلفاءها بسرقة أموالها.
وصفت روسيا هذا الإفلاس الذي يروّج له الغربيون بأنه “مهزلة”، وعلى ما يبدو أن الدائن نفسه هو من يعرقل عملية السداد، بما أنه لن يخسر الكثير، لأن الدين الذي تخلفت روسيا عن سداده هو 100 مليون دولار موزّعة بين دائنين متعددين.
أمريكا وحلفاؤها يعلمان تمامًا أن هذا الإفلاس ليس حقيقيًّا، لكن أسبابه وتفاصيله غير مهمة بقدر ما هو مهم أن يسجّل التاريخ على روسيا حدث الإفلاس.
يأمل الحلفاء الغربيون أن يشاهدوا روسيا “المنبوذة والمشلولة اقتصاديًّا”، وفعليًّا نجحت العقوبات الثقيلة في تحويل روسيا إلى جزيرة كبيرة معزولة عن العالم، وإذا كان إجبارها على الإفلاس سوف يغلق أسواقها المالية أمام العالم، فهي بالفعل مغلقة، ولن يحقق الغرب مكاسب أكثر من هذا.
إن استمرار العملية العسكرية مكلف للغاية، فالروس لم يكونوا مستعدين لهذا السيناريو أو أنهم اعتقدوا أن الحرب ستدوم أيامًا قليلة وتنتهي بسرعة خاطفة، لكن إطالتها يرفع من حجم تكلفتها مع نضوب مصادر المال لدى موسكو.