تتميّز أعياد المسلمين بالعديد من الطقوس التي تمثل أهمية محورية في مظاهر الاحتفال، بسبب أنها تنطلق في الأساس من خلفية عقدية وامتداد إرثي يجعلان التمسك بها مسألة غاية في الأهمية.
ومع قدوم الأعياد يتبارى كل مجتمع بالتعبير عن نفسه من خلال طقوسه التي تختلف إلى حد ما من مكان إلى آخر، لكنها في الغالب تجتمع في الدوافع والخلفيات المتعلقة بها، إذ إن جميعها يولد من رحم إحياء شعيرة إسلامية مقدسة تتميز بالثراء في مظاهرها وطقوسها وآليات التعبير عنها، ما يجعل من الأعياد مسرحًا كبيرًا قادرًا على احتواء كافة التباينات الاحتفالية بشتى ميولها وأنواعها، حتى إن عانت في شكلها العام من اختلافات جوهرية.
ويتّحد المسلمون من وراء تلك الطقوس، بعيدًا عن الالتزام الديني، لتحقيق هدف واحد وهو نشر الفرحة والبهجة بين صفوف المجتمع المسلم، حتى لو كان ذلك من خلال عادات مختلفة، غير أن تلك العادات والطقوس في الغالب تعبّر عن موروثات الأجداد، بجانب أن لبعضها أصول قديمة في التاريخ الإسلامي.
إرث يمتدّ لمئات السنين
من أبرز الطقوس المرتبطة بالعيد ما يسمّى بـ”العيدية”، وهي مكرمة مالية أو منحة مادية تمنحها الدولة للشعوب أو أرباب الأسر لأفرادها، وهو مصطلح يعود لمئات السنين، إلى أيام الخلافة الأولى بحسب بعض الباحثين، حيث كان النبي عليه السلام وصحابته الكرام يحرصون على إدخال السرور على عامة المسلمين بتوزيع النقود عليهم أو الحلوى وبعض أنواع الطعام، كنوع من التشاركية في الإسلام.
لكن باحثين آخرين أرجعوا ظهور تلك الظاهرة إلى العصر الفاطمي (909-1171م)، كما ذهب مدير عام البحوث والدراسات الأثرية والنشر العلمي بجنوب سيناء بوزارة السياحة والآثار، عبد الرحيم ريحان، الذي أوضح أن العيدية بمفهومها التقليدي بدأ مع تولي الفاطميين الحكم.
وعن طبيعة توزيع العيدية في هذا العصر، يشير خبير الآثار إلى أن السلطات الحاكمة وقتها كانت توزِّع نقودًا في موسمَي الفطر والأضحى من باب التوسعة على أرباب الوظائف، وكانت تلك المسألة تُعرف في دفاتير الدواوين بـ”الرسوم” فيما كانت تسمّى في وثائق الوقف بـ”التوسعة”.
كما كانت توزِّع الدولة كسوة على الفقهاء وقرّاء القرآن الكريم، مع منح بعضهم دراهم فضية، وكان كثير من عموم الناس يتوجّهون لقصر الخليفة صبيحة العيد للتهنئة حيث كان ينثر عليهم الدنانير والدراهم من نوافذ قصره، وكان هذا عُرفًا سنويًّا اعتاده الناس إبّان عصر الفاطميين.
وتتفاوت قيمة العيدية التي كان يمنحها السلطان المملوكي بحسب رتبة الممنوحين، فالأمراء وكبار رجال القضاء والجيش يحصلون على عيدية ذات قيمة كبيرة، تقلّ تدريجيًّا مع الوظائف الأقل، فكانت النخبة تحصل على طبق مملوء بالدنانير الذهبية وبجانبه عدة أصناف من الحلوى والفاكهة، فيما يحصل الأقل مرتبة على طبق بالعملات الفضية، وكانت تسمّى “العيدية” في عصر المماليك بـ”الجامكية” ثم حُرّفت لـ”العيدية” فيما بعد، وفق عبد الرحيم ريحان.
ويشير أيمن عبد الودود، أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة القاهرة، إلى أن مظاهر الاحتفالات الحالية بالعيد هي في حقيقتها امتداد للموروث الإسلامي منذ مئات السنين، فبجانب العيدية كان توزيع الحلوى وطهي أشهى أنواع الطعام هما السمة السائدة في الأعياد لدى المسلمين في شتى العصور.
وأوضح في حديث لـ”نون بوست” أن مظاهر الاحتفال بالعيد رغم اختلافها من عصر إلى آخر، إلا أنها كانت في عمقها متشابهة إلى حد كبير، ففي العصر الفاطمي كانوا يسيرون في مواكب من قصر الخليفة بشارع المعز لدين الله الفاطمي بقلب القاهرة حتى باب النصر حيث تقام صلاة العيد، وكان الناس يهللون ويكبّرون طيلة الطريق ذهابًا وإيابًا.
وفي العصر العثماني كان الاحتفال أكثر حضورًا بمشاركة كبار رجالات الدولة، حيث كان يحرص قادة الدولة على مشاركة الناس احتفالاتهم، إذ كانوا يصعدون إلى القلعة ويمشون في موكب كبير من باب القصر حتى جامعة الناصر محمد بن قلاوون بوسط العاصمة لأداء الصلاة، مؤكدًا أن الطقوس ذاتها كانت تمارس في بغداد ودمشق وبقية العواصم الإسلامية.
الزينة كذلك ومظاهر تزيين المنازل التي تزخر بها المجتمعات اليوم نقلها العرب والمسلمون عن أسلافهم القدماء، ممن كانوا يزيّنون جدران منازلهم ويعلّقون بعض أدوات الزينة في المنازل والشوارع في الأعياد، وقد انتشرت تلك الظاهرة في القاهرة وبغداد على وجه التحديد، وبعض عواصم دول المغرب الإسلامي، حيث كانت تستمر لأيام طويلة حتى بعد انتهاء العيد، كما هو الحال مع شهر رمضان، بحسب أستاذ التاريخ الإسلامي الذي أكّد على نجاح المجتمعات العربية والإسلامية في الحفاظ على طقوسها الموروثة في الأعياد والمناسبات الدينية عمومًا، لما لذلك من حماية لهذا التراث وحفاظ للهوية البصرية والثقافية للمجتمع المسلم الذي يعاني من موجات تغريب كبيرة تستهدف ثوابته وليس فقط الفروع.
عيد واحد وطقوس متعددة
“عساكم من عواده”، “عيدكم سعيد”، “عيدكم مبارك”، “عواشركم مباركة”… عبارات متعددة يتبادلها المسلمون للتهنئة في البلدان الناطقة بالعربية، جميعها يتمنّى مشاركة السعادة مع الآخرين في مثل تلك المناسبات التي تشهد تجمعات أسرية وعائلية على مائدة الودّ والرحمة بعد انشغال معظم أوقات العام.
البداية من السعودية، حيث الاستعداد الجيد للعيد من خلال بعض الطقوس الشرائية والاجتماعية، من تجهيز للأضحية ثم شراء الحلوى مرورًا بأداء الصلوات في تجمعات وإن لم تكن بالحجم الكبير كغيرها من بلدان العالم الإسلامي، لكن تبقى في النهاية الاحتفالات أسيرة البُعد القَبَلي حيث الارتماء في أحضان القبيلة والتمسُّك بتراثها.
وفي مصر الطقوس ربما تكون أكثر زخمًا، فالمصريون منذ العهد القديم يحبّون أعيادهم ويقدسونها على مرّ التاريخ، ويبذلون لأجل إسعاد أنفسهم الكثير من الجهد والمال، ورغم تكالب الثقافات المختلفة عليهم لكنهم تمسكوا بطقوسهم الثرية والجميلة في الاحتفال بالأعياد الدينية تحديدًا، حيث تخاطب فيهم البُعد الديني الذي يحتل مرتبة كبيرة لدى الشعب المصري، منذ حابي وآمون وصولًا إلى الرب الواحد بعد دخول الإسلام على أيدي عمرو بن العاص.
وتزخر البيوت المصرية بعادات الاحتفال بالعيد بصورة تتفوق على كافة شعوب العرب والمسلمين، حيث إعلان حالة الطوارئ مع اقتراب العيد، إعداد الطعام وشراء الملابس الجديدة وتزيين البيت وتبادل التهاني وبثّ الأهازيج والأغاني التي تعبّر عن تلك الشعيرة.
وفي عيد الأضحى يكون الوضع مختلفًا نسبيًّا بسبب الأضحية التي يتعامل معها الصغار على أنها ضيف يجب تكريمه من اهتمام ورعاية قبيل ذبحها صبيحة يوم العيد، ثم بعد ذلك الذهاب وفودًا وجماعات لأداء صلاة العيد لتنطلق بعدها طقوس الاحتفال من ذبح وزيارات متبادلة وعيدية وغيرها من الطقوس الخالدة في المجتمع المصري.
وفي السودان يتميز الاحتفال بالعيد بعادات مختلفة إلى حدّ ماء، إذ اعتاد السودانيون على خروج شخص إلى الشوارع والميادين الرئيسية ليزفَّ لهم بشرى قدوم العيد، لتبدأ بعدها الأفراح والأهازيج التراثية التي تعمّ كافة الأرجاء على قرع الطبول والدفوف والموروثات السودانية الجميلة.
وإلى الشمال قليلًا حيث ليبيا، فلديهم عادات يراها البعض غريبة خاصة في التعامل مع الأضحية، فقبل ذبحها يتمّ تكحيل عينَيها بالقلم الأسود وفي بعض الأحيان بالكحل العربي الشهير، وبعدها تُشعل النيران ويُضع عليها البخّور ثم يدخل الجميع في تجمعات منفصلة تهليلًا وتكبيرًا في مشهد يعيد التاريخ لمئات الأعوام مرة أخرى.
الطقوس لا تخرج عن التجمع داخل المراكز الإسلامية والمساجد هناك ثم الذهاب معًا للصلاة، ونحر الأضاحي وإقامة حفلات الشواء على وقع التجمعات الأسرية التي تتّخذ من الأعياد فرصة لإحيائها بين الحين والآخر
أما في فلسطين فللموتى والشهداء هناك المنزلة الأولى في الاحتفال بمثل تلك المناسبات، فالفرحة مهما عظمت لا تُنسيهم من رحلوا ولو واراهم التراب، حيث اعتاد الفلسطينيون الذهاب لزيارة القبور في عيد الأضحى، ورغم الخلاف الشرعي في تلك المسألة لكنهم اعتادوا على ذلك تقديرًا لموتاهم، وبعد صلاة العيد تقام الصلاة على أرواحهم ثم تبدأ مظاهر الاحتفال بتبادل الطعام والحلوى وتوزيعها على حافة المقابر ليتنعّم بها الفقراء المقيمون بالقرب منها.
وفي اليمن يكون استقبال العيد من خلال الرقص بالبنادق والخناجر والأسلحة البيضاء، إذ يخرجون أفرادًا وجماعات إلى الشوارع الرئيسية ليلة العيد للاحتفال به، ويتشابه الوضع نسبيًّا في تونس لكن الرقص هنا على قرع الطبول وترديد الأغاني والأهازيج التراثية التونسية، فيما تشهد الساحة الجزائرية حلبات مصارعة قوية بين خرفان الأضاحي، وسط جموع من المتفرجين، ومن يفوز يكون الأعلى سعرًا.
كما اعتاد السوريون والأردنيون واللبنانيون ومعهم بعض شعوب الخليج على الاحتفال بالعيد من خلال تبادل الزيارات العائلية وتقديم أطباق الطعام والحلوى والتجمعات الأسرية في كل منطقة، بجانب ساحات الصلاة الجماعية، وتزيين الشوارع والميادين بمظاهر الزينة المختلفة، في محاولة لنشر البهجة والفرحة في نفوس الجميع.
وتتباين طقوس الاحتفالات بين الدول العربية وغيرها من بلدان العالم الإسلامي ممّن لا يتحدثون العربية، كما هو الحال في باكستان مثلًا التي لها عادات مستغرَبة في التعامل مع الأضحية حيث تزيينها والرسم عليها بالحناء، ثم ربطها بحبال ملوّنة وإلباسها قلائد في رقبتها والسير بها في الشوارع احتفالًا بقدوم العيد.
أما في الدول غير المسلمة، خاصة في أوروبا وأمريكا، والتي بها جاليات إسلامية بأحجام كبيرة، فالطقوس لا تخرج عن التجمع داخل المراكز الإسلامية والمساجد هناك ثم الذهاب معًا للصلاة، ونحر الأضاحي وإقامة حفلات الشواء على وقع التجمعات الأسرية التي تتخذ من الأعياد فرصة لإحيائها بين الحين والآخر.
الطعام والألعاب.. عامل الاحتفال المشترَك
من أبرز عادات المسلمين في الأعياد تقديم كافة أنواع الطعام والحلوى التي تعكس إلى حدٍّ ما ثقافة كل مجتمع، ففي السعودية تأتي القهوة العربية مع التمر في مقدمة الأطعمة التي يعتادها السعوديون في العيد والمناسبات بصفة عامة، بجانب أصناف أخرى من الحلوى كالمعمول وعريكة التمر.
وفي تركيا يطلقون على عيد الفطر “Seker Bayram” (سِكِر بيرم)، أي عيد السكّر، نسبة إلى حرص الشعب التركي على تقديم الحلويات في تلك المناسبة، وفي اليمن هناك “بنت الصحن” (كعك مصنوع من خليط من الدقيق والماء والزبد والعسل والبيض)، وهي واحدة من أشهر أنواع الحلوى التي يتمسّك بها اليمنيون في عيدَي الفطر والأضحى.
كما لا يخلو بيت من بيوت المصريين في الأعياد من أطباق الكعك والبسكويت وبعض المعجّنات الأخرى كالبيتي فور والغريبة، فيما يميل بعض الأفراد إلى تناول الأسماك المملّحة مقارنة بآخرين يميلون إلى اللحوم الحمراء ثم “الفتّة” الوجبة الأكثر انتشارًا في عيد الأضحى، أما في تونس فيتصدّر طبق “الشرمولة” (عجينة مصنوعة من الزبيب والبصل وزيت الزيتون) مائدة العيد، يُضاف إليه أصناف الحلوى كالرخايمية والرفيسة.
وبينما يكتسح الكاهي (أشبه بالفطير المشلتت في مصر) والقيمر (قشطة دسمة) مائدة إفطار العراقيين في العيد، تأتي المائدة السورية عامرة بشتى أصناف الحلوى مثل الغريبة والبسبوسة والبرازق والكنافة بالقشطة والمعمول بالتمر والجوز والفستق الحلبي، مع حلاوة الجبن السورية التي تعدّ واحدة من أشهر أنواع الحلوى في الشام.
ثم تأتي الألعاب كأحد الطقوس المميزة في الأعياد، إذ تحرص الأسر والعائلات على الترويح عن أبنائها من خلال الذهاب بهم إلى الملاهي وأماكن اللعب والمرح في تلك المناسبات لبثّ الفرح والسرور والبهجة في نفسوهم، ولا يختلف في ذلك الكبار والصغار، فالجميع يحرص على أن ينال حظًّا من اللعب والمرح في الأعياد في مختلف المجتمعات العربية والإسلامية.
وفي محصلة ما سبق، تبقى الطقوس التقليدية التي اعتاد المسلمون ممارستها في الأعياد امتدادًا تاريخيًّا لتراث الأمة وموروثها الثقافي، تلك الطقوس التي حوّلت العواصم الإسلامية لسنوات طويلة إلى مقصد هام للسائحين والزوار من غير المسلمين للاطّلاع على هذا التشبُّث القوي للمسلمين بحضارتهم وتراثهم، رغم الضغوط التي يتعرضون لها من باب العصرنة والتطوير.