غلاء غير مسبوق.. التضخم يضرب سوق الأضاحي

يأتي عيد الأضحى هذا العام في ظل موجة تضخم لم يشهدها العالم من قبل، سيكون لها ارتدادتها العكسية على استقبال العيد والاستمتاع به، ولعل من أبرز الآثار الناجمة عن تلك الموجة التضخمية العالمية سوق الأضاحي الذي ينتعش في مثل هذا التوقيت من كل عام.
وقد تلقى هذا السوق الذي يتسع لـ1.8 مليار مسلم ضربة موجعة خلال الأيام الأخيرة بعدما قفزت أسعار الأضاحي بصورة كبيرة دفعت الكثير ممن اعتادوا الشراء والذبح التراجع عن هذا القرار في ضوء تجاوز الأسعار قدراتهم الشرائية التي تأثرت هي الأخرى بمعدلات التضخم المرتفعة.
وفي الوقت الذي كان يعول عليه تجار الأبقار والجاموس والأغنام والماشية لتعويض خسائر العامين الماضيين منذ تفشي جائحة كورونا، إذ بهم يتعرضون لانتكاسة جديدة بعد التداعيات الاقتصادية السلبية للحرب الروسية الأوكرانية التي ألقت بظلالها القاتمة على المشهد الاقتصادي برمته ومن بينه اقتصاد الأضاحي.
اقتصاد الأضاحي
ينتعش سوق المواشي قبيل عيد الأضحى المبارك في ضوء زيادة الطلب عليها في بلدان العالم الإسلامي بوجه عام، إذ يحرص الغالبية العظمى على تقديم الأضحية رغم مستوياتها المادية المتوسطة، إلى الحد الذي قد يلجأ فيه البعض إلى الاقتراض من أجل الالتزام بتلك الشعيرة.
الكاتب السعودي، سعود بن هاشم جليدان، يرى أن الطلب السنوي على الأضاحي في السعودية فقط يتجاوز 4 ملايين رأس، وقد تصل إلى أكثر من 5 ملايين إذا أضيف إليها ما يقدمه الحجاج خلال أداء الفريضة، لافتًا أن بلاده استوردت في 2014 فقط نحو 9 ملايين رأس من الأغنام والماعز لتلبية تلك الاحتياجات خاصة أن بعض الأسر لا تكتفي بأضحية واحدة.
ويشير جليدان إلى أن متوسط سعر الأضحية قبل 6 سنوات تقريبًا كان 400 ريال للرأس الواحدة، تزيد إلى ألف ريال في بعض الأحيان خاصة لدى الرؤوس المستوردة من الخارج، وعليه فإن تكلفة الأضاحي السنوية تبلغ قرابة 5 مليارات ريال، تزيد بنسب معينة إذا أضيف لها الاستهلاك العادي اليومي بعيدًا عن الأضحية.
ليس من الموضوعي تقييم حجم سوق الأضاحي في العالم العربي والإسلامي قياسًا بالسوق السعودي الذي يتمتع بخصوصية تميزه عن غيره، ماديًا بحكم المستوى المادي الكبير وظرفيًا بحكم احتضان المملكة لبيت الله الحرام ورعايتها لفريضة الحج وكونها مكان الهدي والنحر السنوي، بحسب الكاتب الذي افترض أن يكون عدد الأضاحي في باقي العالم الإسلامي يساوي 20% من نسبتها في الخليج، ومن ثم فإن هذا العدد يقترب من 50 مليون رأس بما يصل أو يتجاوز عشرة مليارات دولار.
وبقياس معدلات الزيادة في الأسعار ونسب التضخم خلال السنوات الثماني الأخيرة، من 2014 وحتى 2022 وفق المؤشرات الدولية والتقديرات الرسمية وغير الرسمية التي وصلت في بعض الأحيان إلى أكثر من 100% فإن سوق الأضاحي في العالم الإسلامي يقترب من حاجز الـ20 مليار دولار، رغم عدم وجود إحصاء رسمي موثق لحجمه الحقيقي.
ارتفاع جنوني في الأسعار
شهدت أسعار الأضاحي ارتفاعات كبيرة خلال الأشهر الأربع الماضية منذ فبراير/شباط وحتى اليوم، فيما تعرضت في مجملها لهزات عنيفة خلال العامين الماضيين على العموم منذ حالة الشلل التي خيمت على الخريطة الاقتصادية العالمية جراء كورونا، وهو ما أثر على حركة البيع والشراء في هذا السوق.
وزادت الأسعار في مصر بنسبة 30% منذ بداية العام الحاليّ، فقد وصل سعر كيلو اللحم 185 جنيهًا (الدولار يساوي 18.85 جنيه)، فيما قفز سعر العجل البقري إلى أكثر من 50 ألف جنيه في المتوسط بحسب الغرف التجارية المصرية، وسط توقعات بزيادات أخرى خلال الأيام المقبلة.
أما في الأردن فارتفعت الأسعار بنسب كبيرة حيث وصل سعر الأغنام المستوردة إلى 150 دينارًا للرأس الواحد (دولار الأمريكي = 0.70 دينار أردني)، أما الخراف البلدية فتراوحت أسعارها بين 190 – 200 دينار، في حين تقدر أسعار العجول المستوردة ما بين 2000-2200 دينار، تقابلها أسعار العجول البلدية بين 2200-2400 دينار.
وبنسبة تتجاوز 70% عن العام الماضي، زادت الأسعار في السوق السوري، حيث بلغ الحد الأدنى للأضحية 150 ألف ليرة سورية (دولار الأمريكي = 3975 ليرة سورية)، ويصل في بعض الأحيان إلى 250 ألف ليرة، فيما زادت أجور الجزارين من 1000 إلى 3500 ليرة، بحسب وسائل إعلام سورية كشفت عن ارتفاع الأسعار في المجمل بالبلاد إلى 12 ضعفًا خلال السنوات الأخيرة.
وفي السياق ذاته شهدت الأسعار قفزة جديدة في العراق، إذ تتراوح أسعار الأضاحي بين 250 – 500 ألف دينار (الدولار الأمريكي = 1.448 دينار عراقي)، في الوقت الذي اقتربت فيه أسعار العجول من مليون و300 ألف دينار عراقي، وفقًا لموقع “البرق 24” المحلي، وفي السعودية ارتفعت الأسعار من 1500 ريال للأضحية الواحدة العام الماضي إلى 2200 ريال العام الحاليّ (الدولار الأمريكي = 3.75 ريال سعودي).
وتتراوح الأسعار في المغرب بين 200 – 300 دولار للأضحية الواحدة في المتوسط، وقد تصل في بعض الأحيان إلى 550 أو 600 لدى أصناف بعينها كـ”الصردي” (إحدى سلالات الأغنام الجيدة)، وفي الجزائر تحافظ الأسعار نسبيًا على معدلاتها المستقرة دون زيادات كبيرة كما هو الحال في بقية البلدين، إذ يتراوح سعر الخروف بين 18.000 و33.000 دينار جزائري (الدولار الأمريكي = 145.96 دينار جزائري).
ويُرجع الخبراء زيادة أسعار الأضاحي في الوطن العربي إلى ارتفاع قيمة مكونات الأعلاف المستوردة التي يعتمد عليها النظام الغذائي للمواشي والأغنام، أبرزها الذرة والفول الصويا، فقد ارتفعت أسعار الذرة هذا العام من 4.4 دولار للبوشل (وحدة قياس تساوي 20.5 كيلوغرام) إلى من 7.7 دولار مسجلة أعلى معدل لها منذ 2012، كذلك الفول الصويا بمعدلات الارتفاع ذاتها تقريبًا، وفقًا لوكالة “بلومبرغ”.
وعن تأثير الأسعار على حركة السوق، يقول عبد الراضي الذي يعمل تاجر مواشي في أحد أسواق العبور بالقاهرة، إن الزيادات الكبيرة التي شهدتها أسعار الأضاحي أثرت بشكل كبير على البيع والشراء، حيث يعاني السوق طيلة الشهر الماضي من ركود واضح، امتنع الكثيرون عن الشراء مقارنة بالأعوام الماضية، فالبقرة التي كان سعرها لا يتجاوز 18 ألف جنيه العام الماضي قفز سعرها هذا العام ليتجاوز 45 ألف جنيه، وتابع في حديثه لـ”نون بوست”: “ليس لنا ذنب في ذلك، أسعار الأعلاف قفزت بجنون وتكاليف التربية ارتفعت بشكل غير متوقع ولا نمنح أي دعم من أي جهة كما يفعلوا مع غيرنا في الدول الأخرى”.
أسعار الأضاحي تصل إلى 2000 ريال، وأحد باعة الأغنام يؤكد:
السبب هي “الأعلاف” واحتكار السوق.
— هاشتاق السعودية (@HashKSA) July 2, 2022
بعد اجتماعي مهدر
تأثر سوق الأضاحي بموجة التضخم العاتية الحاليّة وتراجع الكثيرين من المسلمين عن تقديم الأضحية هذا العام بسبب الأسعار المرتفعة التي تفوق قدراتهم المحدودة، لا شك أن لذلك بعدًا اجتماعيًا مؤثرًا، حيث تفقد الكثير من الأسر موردًا أساسيًا ومضمونًا للحصول على اللحوم التي تعد لدى البعض حلمًا بعيد المنال.
كثير من الأسر تنتظر قدوم عيد الأضحى لجمع أكبر قدر من اللحوم بما يكفيها لأيام وأسابيع قادمة، فبعضهم لا يتناولها إلا في المناسبات فقط كما أشار “أبو عمار” (45 عامًا) الذي كشف أن قطاعًا كبيرًا من المصريين يعتمد على لحوم الأضاحي لإدخال البهجة على أبنائهم في العيد.
وأوضح الشاب المصري الذي يعمل “كهربائيًا” أن كثيرًا ممن اعتادوا التضحية سنويًا في الشارع الذي يسكن فيه بمحافظة القاهرة لن يقدموا على الأضحية هذا العام بسبب أسعارها المرتفعة، مؤكدًا أن ذلك سينعكس على الفقراء ومحدودي الدخل ممن كانوا ينتظرون هذه المنحة الربانية كل عام، بحسب حديثه لـ”نون بوست”.
في دراسة نشرها موقع “العلوم السياسية في الشرق الأوسط” للباحث في الجامعة الأمريكية في بيروت رامي خوري عن معدلات الفقر في الدول العربية كشفت أن 116 مليون نسمة في 10 دول عربية مصنفين كفقراء، ما نسبته 41% من إجمالي عدد السكان بها، فيما كشفت أن 25% من سكان الدول الأخرى ضمن فئة المعرضين للفقر، بما يعني أن أكثر من 60 % من العرب فقراء أو معرضون للفقر بتعداد يتجاوز 250 مليون من إجمالي 400 مليون مواطن هم سكان المنطقة العربية.
وفي الأخير، من الواضح أن الضربة التي وجهتها معدلات التضخم المرتفعة لن تصيب البلدان التي تعتمد على هذا النوع من الثروات لإنعاش اقتصادها، ولا التجار الذي يشكل هذا السوق مصدر دخلهم الوحيد، فحسب، بل تتجاوز آلامها إلى المطحونين من أبناء الأمة ممن ينتظرون تلك الأيام بفارغ الصبر لإدخال البهجة على ذويهم المحرومين من هذا النوع من الطعام في ظل أزمة الغذاء الطاحنة التي تعصف بالجميع.