بشكل متسارع، تسعى الأنظمة السياسية في المنطقة لإعادة رسم شكل علاقاتها ببعضها البعض في ظل تغيرات دولية دفعتهم لإعادة صياغة سياساتهم الخارجية تجاه الجيران. أنتجت التفاهمات بين تركيا والسعودية والإمارات، زيارات متبادلة بين الرئيس التركي وولي العهد السعودي والإماراتي واتفاقات وعقودًا ووعودًا استثمارية وتبادلًا تجاريًا أعاد الجميع بعد سنوات القطيعة إلى طاولة الحوار، مُبتسمين.
وبعد سنوات من المعاداة العلنية، توّجت خطوات إعادة العلاقات بين قطر ومصر بزيارة الأمير تميم بن حمد للقاهرة في زيارة كرنفالية احتفل فيها قصر الاتحادية بالذكرى التاسعة لتوليه حكم الدولة الخليجية، مع توقيع تفاهمات اقتصادية بالمليارات على شكل ودائع أو استثمارات.
على النقيض من هذه الحماسة يمضي ملف تطبيع العلاقات بين مصر وتركيا بخطوات أثقل، رغم بدء الحديث عن إعادة العلاقات أواسط العام الماضي، وهو الموقف الذي أعلنه الرئيس التركي في بادئ الأمر دون تفاصيل، قبل أن يؤكد معانيه وزير الخارجية، وبدأت مطلع مايو/أيار 2021 ملامح هذا الاتفاق في التشكل بزيارة أول وفد تركي رسمي رفيع المستوى إلى القاهرة منذ انقلاب يوليو/تموز 2013.
ملفات الاشتباك
منصات الإعلام والمعارضة
وعلى مدار جولات التفاوض بين الجانبين، التزم الأتراك بالتصريحات الإيجابية بشأن مستقبل العلاقات بين البلدين من أجل الوصول لاتفاق بخصوص الأجندات التي يسعى خلفها كل طرف، وكبرهان على النوايا الحسنة، أقدمت الحكومة التركية على تحجيم نشاط مؤسسات وشخصيات إعلامية مصرية معارضة كانت تبث موادها من إسطنبول، وهو ما قوبل بترحاب مصري شديد، لم تعكره إلا زيارة أجراها وزير الدفاع التركي إلى ليبيا في يونيو/حزيران 2021، وهو الموقف الذي عبرت مصر عن غضبها منه من خلال الإعلامي التابع للنظام عمرو أديب، وأفاد الغضب المصري حينها بأهمية الملف الليبي على طاولة المفاوضات التي كانت يجري ترتيبها كونه يحوي جوانب أمنية واقتصادية تثير القلق.
إعمار ليبيا
يدعم الطرفان استمرار العملية السياسية في ليبيا الآن، إذ ما زالت تحتفظ تركيا بقواتها العسكرية هناك لكن دون خطة بقاء دائمة، ووفق مصادر لجريدة العربي الجديد في مصر، فإن القيادات الأمنية في البلدين اتفقت على صيغة متقاربة بشأن الوجود العسكري التركي في غرب ليبيا، سواء على المستوى النظامي أم على صعيد المقاتلين السوريين الذين يعملون تحت إشراف تركي.
وتتمسك تركيا بقانونية وجودها العسكري في ليبيا الذي يقع في إطار الاتفاقيات الثنائية المعترف بها دوليًا الموقعة مع طرابلس، وهي الصيغة التي يؤكدها المسؤولون الأتراك بشكل متكرر، إذ كان البرلمان التركي قد وافق على طلب نشر قوات تركية في ليبيا في يناير/كانون الثاني 2020 في إطار مساندة حكومة الوفاق الوطني وقتها.
ستسمح الروابط الجغرافية والسياسية بين مصر وليبيا، للقاهرة أن تكون صاحبة النصيب الأكبر من مشاريع إعادة الأعمال
موقع المونيتور نقل حينها عن مصادر أمنية تركية أن حكومة السراج طلبت نشر ست أو ثماني طائرات حربية من طراز F-16 Block 50 ونظام إنذار مبكر (أواكس)، إلى جانب فرقاطات وزوارق وغواصة بحرية، وقوة برية تصل إلى 3000 جندي ذوي خبرة قتالية، كما مثَّلت مشاركة مقاتلات الدرون التركية “بيرقدار” علامةً حاسمةً في الحرب ضد الميليشيات التابعة لخليفة حفتر.
وخلال ما يقارب العقد، الذي نصب فيه الجانب التركي العداء للنظام المصري منذ الانقلاب الذي أطاح بجماعة الإخوان المسلمين وقمعهم، ورغم الهجوم المتبادل في الشاشات والجرائد، استمرت العقود والتبادلات الاقتصادية بين البلدين دون تأثر، بل تضاعفت حتى وصلت إلى 11.14 مليار دولار عام 2020، ما يظهر بأن الجانبين اتفقا ضمنيًا على إبقاء تبادلاتهما الاقتصادية بمنأى عن السياسة، حسب دراسة لمركز كارنيغي.
وفي ليبيا، تسعى تركيا إلى الاستفادة من عملية إعادة الإعمار وإصلاح البنى التحتية، وهو ما ظهر كخطوات لاحقة في أعقاب انتصار قوات الوفاق في الحفاظ على العاصمة، حين زار وفد تركي رفيع المستوى طرابلس في تلك الفترة، لمناقشة الملفات المشتركة بين الجانبين وكان منها عقود إعادة الإعمار التي كانت قد تعاقدت عليها الشركات التركية مع الحكومة الليبية بقيمة تبلغ 16 مليار دولار، وقِِّع أغلبها قبل محاولات حفتر دخول مقر الوفاق.
وكان وزير الدولة للشؤون الاقتصادية سلامة الغويل قد قال في تصريحات صحفية منتصف العام الماضي إن بلاده بحاجة لإنفاق 135 مليار دولار على ملف إعادة الإعمار خلال السنوات العشرة المقبلة، وإن الشركات المصرية والتركية بين الأكثر حظًا للمشاركة في المشروعات التي سيتم تمويلها من الحكومة والقطاع الخاص المحلي ومؤسسات التنمية الدولية.
الترسيم المحتمل لمناطق الصلاحيات البحرية بين مصر وتركيا في شرق البحر الأبيض المتوسط أحد الملفات الملحة بين الجانبين
وتضم عملية إعادة الإعمار في ليبيا بعد سنوات الحرب الطويلة، إعادة بناء المؤسسات العامة والمطارات والموانئ وشبكات المياه والطرق والبلديات ومد المساحات العامة والحدائق وإعادة بناء المنازل، بالإضافة لعملية تنظيف البلاد من مخلفات الحرب.
وستسمح الروابط الجغرافية والسياسية بين مصر وليبيا، للقاهرة أن تكون صاحبة نصيب الأكبر من مشاريع إعادة الإعمار، وهو ما ظهر خلال زيارة رئيس الوزراء الليبي عبد الحميد الدبيبة في سبتمبر/أيلول الماضي، حين وقعت ليبيا ومصر عددًا من اتفاقيات التعاون المشترك والقرارات التنفيذية التي يرتبط جزء لا بأس به منها بملف إعادة الإعمار.
وقد تمت دعوة الشركات المصرية في مايو/أيار الماضي، للمشاركة في معرض “شركاء العمران من أجل إعادة إعمار ليبيا”، في مدينة بنغازي الليبية، فيما حصلت شركة حسن علام المصرية الحكومية على موافقة لتنفيذ الطريق الدائري الثالث في طرابلس بقيمة 3.7 مليارات دولار، ومحطة كهرباء في مدينة درنة الساحلية بقيمة 800 مليون دولار.
الحدود البحرية
وقريبًا من ليبيا أيضًا، فإن الترسيم المحتمل لمناطق الصلاحيات البحرية بين مصر وتركيا في شرق البحر الأبيض المتوسط أحد الملفات الملحة بين الجانبين، برأي الباحث المختص في العلاقات الدولية علي باكير، الذي يؤكد أن عملية الترسيم هذه من شأنها أن تغير قواعد اللعبة في المنطقة بأكملها.
وتتضح تلك الأهمية بشكل جلي في اتفاقية ترسيم الحدود بين تركيا وليبيا التي أتاحت لمصر مساحات شاسعة من المياه المصرية الخالصة، ما يعطي مصر فرصًا أكبر للاستكشاف والتنقيب عن النفط والغاز، حسب الباحث في شؤون الطاقة خالد فؤاد، إذ يضمن الترسيم التركي الليبي، لمصر مساحة تتراوح بين 15000 و26500 متر مربع، ويبدو أن ذلك ما دفع مصر في فبراير/شباط 2021، لطرح مناقصة جديدة للتنقيب عن النفط والغاز في شرق المتوسط، واضعة في الاعتبار إحداثيات الجرف القاري المحدد في الاتفاقية الليبية.
هذه الملفات الأساسية الثلاثة، وما يشتبك بها من قضايا ومسائل، تساهم جميعها في إبطاء حركة مسار المصالحة والتطبيع بين القاهرة وأنقرة، ولا يمكن المضيّ قدمًا ما لم يصل التدافع بينهما إلى النقطة التي ترضي كل جانب، سياسيًا واقتصاديًا واستراتيجيًا.