ترجمة وتحرير نون بوست
تُعَد المنطقة الواقعة بين شرق المتوسط ومرتفعات الهندوكوش محور تركيز السياسة الأمريكية حاليًا، ولدى الولايات المتحدة في هذه المنطقة ثلاث مصالح أساسية: الحفاظ على توازن القوى، التأكد من أن عمليات استخراج وتصدير ونقل النفط تمر بيُسر دون اضطراب، والتغلّب على المجموعات الإسلامية التي تهددها، يتطلب ذلك تحقيق التوازن على ثلاثة أصعدة: بين العرب والإسرائيليين، وبين الهنود والباكستانيين، وبين الإيرانيين والعراقيين، والحقيقة أن كل ميزان من تلك الثلاثة مُختل بشكل كبير، لاسيما الميزان الإيراني العراقي الذي انهار بعد غزو العراق، وكذلك الهندي الباكستاني إثر تأثير عدم استقرار أفغانستان على باكستان.
المسألة الهندية
على عكس ما يبدو للكثيرين، تعد مسألة التوازن بين الهند وباكستان من أولويات السياسة الأمريكية، وهي مهدد بشدة نتيجة الوضع الأفغاني، والذي قد يتمدد بسهولة ليصل إلى باكستان ويهدد استقرار الدولة والاقتصاد فيها، بما يسمح بهيمنة الهند المطلقة، تقول الولايات المتحدة رسميًا إنها تملك هدفين رئيسيَّين في أفغانستان: منع القاعدة (وأخواتها) من استخدام البلاد كقاعدة لعملياتها، وقيام حكومة ديمقراطية مستقرة، بيد أن هذين الهدفين صعبا التحقق معًا لأن خلخلة التنظيمات المتطرفة، بالنظر لطبيعية الجغرافيا والمجتمع في أفغانستان، تتطلب زعزعة الاستقرار في البلاد، وهو ما يتنافى مع الهدف الثاني، بالإضافة إلى ذلك، محاولة التدخل بوضوح وعُمق في الوضع الأفغاني لتحقيق الأهداف الأمريكية، عبر تدريب وتشكيل قوات الشرطة والجيش الأفغانية، غالبًا ما يزيد الطين بلة.
لن تُحَل هذه المعضلة إلا إذا تراجعت الولايات المتحدة عن هوسها بمحاربة الإرهاب والتدخل في تفاصيل الوضع الأفغاني، واعترفت بأن طبيعة الدولة الأفغانية المستقرة التي قد تنشأ في المستقبل، لا يجب أن تكون متطابقة بالكامل مع الرؤية الأمريكية، الأهم من ذلك أيضًا، أن تدرك الولايات المتحدة أن أفغانستان وباكستان في الواقع كيان واحد، ويتشاركان الكثير إثنيًا وقبليًا، ولا يعني الخط الفاصل بينهما أي شيء بالنظر للواقع على الأرض، هذه الكتلة الواحدة، البالغ تعدادها مائتي مليون، لن تتمكن القوات الأمريكية، البالغ تعدادها مائة ألف في تلك المنطقة فقط، من تشكيلها كما تشاء.
بجانب كل هذا، تظل المسألة الإستراتيجية الأساسية في الحقيقة هي التوازن بين الهند وباكستان، وليس تفاصيل الوضع الأفغاني، فالتوازن بينهما أمر ضروري للسياسة الأمريكية في المنطقة، وهو أمر يسري حتى الآن، ولكنه قد ينهار في أي لحظة إذا ما انفرط عقد باكستان تحت ضغوط الفوضى الأفغانية، وهو ما يعطي فرصة تاريخية للهند للتركيز على موازنة الصين ومحاولة تحقيق الهيمنة المطلقة في حوض المحيط الهندي، تحوّل كهذا لا ترغب به الولايات المتحدة إطلاقًا، وهو مسألة أكثر إلحاحًا إستراتيجيًا من محاربة الإرهاب في أفغانستان أو بناء دولة ديمقراطية فيها؛ لذلك، ستكون الأولوية الأمريكية في العقد المقبل تعزيز قوة الدولة والجيش الباكستانيَّين للإبقاء على التوازن في المنطقة، والإسراع في إنهاء الحرب في أفغانستان وتوسيع الدور الباكستاني فيها لأنه الأقدر على تحقيق الاستقرار هناك، وهو العالم بخباياها، مقارنة بالدخيل الأمريكي الذي لن يغيّر وجوده حقيقة عودة الجهاديين، طالبان ستعود، لا شك، وتلك ليست مأساة، إذ تستطيع باكستان قوية أن تضبط حدود قوتها بعلاقاتها معها.
استحالة إقصاء إيران
منذ سقوط العراق عام 2003، ولا يبدو أن هناك قوة تمنع إيران من التمدد المُطلق في العراق والهلال الخصيب بأكمله سوى الولايات المتحدة ووجودها العسكري، يمثل هذا الوضع تحديًا كبيرًا للسياسة الأمريكية في المنطقة، رغم أنها في الواقع السبب في ذلك بشكل واضح، لاسيما والدول الأخرى لا يمكنها أن تحقق التوازن المطلوب مع إيران، فتعداد الجزيرة العربية بالكامل يماثل نظيره الإيراني (70 مليون نسمة)، كما أنه منقسم بين عدة دول وثلثه في اليمن الضعيف والمفكك، أضف إلى ذلك أن تعزيز ودعم الدور السعودي وقوته الاقتصادية بجانب الثروة البشرية العراقية، يمكن أن يحقق التوازن مع إيران وصد نفوذها (كما جرى في الحرب العراقية الإيرانية)، أو مع تركيا، ولكن ليس مع كليهما في نفس الوقت – وهو أمر مستبعد أصلاً بالنظر للعلاقات السعودية العراقية حاليًا -، من ناحية الاعتماد على تركيا في صد إيران، لا يبدو أيضًا أن قوة تركيا الصاعدة، والتي لاتزال محدودة نسبيًا، يمكن أن تصل إلى الخليج الفارسي، فجلّ ما تستطيع تركيا فعله هو استنزاف إيران في شمال العراق والشام لشغلها عن الخليج – ونحن لسنا متأكدين أصلًا من أنها تريد ذلك -.
اختصارًا، تبدو إيران اليوم في وضع استراتيجي وعسكري يحسدها عليه الجميع، حيث يبدو ولأول مرة منذ قرون أن الأمور في شرقها وغربها وشمالها مواتية لنشر قوتها وعدم شعورها بالخطر، ففي الغرب، ينشغل العراقيون في صراعات داخلية بدلاً من توجيه قوتهم إلى الخارج، وفي الشمال، تفصل إيران عن روسيا بلدان القوقاز، وفي الشرق لا يمكن لأفغانستان وباكستان أن تشكلا أي خطر لتعثرهما في الفوضى الحادثة داخلهما، وانشغال الأخيرة تحديدًا بالهند.
اللافت للنظر هنا أن هذه القوة الإستراتيجية لا يؤثر فيها وجود الأسلحة النووية من عدمه، فإيران ستجني ثمار وضعها هذا لفترة طويلة دون الحاجة إلى الردع النووي، وتلك ربما إحدى أسباب مرونتها في المفاوضات الدولية بشأن برنامجها، فإذا افترضنا أن إيران تملك سلاحًا بالفعل وتم تدميره بشكل ما، لن يحقق هذا على الأرض أي زيادة في شعور الخليج بالأمن، والذي سيظل بكل المعايير، العسكرية والديمغرافية والسياسية، أضعف من أن يوازن القوة الإيرانية، أضف إلى ذلك أن مهاجمة إيران حاليًا ستؤدي إلى ردود أفعال خطرة وغير محسوبة من طهران، ليس أقلها محاولة إغلاق مضيق هرمز وتلغيمه، وهو أمر تستطيع البحرية الإيرانية فعله، وسيؤدي بالطبع إلى مزيد من التوتر في تلك المنطقة ويؤثر على تجارة النفط والاقتصاد العالمي كله.
عن أهمية إيران للعقد المقبل
تبدو احتمالات التعامل الأمريكي مع إيران محصورة في خلق تحالف معها، وهو أمر لا يمكن تصوّره اليوم، كما لم يكن ممكنًا أثناء الحرب البادرة تصوّر وجود تحالف بين الولايات المتحدة والصين الشيوعية (وهو ما حدث لمواجهة الخطر السوفيتي الأكبر)، ولا تحالف بين الولايات المتحدة وروسيا الستالينية أثناء الحرب العالمية الثانية (وهو ما حدث لمواجهة الخطر الألماني الأكبر)، ولكن رغم الكراهية التي تبعد البلدين عن بعضهما البعض، يبدو في الحقيقة أن أيًا منهما لن يدمّر الآخر مثلما حاول في السابق، كما يتضح اليوم أن أعداءهما المشتركون كُثُر، ومصالحهما المشتركة كذلك، الحل الواقعي إذن هو أن يستفيد الطرفان من وجود بعضهما البعض.
أولاً، تحتاج الولايات المتحدة إلى تأمين مضيق هرمز كممر ملاحي هام لتجارة النفط العالمية، وهو هدف صعب في الوقت الذي تحاول فيه تخفيف وجودها العسكري بالمنطقة، وهو هدف لإيران أيضًا على عكس ما قد يبدو للبعض، نظرًا لأنها في الأصل بلد نفط، ولأنها لا تريد عرقلة تصدير النفط عبر هرمز، بل تحقيق الاستفادة من تلك المليارات المارة عبر المضيق يوميًا.
ثانيًا، إثر تراجع القوة الناعمة الإيرانية بشكل كبير في المنطقة، يبدو أن إيران اليوم بحاجة إلى حماية نفسها ودورها الشيعي في العالم الإسلامي، لاسيما والمتطرفون من السنة يزدادون نفوذًا إلى غربها وشرقها (داعش وطالبان بالأساس)، وتلك ربما واحدة من أهم المصالح التي تجمعها مع الولايات المتحدة.
ثالثًا، لا ترتاح إيران أبدًا لوجود الأمريكيين على حدودها من الخليج والعراق وتركيا حتى أفغانستان وباكستان وأسيا الوسطى، وهي سترحب جدًا برحيل هذا الوجود وتخفيفه، للمفارقة، يبدو أنه حتى في هذا الهدف هناك مصلحة مشتركة، إذ تعكف الولايات المتحدة بالفعل على الانسحاب من تلك المناطق بشكل جزئي لتعزيز وجودها في شرق أسيا حيث تضطرب الموازين الصينية اليابانية بشكل كبير، وهو ما يعني أن إيران، واحدة من أكثر الدول قوة واستقرارًا، يمكن أن تساعد على تحقيق ذلك بشكل سلس.
يقول المعارضون للانفتاح على إيران أنها ستستغل هكذا تقارب بشكل سيء، وقد ينتهي بها الأمر لتضرب دول الخليج، بيد أن هذا أمر بعيد للغاية إن لم يكن خياليًا، لأن العسكرية الإيرانية لا تملك تلك القدرة، ولأن الولايات المتحدة ستظل باقية في الخليج بما يكفي لردع إيران، كما أن الانفتاح وما سيعنيه ذلك من فتح باب الاستثمارات في إيران وفتح السوق العالمية على النفط والغاز الإيرانيَّين، سيجعل من خيار كهذا خطرًا على إيران نفسها واقتصادها، وصورتها التي تتحسّن تدريجيًا في العالم الغربي.
لنُقنِع إسرائيل ونتجاهل السعودية!
ما هو الثمن الذي ستدفعه الولايات المتحدة؟ سيكون الثمن غالبًا تراجع التحالف القائم بينها وبين السعوديين والإسرائيليين، فتحالف كهذا سيعني تراجع القوة السياسية والاقتصادية للخليج في مواجهة إيران، وهو أمر لن يهم الولايات المتحدة كثيرًا طالما ظلت تجارة النفط مستقرة وسارية، أيضًا، ورغم أهمية العلاقات الأمريكية الإسرائيلية والتي تتراجع منذ سنوات، لا يبدو أن الولايات المتحدة تفكر في الملف الإيراني وهي تضع إسرائيل في الاعتبار، فإسرائيل بالنسبة لها حليف في منطقة أخرى ممتدة من مصر إلى الشام، أما المنطقة الممتدة من العراق وتركيا وإلى باكستان والهند، فهي منطقة بعيدة عن إسرائيل، لاسيما وهي دولة صغيرة – رُغم قوتها العسكرية – بشكل لا يسمح لها بلعب دور أسيوي صريح، على العكس من إيران ذات الثقل والتاريخ هناك.
هل لا تزال إسرائيل تفكر في ضرب إيران؟ في الحقيقة هذا الخيار موجود على الطاولة في إسرائيل طوال الوقت، ولكن بدون الولايات المتحدة، لا يمكن لقوة إسرائيل مهما كانت، وبالنظر لبُعد المسافة الجغرافية بين البلدين، أن تدمر القوة العسكرية والنووية الإيرانية، كما أن التصرف بشكل منفرد سيزيد الطين بلة في العلاقات مع الولايات المتحدة، ويهدد تعاون إسرائيل مع دول مثل أوربا وروسيا، ونفوذها في المحافل الدولية، وصورتها في الرأي العام الغربي التي تتراجع جراء سياساتها اليمينية المتطرفة حاليًا.
إذن، سيشكل اللوبي السعودي في أمريكا، معززًا بالشركات الأمريكية الكبرى في الخليج، الضغط الأهم لكبح جماح هذا التوجه الأمريكي نحو إيران، في حين يبدو أن اللوبي اليهودي سيكون الأكثر قابلية للاقتناع ربما، بالنظر لأن عدوه الأساسي في نهاية المطاف هو العالم العربي، وإن كانت إيران قد حلت على قائمة اهتمام الإسرائيليين بشكل أساسي منذ الثمانينيات حتى نهاية العقد المنصرم، فإن ذلك ما كان ليحدث لولا التطبيع مع مصر، وغياب أعداء عرب حقيقيين، هذا في الواقع في طريقه للتغيّر نظرًا لما أحدثه الربيع العربي، خاصة مع صعود الإسلاميين بشكل عام في سوريا، وداعش خصوصًا، وكذلك اضطراب الوضع في مصر وليبيا، وهو ما يعني أن إيران قد تنزل إلى مراتب دُنيا على سلم الأعداء الذين يهددون إسرائيل، علاوة على ذلك، ما سيشكله تعزيز الدور الإيراني من ضغط على تلك الجماعات الإسلامية الأقرب جغرافيًا لإسرائيل، قد يغري اللوبي اليهودي للموافقة على هكذا صفقة.
من ناحيتها، ماذا ستسفيد الولايات المتحدة؟ بجانب العمل مع إيران على أهداف مشتركة عدة، ستتمتع الولايات المتحدة لبعض الوقت ببعض المكاسب المعنوية في الشارع الغربي، أولها أنها ستُظهِر أن اللوبي اليهودي ليس الآمر الناهي كما يُشاع، وثانيها – وهو الأهم – أنها ستبتعد قليلاً عن النظام السعودي سيء السمعة في العالم كله.
تركيا ستظل الأهم
ماذا عن تركيا وموقفها من كل هذا؟ لن يعجب تركيا بالطبع أن تكون إيران أكثر قوة منها، خاصة في الخليج حيث تتطلع تركيا إلى البحث عن مصدر بديل للنفط الروسي، ولكن مواجهة إيران غير محتملة لأسباب كثيرة، أبرزها أن قوة تركيا تتجاوز مجرد الانحصار في الشرق الأوسط، فهي موجودة في البلقان وأسيا الوسطى، وهي موجودة في أوروبا أيضًا حيث يُعد جيشها، بجانب الجيشين الروسي والبريطاني، الأقوى في القارة، كما أنها قد تستفيد من الانفتاح الاقتصادي على إيران بالنظر لأنها ستكون المعبر الرئيسي للنفط والغاز الإيرانيَّين، بالإضافة إلى ذلك، تبدو تركيا كبلد أكثر دينامية من نواحٍ عدة بشكل يصعب معه أن تكون إيران قادرة على احتوائها باقتصادها وثقافتها وجيشها، السبب الأهم لعدم مواجهة تركيا لإيران والعكس، هو أن كلتا القوتين ستستفيدان إذا تحالفتا أكثر منهما في حال اصطدامهما.
هذه النقطة الأخيرة هامة للغاية، إذ يجب على الأمريكيين ضمان ألا يتحول البلدان إلى تشكيل تحالف في مواجهة مصالحها، خاصة وأن تركيا هامة للدور الأمريكي العالمي، إذ إنها قوة بحرية أكبر وأهم من إيران (وقد كانت كذلك تاريخيًا، على عكس إيران التي طالما كانت قوة برية بالأساس نظرًا لعدم أهمية الخليج الفارسي مقارنة بالمتوسط)، كما أنها مهمة للتوازن مع روسيا، وهو توازن ستظل تحتاجه ربما إلى الأبد لأن قواعد الجغرافيا هي التي تمليه، وهو توازن تشترك فيه مصلحة البلدين، إذ تشكل تركيا حائط صد مهم لأوروبا بمواجهة تمدد روسيا إلى الجنوب الغربي، خاصة في البلقان.
***
المختصر المفيد إذن، هو أن الولايات المتحدة ستتجه بالفعل إلى محاولة التقارب مع إيران لمواجهة الأعداء المشتركين ورغبةً في الانسحاب الجزئي من المنطقة بشكل سلس؛ تحالف كهذا سيضع الخليج كله تحت نفوذ نسبي إيراني، لاسيما فيما يخص سياسات النفط داخل الأوبك، وهو نفوذ لن يعجب تركيا بشكل تضمن به الولايات المتحدة ألا تتحول تركيا للتحالف مع إيران، وفي نفس الوقت الحفاظ على علاقات قوية مع تركيا الصاعدة على ما يبدو باعتبارها القوة الأبرز في المنطقة في العقود القادمة شئنا أم أبينا، وبما يمكّن الولايات المتحدة من تعزيز الدور التركي لموازنة إيران في نفس الوقت.
الحفاظ على الميزان التركي الإيراني الدقيق هذا، وعلى علاقات وطيدة مع الطرفين تكون معها الولايات المتحدة أقرب لهما من بعضهما، سيخلق الظروف المناسبة لتحقيق الأهداف الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة.
المصدر: ستراتفور