تعاني المناطق السورية الواقعة تحت سيطرة المعارضة السورية من تردي الحالة الأمنية وشيوع الانتهاكات من طرف الفصائل العسكرية المنضوية تحت إطار الجيش الوطني السوري المتمركزة في ريف حلب أو من هيئة تحرير الشام في مدينة إدلب، ويأتي هذا في ظل ما تعانيه هذه المناطق من أخطار محدقة بها إن من النظام السوري وحلفائه أو من جانب الوحدات الكردية.
ويرى أهل هذه المناطق أن الفصائل العسكرية ومؤسسات المعارضة يجب أن لا تكون أفعالها شبيهة بممارسات نظام الأسد التي انتفضوا ضدها، ولا مبرر لما يحصل من انتهاكات من الذين ثاروا على الظلم، فالثورة جاءت لتصلح لا لتُفسد، وما تحتاجه هذه المناطق إضافة إلى التنمية الاقتصادية والعمل على ضبط الأمن فيها وحمايتها هو الحد من الفساد الحاصل وقمع انتهاكات المتنفذين.
الأرض الحرام
وأُطلقت في الأيام الماضية مبادرة “الأرض الحرام”، والتي تنادي بوقف الفلتان الأمني والاقتتال الفصائلي في مناطق ريف حلب الشمالي، بتحرك مشترك من منظمة “غلوبال جستس” الأمريكية و”التحالف العربي الديموقراطي”، وفي هذا التقرير نسلط الضوء على تفاصيل المبادرة وإمكانية تحقيق أهدافها بالنظر إلى التشابكات الأمنية الاقتصادية والسياسية في المناطق التي تشملها، وذلك في حديث مع الدكتور أسامة قاضي أحد منظمي الحملة.
دعت المبادرة للاقتداء بدعوة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، والالتزام بما تحمله معاني الأشهر الحرام المنصوص عليها في الدين الإسلامي، وهذه الأشهر هي ذي الحجة وذي القعدة ومحرم ورجب التي كانت موجودة عند العرب قبل الإسلام منذ عهد نبي الله إبراهيم، حتى جاء الإسلام فزادها تعظيمًا وتحريمًا وذكرت في كتاب الله {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}.
وتنص المبادرة على صون حرمة دماء وأموال وأعراض السكان في المناطق الخمسة بريف حلب: الباب وجرابلس وعين العرب ومنبج وإعزاز، وقد حددت هذه المناطق لسببين، حسب القائمين عليها: الأول أنها مشمولة بقانون الاستثناء الأمريكي من عقوبات قيصر الذي صدر من وزارة الخزانة الأمريكية منذ أسابيع وشمل مناطق من شرق سوريا وشمالها، وبنص هذا القرار تكون هذه المناطق معفية من قرارات وتبعات وقيود قانون قيصر الذي يفرض عقوبات قاسية على النظام السوري والتعامل معه، أما السبب الثاني فهو البدء من هذه المدن كنموذج لتطبيقه في مدن الشمال ككل.
أسامة قاضي: “دفعت الثورة السورية من دماء أبنائها الكثير من أجل أن يسود العدل أرضها، وعين العدل هو أن يخلي العسكر بينهم وبين الناس وأن يخلي العسكر بين التجار والناس وألا يتدخلوا في الحياة المدنية”
وترى مبادرة “الأرض الحرام” أن “فقدان الأمن في تلك المناطق الخاضعة بأغلبها لسيطرة الجيش الوطني، يعدّ من أهم أسباب الحالة الاقتصادية بالغة السوء، وكذلك انتشار مظاهر الفساد وغياب السلطة القضائية وعدم تمكينها من ممارسة دورها الحقيقي في المناطق الخمسة”، وتقول المبادرة: “علينا كسوريين أن نتأكد بأنفسنا ونؤكد لغيرنا أن هذه المناطق صالحة لتكون نماذج تُحتذى من الأمن والإنصاف القضائي وانعدام الفساد واستقرار السلم الأهلي، حتى يتسنى للمستثمرين الوطنيين الاستثمار في بلدهم وتنمية مدنه وأريافه، على أمل أن تُعمم هذه المبادرة لتصبح فيما بعد كل سوريا أرضًا حرامًا على الجميع”.
وتشير المبادرة إلى أنه “إذا ما استطعنا إثبات أن هذه المناطق الخمسة، التي اتفقت على إمكانية الاستثمار فيها، فيمكن أن تكون نقطة بداية كي يحلّ الأمان في الشمال السوري كله، لنُري العالم أننا قادرون على النهوض بأصغر أرض في بقاع بلدنا وأن ننشر العدل فيها.. إن هذه المناطق الخمسة لا بد أن تكون آمنة حتى تستقطب رجال الأعمال السوريين وغيرهم، وأن يبرهن السوريون الأحرار للعالم أنهم قادرون على توفير الأمن فيها وإدارتها بشكل طبيعي”.
ووجه القائمون على المبادرة نداءهم إلى جميع القوى العسكرية في المناطق المستهدفة في البيان أن “تتعاهد على أن تكون تلك المناطق بمثابة أرض سوريا الحرام، التي يُحرم فيها مال وعرض ودم أي سوري، إلا بسلطة القضاء العادل، وأن تكون مسؤولية الأمن داخلها ملقاة على عاتق الشرطة المدنية التي تكون تحت إشراف وزير الداخلية في الحكومة السورية المؤقتة”.
وطالبت المبادرة الفصائل بالانسحاب من المناطق المدنية إلى الحدود وممارسة مهامها بحمايتها من أي اعتداء خارجي، وألا تتدخل في حياة الناس وتجارتهم وأسواقهم، وإفساح المجال للتجار ورؤوس الأموال للدخول إلى هذه المناطق ليقوموا بمشاريعهم الاستثمارية وتنمية المنطقة.
عن المبادرة
الدكتور أسامة قاضي لـ”نون بوست” وهو مستشار اقتصادي دولي والمستشار الاقتصادي لمنظمة “غلوبال جستس” التي كانت طرفًا في إطلاق هذا النداء الإصلاحي، قال في مداخلة لـ”نون بوست”، إن “حلم كل سوري أن يسود الحكم الرشيد بمبادئه الـ12 التي أوردها الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي، بما فيها الشفافية والمحاسبة والانتخابات الحرة النزيهة وسيادة القانون وغيرها على الجغرافيا السورية الواقعة خارج سيطرة نظام الأسد”.
ويرى قاضي أن “الثورة السورية دفعت من دماء أبنائها الكثير من أجل أن يسود العدل أرضها، وعين العدل هو أن يخلي العسكر بينهم وبين الناس وأن يخلي العسكر بين التجار والناس وألا يتدخلوا في الحياة المدنية وأن ينطلقوا إلى الحدود الخارجية لتلك المدن وأن يكون هناك شرطة مدنية تأتمر بأمر وزارة الداخلية التابعة للحكومة المؤقتة وألا يتعرض أحد من التجار إلى أي نوع من الابتزاز”.
ويطالب قاضي بأن يكون هناك “قضاء حقيقي مستقل تابع لوزارة العدل بالحكومة المؤقتة، إذ يسمح هذا الأمر بتوفير مناخ حقيقي لنهج الاستثمار في هذه المناطق وأن تكون سمته العدل والإنصاف”.
ويوضح قاضي أن الفكرة تتمحور حول “خلق مناخ اقتصاد سياسي ملائم ليجذب الحد الأدنى من رؤوس الأموال، وأن تكون تلك المناطق نموذجًا يحتذى به لكل سوريا”، مضيفًا” “كما قلنا إنها أرض سوريا الحرام بمعنى أنه يحرم على الناس كلهم العسكر أو المدنيين وغيرهم دم السوري وماله وعرضه، خاصة أننا في واحد من الأشهر الحرم الأربع التي كان الناس منذ أكثر من 1400 عام يحرمون فيها الصيد والقتال، ومن باب أولى أن يكون لدينا مدن يحرم فيها القتال والظلم”.
وعن توجيه المبادرة إلى خمس مناطق معينة يقول قاضي: “لأن الاستثناء رقم 22 الذي أصدرته وزارة الخزانة الأمريكية وأعفت من خلاله المستثمرين والشركات أن يحصلوا على إذن وزارة الخزانة والجهة المسؤولة عن الأصول الأجنبية خارج أمريكا بضم هذه المناطق”، ويوضح قاضي أن “المبادرة بدأت من الشمال الشرقي وهي المناطق التي شملها ذلك الاستثناء ومن بينها أعزاز والباب وعين عرب، ونتطلع إلى أن تكون هذه المناطق تلتزم بأن لا يجوز سفك دم السوريين ولا انتهاك عرضه ولا ماله ولا ابتزازه وأن يكون هناك قضاء منصف حقيقي كي يشعر الناس بالمساواة والعدل في تلك الأرض”.
ترتيب البيت الداخلي
“المبادرة في الأصل موجهة للقائمين على أمن الناس في هذه المناطق” هذا ما قاله قاضي الذي أضاف “بعد 12 عامًا، على هؤلاء أن يعطوا نموذجًا ولو مصغر عن كيفية إدارة المدن، والأمل أن تكون سوريا كلها أرضًا حرامًا، نبدأ بهذه المدن ونرى هل بإمكاننا فعلًا تطبيقها، وهل نستطيع إقناع الفصائل بأن تترك المدن والحواجز وتذهب إلى حدود تلك المدن وألا يكون لأحد منها أعمال وتجارة وصناعة كي لا تتدخل في حياة الناس”.
ويردف الدكتور قاضي “لا نريد لأي مؤسسة عسكرية أن تتدخل في الحياة المدنية، لا نريد واجهات رجال أعمال باسم الفصائل مثلما كان يفعل النظام السوري، هم مشكورون يحافظون على الأمن، فليحافظوا عليه عند الثغور وليتركوا أمر داخل المدن للشرطة مثل أي مدينة في العالم”.
يرى الدكتور قاضي أن هذه المبادرة هي “خريطة حقيقية لإعادة ترتيب البيت الداخلي في الثورة السورية ومن الخطوات اللازمة لإنجاح هذه المبادرة أن لا يكون هناك في الائتلاف تمثيل لفصائل، يجب على الائتلاف أن يحدد هويته كأنه جهة تشريعة وترتبط الحكومة المؤقتة كجهة تنفيذية فيها وزارة دفاع، ووجود الفصائل كممثل في هذه الجهة التشريعية هو تكريس للحالة الفصائلية وهو آخر ما كانت تتمناه الثورة السورية بما قدمته من شهداء وضحايا”.
وعن إمكانية تنفيذ هذه المبادرة يتحدث القاضي عن أن “الحكومة المؤقتة والحكومة التركية من يقع على عاتقهما إنجاح هذه المبادرة، كون أنقرة المتحكمة بالفصائل العسكرية، ومن هنا تستطيع السيطرة على الموقف وإنجاح الأفعال التي تؤدي لتغيير يحسن هذه المناطق، ويمكن لنا أن نستغل الظروف السياسية العالمية من أجل تحسين هذه المناطق ومنها تحسن العلاقات التركية الأمريكية بالإضافة إلى الاستعصاء الذي سببته الحرب الأوكرانية الروسية على أصعدة عدّة”.
ختامًا يرى قاضي أن “على السوريين المبادرة بترتيب البيت الداخلي وإقناع الأتراك والأمريكيين بأن تكون أرض الشمال السوري أرضًا حرامًا يأمن فيها الناس على دمهم وأعراضهم، على أمل أن يكون هناك سوريا واحدة حرام فيها الظلم وهو أمل الثورة وطموحها”.