في جزء مزدحم من طريق مترامي الأطراف في الضواحي الغربية لمحافظة الجيزة، وعلى مقربة من السوق القديم بالحي السادس بمدينة السادس من أكتوبر، يجلس رجل أربعيني بجلبابه الصعيدي، متكئًا على عصاه التي يهشّ بها على غنمه، لكنها تأبى أن تفارقه رغم اقتراب موعد عيد الأضحى أو “العيد الكبير” الذي يُقام بين 10 و13 ذي الحجة.
يحاول منصور ماهر، أحد بائعي الماشية، جذب المشترين لبيع ماشيته، ملقيًا باللوم لتراجع مبيعات الأضاحي على الارتفاع الشديد في الأسعار مقابل حالة من تردي الأوضاع المادية للعديد من الأسر، ويقول في حديثه لـ”نون بوست”: “باقي على العيد أيام قليلة، ولم أبِع إلا أقل من نصف المواشي على عكس السنة الماضية، الزبائن كثيرون ولكن معظمهم لا يشترون”.
في مصر، كما في دول العالم الإسلامي، العنوان الرئيسي لعيد الأضحى هو الخروف، إلا أن أسعاره في الكثير من هذه البلدان سجّلت زيادات كبيرة، ويشكّل ثمنه عبئًا كبيرًا على الأسر العربية، ففي مصر مثلًا وصل سعره إلى حوالي 6 آلاف جنيه مصري، ووصل سعر العجول إلى 30 ألف جنيه بزيادة تصل إلى 15% عن العام الماضي بحسب تقارير محلية.
وقبل أيام قليلة من إراقة المسلمين لدماء أضحياتهم اقتداءً بسنّة أبيهم إبراهيم عليه السلام، يظل القاسم المشترك بينهم دومًا ارتفاع أسعار الأضحية عامًا بعد عام، ففي بعض الدول العربية يصل ثمن الأضحية من الخراف إلى ضعف الراتب الشهري للعديد من المواطنين، حتى تكاد مظاهر العيد المعتادة تختفي في بعض العواصم العربية.
جنون ارتفاع الأسعار
تشهد أسعار الأضاحي هذا العام في العالم العربي ارتفاعًا ملحوظًا بين 15 و25% هذا الموسم، ربما يعود في جزء كبير منه إلى ارتفاع أسعار مكونات الأعلاف بالنسب نفسها تقريبًا، فقد شهدت أسعار بعض المدخلات الأساسية في صناعة الأعلاف، مثل الذرة وفول الصويا، ارتفاعًا عالميًّا، وسجّلت أسعار الذرة أعلى معدل لها منذ عام 2012 بحسب وكالة “بلومبرغ“.
رغم أن الأردن يأتي في المرتبة العاشرة في تصدير المواشي عالميًّا، إلا أنه شهد أيضًا ارتفاعًا في أسعار الأضاحي
مشكلة ارتفاع أسعار الأضاحي متشابهة من المحيط إلى الخليج، لا تفرّق بين دولة عربية غنية بالماشية وأخرى فقيرة بها، ففي تقدير للمنظمة العربية للتنمية الزراعية، أكّد أن الدول العربية تملك أكثر من 347 مليون رأس ماشية معظمها من الأغنام، ما يعادل 7.3% ممّا يملكه العالم.
وفقًا للإحصاءات، يمتلك السودان الحصة الأكبر بنحو 30% من الثروة الحيوانية العربية، يليه موريتانيا بنحو 18%، ومع ذلك لا تهدأ فيهما أسعار الأضاحي التي زادت بنسبة 15% هذا الموسم، بسبب الرسوم الحكومية وارتفاع تكلفة نقل الماشية، ما دفع كثيرًا من السودانيين نحو مقاطعة الشراء بسبب محدودية الدخول والأوضاع المعيشية القاسية التي يعانون منها.
الجزائر التي تحتل المرتبة الثالثة عربيًّا استوردت لحومًا حمراء بما قيمته 140 مليون دولار من اللحوم، أي بين 60 و70 ألف طن سنويًّا من اللحوم المجمّدة بحسب تقارير رسمية، رغم أنه يملك أكثر من 29 مليون رأس من الأغنام، تراوح سعر الواحدة بين 18 ألف و33 ألف دينار جزائري، مع ارتفاع بسيط بسبب زيادة الطلب على كافة أنواع الأضاحي مع اقتراب العيد، كما ارتفعت أسعار اللحوم الطازجة قرابة 30% منذ مطلع السنة، خاصة بعد نفاذ اللحوم المجمدة في الأسواق.
أما المغرب الذي يحتل المرتبة الرابعة عربيًّا بنحو 22 مليون رأس من الأغنام، فقد وصل فيه سعر الأضحية في الأعوام الأخيرة بين 200 و300 دولار، في حين وصل سعر الأضاحي المنحدرة من سلالة “الصردي” إلى ما بين 400 و550 دولارًا، ليضطر الناس إلى الاستدانة من البنوك التي خصصت قرضًا خاصًّا بالأضاحي.
ورغم أن الأردن يأتي في المرتبة العاشرة في تصدير المواشي عالميًّا، إلا أنه شهد أيضًا ارتفاعًا في أسعار الأضاحي، ومع وجود نحو 550-600 ألف رأس بين مستورَد وبلدي لتغطية موسم عيد الأضحى، مقارنة بحاجة السوق المحلي التي تصل تقريبًا إلى 350 ألف رأس بحسب وزير الزراعة الأردني خالد الحنيفات، من المحتمل أن تنخفض الأسعار.
ويتوقع تجّار في الأردن أن يصل حجم إنفاق الأردنيين على شراء الأضاحي من مختلف الأنواع حوالي 36 مليون دينار، وذلك على أساس متوسط سعر الأضحية يصل إلى 180 دينارًا، ووصل سعر الأغنام المستوردة إلى 150 دينارًا، ووصل سعر الخراف البلدية إلى 200 دينار، في حين تقدَّر أسعار العجول المستوردة ما بين 2000 و2200 دينار.
ضعف الإقبال
في تونس ما زالت أسواق الماشية تشهد ضعفًا في الإقبال رغم اقتراب عيد الأضحى، وتمتلك تونس أكثر من مليون ونصف من رؤوس الماشية الجاهزة للأضحية كل عام، ورغم أنها تشهد استقرارًا نسبيًّا بسعر الأضاحي بفعل قرار الحكومة تجميد الزيادات المسجّلة في ثمن الأعلاف، إلا أن ارتفاع أسعار الأعلاف المركّبة الموجّهة لتسمين الأغنام بنسب تتراوح بين 40 و60%، والتضخم السنوي الذي تشهده البلاد، ويبلغ 7.8%، يكبّل قدرة المواطن على الشراء في ظل معدلات بطالة تتجاوز 18.5%.
اضطر البعض في مصر إلى الشراء بالتقسيط، أو مشاركة الآخرين من غير القادرين على شراء أضحية كاملة، وسط تراجع ملحوظ في نسبة المعروض بالمقارنة بالموسم الماضي
أمَّا مصر، فيغطي إنتاجها من اللحوم حوالي 50% فقط من الاستهلاك المحلي، لذا استوردت 96 ألف رأس عجول أبقار و70 ألف رأس أغنام لتغطية الطلب في عيد الأضحى، وشهد السوق ارتفاعًا غير مسبوق في أسعار الأضاحي بنسبة 30% هذا العام مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، بحسب تقرير الغرف التجارية المصرية.
أدَّى ذلك بدوره إلى انسحاب بعض مربّي الماشية من السوق بسبب تضاعف كلفة الأعلاف، وسط توقعات بتراجع المبيعات بنسبة 50% هذا الموسم نتيجة تراجع القوى الشرائية لمستهلكي اللحوم بعد ارتفاع أسعارها، فيما اضطر آخرون إلى الشراء بالتقسيط، أو مشاركة الآخرين من غير القادرين على شراء أضحية كاملة وسط تراجع ملحوظ في نسبة المعروض بالمقارنة بالموسم الماضي.
ويقدّر نائب وزير الزراعة للثروة الحيوانية والسمكية والداجنة، مصطفى الصياد، استهلاك مصر من اللحوم الحمراء سنويًّا بنحو 950 ألف طن، تستورد مصر منها 430 ألف طن وتنتج نحو 520 ألف طن، رغم ذلك يتوقع الخبراء أن تستهلك مصر 400 ألف طن من اللحوم خلال عيد الأضحى بتكلفة 5.4 مليارات جنيه.
وفي سوريا التي يعيش أهلها تحت وطأة الحرب الأهلية منذ عام 2011، تفاقمت الظروف الاقتصادية التي انعكست بالتأكيد على أسعار الأضاحي التي زادت بنحو 36% مقارنة بالعام الماضي، خاصة بعد فقدان الثروة الحيوانية في سوريا نحو 40% إلى 50% من قطيعها بحسب تصريحات وزير الزراعة السوري حسان قطنا.
ويتراوح سعر الأضحية الواحدة في سوريا بين 150 و250 ألف ليرة سورية، ويرتفع السعر مع زيادة الطلب حتى يصل في الأيام الأخيرة التي تسبق عيد الأضحى إلى 300 ألف ليرة سورية، لتصبح الأولوية للأسر السورية تأمين غذائها اليومي، في حين قد يكون العيد المناسبة اليتيمة التي يتناول فيها البعض اللحوم.
وتبدو الصورة في اليمن أكثر صعوبة، فأسعار الأضاحي في الأسواق مرتفعة لدرجة أنها تجاوزت دخل الفرد والمواطن البسيط الذي يعيش ظروفًا استثنائية بعد سنوات من الحرب التي أنهكت البلاد والعباد، ورغم ازدحام الأسواق بالماشية، فإنها تشهد ركودًا جعل التجار يبحثون عن حلول لتسهيل عملية شراء الأضاحي، مثل التقسيط.
الوضع لا يختلف في دول أخرى تشهد نزاعًا مسلحًا مثل ليبيا، التي حوّلتها سنوات الحرب إلى بلد يرزح تحت وطأة الفقر رغم امتلاكه أكبر احتياطات نفطية في أفريقيا، فأسعار الأضحيات التي عمّقت آثار الحرب لم تعد تجذب الليبيين، خاصة بعد أن ارتفع سعرها من 1500 دينار في العام الفائت ليصل في بعض المناطق إلى 2500 دينار، على وقع تدهور سعر صرف العملة المحلية مقابل الدولار.
دول الخليج ليست استثناءً
لم تكن دول الخليج استثناءً، حيث يرتفع سعر الأضحية بنحو 10% في المتوسط، لذا تلجأ دولة كقطر –تستهلك متوسط 1.5 مليون خروف سنويًّا، من بينها 200 ألف خروف خلال عيد الأضحى- لدعم الأضاحي بخفض أسعارها للمواطنين، ولم تتأثر الأسعار كثيرًا مقارنة بجيرانها، فقد وصل سعر بيع الأضحية الحيّة بـ 1100 ريال، كما أن الأسواق لم تشهد أي نقص في أعداد المواشي.
في السعودية، تشهد أسعار الأغنام ارتفاعًا ملحوظًا قبيل عيد الأضحى المبارك، ويبرر بعض البائعين ذلك بزيادة رسوم الأعلاف فقط، لكن هناك ما هو أكبر من ذلك، وهو احتكار السوق، ما دفعهم للمطالبة بتنظيم سوق الأغنام حتى لا يكون المستهلك هو الضحية.
في الكويت، سجّلت أسعار الأضاحي ارتفاعًا كبيرًا وصل إلى 30% مقارنة بالعام الماضي، وبلغ سعر الأضحية حوالي 150 دينارًا، وسط توقعات بارتفاع أكبر للأسعار مع دخول أيام التشريق
يختلف هذا الوضع عمّا كان عليه قبل 6 سنوات، ففيما كان متوقعًا أن ترتفع أسعار الماشية بسبب موسم عيد الأضحى، تراجع السعر بنحو 30% خلال الأشهر الثلاثة التي سبقت عيد الأضحى عام 2016، وأشارت التقديرات بوجود فائض من المعروض بنحو نصف مليون رأس، رغم ارتفاع أسعار الشعير والأعلاف.
يُضاف إلى ذلك ضعف الطلب الناتج عن تراجع الخطط الشرائية وموسم الإجازات، وتشبع السوق من المستورَد، فقد انخفض سعر بعض الأغنام المستوردة إلى 600 ريال بعد أن وصل سعرها ألف ريال سابقًا، في حين وصل سعر الماشية إلى 2200 ريال بعد أن كانت تتراوح بين 1500 و2000 ريال في العام الماضي.
وفي الكويت، سجّلت أسعار الأضاحي ارتفاعًا كبيرًا وصل إلى 30% مقارنة بالعام الماضي، وبلغ سعر الأضحية حوالي 150 دينارًا، وسط توقعات بارتفاع أكبر للأسعار مع دخول أيام التشريق بسبب ارتفاع أسعار الأغنام المستوردة من ناحية، فضلًا عن عدم كفايتها من ناحية أخرى.
العراق شهد أيضًا ارتفاعًا كبيرًا في أسعار الأضاحي، خاصة بعد أن فاقمت الحمّى النزفية الفيروسية ركود الطلب على الأغنام التي تراوح سعرها بين 250 و500 ألف دينار، فيما يبدأ سعر الأبقار والعجول من مليون و300 ألف دينار عراقي، بالتزامن مع تهاوي الدينار أمام العملة الأمريكية المدعومة بموجات رفع الفائدة في واشنطن.
الوجه الآخر للعيد
مع تدهور الوضع الاقتصادي لم تستطع شريحة واسعة من المواطنين الإقبال على شراء الأضاحي مقارنة بالأعوام السابقة، كما يقول تجّارها، فمن استجمع قواه المادية ولملم نفسه ليجني ربحه من موسمه، وجد نفسه محصورًا في زاوية مكبّلًا بالقيود لا يستطيع الإفلات منها.
يأتي موسم الأضاحي بردًا وسلامًا على معظم الفقراء الذين ربما لا يتناولون اللحم إلا في هذه الأيام
ورغم غلاء أسعارها، فإن بعض المواطنين مستمرون في عاداتهم السنوية لشراء أضحية العيد، في المقابل لا يستطيع الملايين أن يوفّروا البهجة لأطفالهم لضيق ذات اليد، ويقف البعض الآخر حائرًا بين تطبيق سنّة واجبة ووضع اقتصادي يزداد سوءًا مع تفاقم الأزمة المالية وراتفاع تكاليف التزاماته المعيشية.
آفة ارتفاع أسعار الأضاحي والماشية في العالم العربي يعود في جزء كبير منها هذا العام بالتحديد إلى الدور الأبرز الذي لعبته جائحة كورونا في إلحاق الضرر بعمليات الاستيراد وتكلفة النقل، كما كان للحرب في أوكرانيا أثر عميق على كافة مجالات الاقتصاد العالمي، إضافة إلى احتكار تجارة المواشي واللحوم الحمراء في العالم العربي.
ويعود ارتفاع الأسعار في جزء آخر منه إلى زيادة الطلب على الأضاحي مع اقتراب عيد الأضحى، لكن ارتفاع أسعار اللحوم قد يؤدّي إلى قلة استهلاكها، لذا يأتي موسم الأضاحي بردًا وسلامًا على معظم الفقراء الذين ربما لا يتناولون اللحم إلا في هذه الأيام.
وأمام هذه الصورة المتكررة، تنشط الجمعيات والمؤسسات الخيرية في العديد من الدول العربية، وتضطلع بدور مضاعف، حيث تجمع الأموال لشراء أضحية العيد وتوفيرها للعائلات الأكثر احتياجًا في العديد من القرى والمناطق الفقيرة، لكنها تواجه بعض التحديات كما هو الحال في مصر حيث تسيطر الدولة على جُلّ العمل الخيري، كما تواجه صعوبة في الوصول لكل الفقراء من الناس، في كل بقعة من كل بلد.
وتساعد الأضاحي على زيادة التكافل الاجتماعي بين المسلمين، ويُنظر إليها باعتبارها من وسائل توزيع الدخل بين المسلمين، وإدخال السعادة على قلوب الكثير من الفقراء في يوم العيد، حيث يُوزّع معظمها على الفقراء والأصدقاء والأقارب، وتزداد أهمية لحوم الأضاحي في الدول الإسلامية الفقيرة، حيث ينتظر كثير من سكانها قدوم عيد الأضحى للحصول على جزء يسير من لحومها.