من ينبش التاريخ الفلسطيني يجد أن هذه البلاد نافست حتى أوجدت لأبنائها مكانة في عدة مجالات، ومنها الصحافة الساخرة التي انتعشت في النصف الأول من القرن العشرين وتصدّرت الفنون الصحفية، حيث قدّمت محتوى سياسيًّا واجتماعيًّا في قالب فكاهي ساخر، على الرغم من أنه ليس سهلًا أن يعيش الكاتب الساخر في مجتمع ملغّم بالوقائع، فكل كلمة يتفوّه بها قد يدفع ثمنها غاليًا يصل حد القتل أو السجن، لما يمتلكه من أدوات لنشر رسالته الساخرة إلى أكبر قاعدة جماهيرية كونه يحاكي المواضيع السياسية والحياتية بطريقة ساخرة، من أجل النقد لإحداث تغيير قد يودي بمناصب الحاكم والمسؤولين.
لكن أصر الكتّاب الفلسطينيون على استخدام الصحافة الساخرة منذ عقود طويلة لعدة أسباب، منها أنها أسلوب لقول الحقيقة لأصحاب السلطة والقوة دون تجريح وبعيدًا عن القدح والذم، خشية أن تكون النهاية عقابًا.
يستعرض “نون بوست” أبرز الصحف الفلسطينية الساخرة قبل النكبة، وكيف ساهمت في السخرية من الواقع السياسي والحياتي بشكل عام لتحدث تغييرًا على أرض الواقع، بالإضافة إلى تطور الكتابة الساخرة في الوقت الحالي والأدوات التي يمتلكها الكاتب ليوصل فكرته ويبعد الشبهة عنه كي لا يقع في فخّ المساءلة أو الاعتقال، بفعل الظروف السياسية الدسمة التي تعيشها البلاد حيث الاحتلال والانقسام السياسي.
أبرز الصحف الساخرة قبل النكبة
– المهماز: مجلة أسبوعية ثقافية وسياسية ساخرة بطابعها صدرت في حيفا عام 1946، حرّرها إميل حبيبي وحنّا نقّارة ويوسف مجدلاني، وكتب فيها الشاعر أبو سلمى، واتّخذت موقفًا داعمًا لمقاطعة المصالح اليهودية.
كانت أهدافها المركزية التأكيد على الخطاب الوطني الفلسطيني المستند إلى المبادئ الديمقراطية، ومناهضة الهجرة الصهيونية وبيع الأراضي، والدعوة إلى إقامة حكومة فلسطينية مستقلة، كما اعتمدت أسلوبًا ساخرًا في طرح قضاياها معتمدة على الرسوم الكاريكاتورية.
صدر العدد الأول من المجلة يوم 10 فبراير/ شباط 1946، إلّا أنها توقّفت بعد أقل من سنة من صدورها (غير واضح متى تحديدًا، ولكن العدد الأخير المتوفر في المكتبة هو العدد 27 ويعود إلى يوم 18 أغسطس/ آب 1946)، والمؤكد أن المجلة لم تصدر أكثر من سنة بحسب الموسوعة الفلسطينية.
– الطبل: صدرت في دمشق عام 1920 ثم انتقلت إلى القدس ثم حيفا، وشعارها “قل لمن حاد عن سبيل هُداه احذر الطبل فهو بالمرصاد”.
وتُعتبر “الطبل” جريدة “يومية عربية اجتماعية نقدية فكاهية حرة”، وكانت تصدر مرة في الأسبوع، مرة بـ 4 صفحات ومرة بصفحتَين وأحيانًا بحجم مجلة صغيرة، كما صدرت بأوقات مختلفة تبعًا لأهواء ناشريها.
لقد كانت تدعو دومًا إلى خدمة المصلحة العامة، وكان مبدأها “الحق يعلو ولا يُعلى عليه”، وخطّت ذلك بالبحث في كل أمر يعود نفعه على الأمة والوطن، ولم تنطق إلا بلسان حال الشعب العربي الفلسطيني، على ما جاء في تعريفها لنفسها.
– المطرقة: صدرت في يافا عام 1933 وحرّرها خليل أبو العافية، جاء في افتتاحية عددها الأول: “أهلًا بمطرقة العذاب على العقول الضيقة”، أُلغيت عام 1936 وكانت أسبوعية هزلية.
وتُعتبر جريدة انتقادية أدبية اجتماعية فكاهية مصوّرة، صدر العدد الأول منها في يافا بتاريخ 25 مارس/ آذار 1933، وقد كانت مليئة بالخواطر والأحاديث والصور الساخرة، وكتب محررها أن الصحيفة “لا تُعنى بالسياسة ولا بالحزبية”، ومع ذلك وقفت الجريدة إلى جانب مفتي القدس آنذاك أمين الحسيني.
كانت تُكثر من الانتقاد والسخرية مستخدمة الشعر الفصيح والعامي والمقالات اللاذعة، كتبت مرة عن مؤتمر للأطباء قرّرَ تشخيص جسد الأمة العربية، فوجد أنها مصابة بعدة أمراض، منها الزوائد اللسانية، والسيلان الكلامي، والمغص في الجيوب، وتورُّم الزعامة، وهستيريا الخطابة، ومنخوليا التفكير، واستماتة الأعصاب، والتشنُّج ضد الإصلاح والكساح عند العمل والفلاح، والعقم في التضحية والكفاح.
وكتبت في عدد آخر عن موظف تمَّ تعيينه لأنه يملك إلى جانب الشهادة الجامعية شهادتَين إضافيتَين، هما شهادة أن لا إله الا الله، وشهادة حَسَب ونَسَب.
كما برعت في الانتقاد الساخر وتغطية اجتماعات الأحزاب والقوى والشخصيات الوطنية على نحو انتقادي هزلي، مستخدمة المأثورات والحِكَم، وراسمة مظهرًا هزليًّا لكل واحد من المشاركين.
– جراب الكرديّ: صدرت في حيفا عام 1908، حرّرها متري الحلّاج ثم تلاه توفيق جانا، لتتحول إدارتها فيما بعد إلى باسيلا الجدع وخليل نصر، ثم انتقلت إلى حمص في سوريا ثم إلى حماة ثم عام 1920 إلى دمشق، وهي جريدة ناقدة وساخرة وفكاهية.
“جراب الكردي” تعبير يستعمله الناس كناية عن الجراب الذي يتّسع لكل شيء، وقد جاء التعبير ليقول إن الجراب الذي كان يحمله الأكراد تجد فيه كل ما تريد، فقد كان الكردي يحمل معه جرابًا مصنوعًا من جلد الماعز خلال سفره، ويضع فيه كل ما يلزمه للسفر، فيكون أشبه ببيت متنقّل.
جاء في افتتاحية أحد الأعداد حول الجريدة: “اللهمّ يا من جعلت الجراب تفكهة لأولي الألباب، وجعلته للحمارة خير خلف لخير سلف وأرحتنا من لبيط الحمارة وصياح الأولاد في الحارة، وجعلت القول خير المأكول، والبصل خير ما حصل، وجعلت كلمتنا فوق كل كلام وسهامنا أشد من ضرب الحسام، هبنا اللهمّ الصبر على الكردي وجرابه كما ألهمتنا الصبر على نهيق الحمارة وغضب الجار والجارة”.
بالصوت العالي.. وجبة سياسية ساخرة
لم تتوقف الصحافة الساخرة في فلسطين يومًا، رغم تخفّي بعض كتّابها تحت أسماء مستعارة خشية الملاحقة، واليوم في ظل الانقسام السياسي دوى الكاتب الصحفي وسام عفيفة “بالصوت العالي” ليصل إلى شريحة كبيرة من الغزيين عبر مقال أسبوعي له، يمنح فيه القارئ وجبه سياسية ساخرة حين ينتقد الواقع الغزي.
يقول عفيفة لـ”نون بوست”: “الصحافة الساخرة أحد أشكال التعبير عن هموم المواطن عبر وسائل الإعلام للتحايل على واقع الأنظمة السياسية، حيث يمكن من خلالها كسر القيود المفروضة (..) وهي وسيلة للتعبير بالتصريح أو التلميح لانتقاد الظواهر السلبية”.
ويشبّه الصحافة الساخرة بالهجاء قديمًا حين استخدمه الجاحظ والفرزدق في النقد، مشيرًا إلى أن هذا اللون من الصحافة ينسلُّ إلى عقول المستمعين ويترك أثرًا كبيرًا لديهم ويعبّر عن المثل القائل “شرّ البلية ما يضحك”.
ويعتبر من خلال تجربته أن الصحافة الساخرة رغم صعوبتها إلا أنها الأقرب إلى المواطنين، كونها تخاطب الشرائح الشعبية ولا تقتصر على النخبة، فاللغة العامية المستخدمة لعبت دورًا في الوصول إليهم.
ويرى عفيفة أن الكتابة الساخرة تجعل كاتبها أمام محاكمة من انتقدهم طيلة الوقت، فينصبون له “مشنقة رقيب” بحيث يتمّ استدعاؤه بسهولة في كل مرة يريد أحدهم الوشاية ضده والكيد له، كما يحدث معه من حين إلى آخر.
وعن لجوئه إلى الكتابة الساخرة في الوقت الذي كان يعيش فيه قطاع غزة الحصار والانقسام السياسي، يقول: “يظن الكاتب في البداية أن حجم تأثير كتاباته بسيط لكن يفاجأ عند احتكاكه بالمواطن أنه قارئ جيد وتعلق تلك العبارات اللاذعة المكتوبة بطريقة ساخرة بعقله، فهي فيها عناصر الجرأة ومخاطبة وجدان المواطن بلغته فيقدّم له وجبة شهية دون ملل بشكل دوري”، مضيفًا: “في المقابل هذا اللون يدفع صاحبه الثمن على حساب موقعه في العمل وحياته الأسرية”.
وفي ظل الإعلام الرقمي تأثرت الفنون الصحفية، وهنا يعقّب عفيفة: “الصحافة الرقمية من وجهة نظري أثّرت بشكل سلبي على كتابة النص الصحفي الساخر بطريقته السليمة، حيث ظهرت نصوص مجتزئة تتناسب مع الناشر الإلكتروني”.
وتابع: “ظهرت أشكال جديدة خطفت الكتابة الساخرة ومنها “الستاند اب كوميدي”، فبدلًا من كتابة مقال أصبح يقف الشخص أمام الكاميرا ينتقد بأدواته الجاذبة “الصوت والصورة والمونتاج””، مشيرًا إلى أن ذلك أدّى إلى فقر في نصوص الكتابة الساخرة.
“هرطقات فلسطينية” يدفع كاتبها الثمن
وإلى الضفة المحتلة حيث يقيم الكاتب الساخر حسام أبو النصر، بقيَ يسخر من واقعه السياسي عبر “هرطقات ” ينشرها في الصحف الفلسطينية التي توقفت عن استقبال كتاباته الساخرة، فلجأ إلى نشرها عبر مدونة خاصة به وصفحته على فيسبوك.
يذكر الكاتب أبو النصر لـ”نون بوست” أن فلسطين بعد نكبة 1948 مرّت بكثير من التقلبات السياسية وابتعد الكتّاب عن الصحافة الساخرة، لكن قبل 40 عامًا تنوّعت ما بين الكتابة والكاريكاتور الذي أبدع فيه ناجي العلي آنذاك.
ولفت إلى أن الأوضاع السياسية الأخيرة في فلسطين أفرزت عددًا من كتّاب الصحافة الساخرة ذات المخالب لتغيير الواقع وتسخر من السياسيين المتمسّكين في الحكم بالضفة وقطاع غزة، مشيرًا إلى أنه رغم وجود عدد من الكتّاب الساخرين إلا أن كثيرًا منهم تراجعَ بسبب الجهات الأمنية التي أوجعتهم بسبب جرأتهم من نقد الواقع، فتأثّرت حياتهم الشخصية، فهو تعرّض للاعتقال كثيرًا في غزة، وللمساءلة والتحقيق في الضفة.
أما عن “هرطقاته اليومية”، أشار إلى أن الصحف توقفت عن نشرها كونها لا تتقبّل هذا النوع من السخرية، لافتًا إلى أن الكاتب الساخر يدفع ثمن جرأته مرتين، الأولى من السياسيين والثانية من المجتمع، فهذا الفن لم يأخذ حقه رغم أهميته في تغيير الواقع.
وأوضح أبو النصر، الحاصل على جائزة أفضل كاتب ساخر من دولة الجزائر، أنه يكتب بأقل الكلمات وأقوى العبارات، ويحاول اختصار كتاباته كون القارئ لم يعد يفضّل قراءة مادة طويلة. ويوضّح أن كتاباته الهزلية سخرت من التطبيع العربي والاحتلال الإسرائيلي والانقسام وعادات المجتمع والتقاليد والتطرف، مؤكدًا أن الكاتب الساخر توجع كلمته الساسة وتحدث تغييرًا.
وأشار أبو النصر إلى أن الكاتب الساخر يدفع الثمن بالملاحقة والاعتقال، إلا أن عددًا من الساسة يتواصلون معهم بالخفاء لمعرفة الواقع والحقيقة أكثر.
ولا تزال النصوص الساخرة تلقي الرعب في قلوب الساسة وأولي الأمر كونها تتكلم بضمير الناس، وتحكي هموم المجتمع، وتنقل للأجيال ما عاشه السابقون من معاناة وظلم بطريقة هزلية تعلّمهم فنون الدفاع واسترداد الحريات والحقوق.