أعلن رئيس الحكومة البريطانية، بوريس جونسون، خلال كلمة ألقاها من مقرّ الحكومة بالعاصمة لندن، اليوم الخميس 7 يوليو/ تموز 2022، استقالته من منصب زعيم حزب المحافظين (الحاكم)، على خلفية موجة الاستقالات التي شهدتها الحكومة، والتي تجاوزت أكثر من 50 وزيرًا ووزير دولة ومساعد وزير، ليواجه أزمة سياسية هي الأخطر في مسيرته السياسية على الإطلاق.
وقالت وسائل إعلام بريطانية إن جونسون الذي رفض فكرة تقديم الاستقالة قبل أيام، اضطر تقديمها اليوم بعد تصاعد موجة الانتقادات والاتهامات التي تعرّض لها مؤخرًا، على أن يستمرَّ في منصبه كـ”قائم بالأعمال” لحين تعيين زعيم جديد للحزب خلال مؤتمر سيُعقد في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل.
وقد تلقّى جونسون الذي قفزَ على كرسي رئاسة الحكومة عام 2019 بعد فوزه الكاسح في انتخابات حزب المحافظين حيث حظيَ بدعم أعضاء الحزب، في مشهد لم يحدث منذ رئيسة الوزراء الراحلة مارغريت تاتشر عام 1987؛ عدة ضربات قوية خلال الأشهر الماضية من الواضح أنها ستعجّل بنهايته السياسية.
موجة استقالات جماعية
شهدت الساعات الماضية استقالات من الحكومة البريطانية لم تشهدها من قبل، أبرزهم وزراء العدل والداخلية والصناعة والمالية والصحة والأمومة والطفولة والدولة لشؤون التكنولوجيا والإعلام، فيما أُقيل وزير الدولة لشؤون الإسكان والمجتمعات بسبب مطالبته جونسون بالتنحّي، ما دفع الأخير للإطاحة به خارج الحكومة، هذا بجانب استقالة عدد من نواب الوزراء ومساعديهم.
كما استقال صبيحة اليوم غوي أوبيرمان وزير المعاشات، وجورج فريمان وزير العلوم والبحث والابتكار، وميشال دونيلان وزيرة التعليم، وبراندون لويس وزير الدولة لشؤون أيرلندا الشمالية، وهيلين وايتلي وزيرة الخزانة (المالية)، وداميان هندز وزير الدولة لشؤون الأمن والحدود.
الأمور تشير إلى محاولة العديد من أعضاء الحكومة “القفز من المركب” الذي يرونه على وشك الغرق، بعد أن تخلّى عن جونسون معظم رفاقه، وباتت استقالته مطلبًا جماعيًّا لدى قطاع كبير من وزراء حكومته بعد الفشل الكبير في إدارة العديد من الملفات الداخلية والخارجية، والتي ألقت بظلالها على المستوى المعيشي للمواطن البريطاني الذي تغيّرت نظرته إلى جونسون عمّا كانت عليه قبل 3 سنوات.
جاءت الاتهامات التي وُجّهت لبعض وزرائه بالتحرش الجنسي وآخرين بالكذب والتضليل لتضع جونسون في مأزق حقيقي أمام الشارع البريطاني، وهو المأزق الذي عززته استقالة وزير المالية ريشي سوناك ووزير الصحة ساجد جاويد
الخيار الوحيد
لم يعد أمام رئيس الحكومة سوى الانصياع لرغبة النخبة والشارع معًا، وأن يعلن التنحّي عن منصبه الذي فقدَ بريقه بعد الانسحابات المتتالية التي ستقود حتمًا إلى ضغوط قوية لدفع جونسون على الاستقالة بدلًا من إدخال البلاد في نفق مظلم من الفوضى والفراغ السياسي الناجم عن خلوّ معظم الكراسي الوزارية من وزرائها.
لم يستفد جونسون من الفرص التي مُنحت له، فرغم نجاته من مقصلة الإقالة عبر فشل جلسة حجب الثقة عن حكومته التي عقدها الحزب في 6 يونيو/ حزيران الماضي، والتي أسفرت عن تصويت 148 نائبًا برلمانيًّا من أصل 359 محافظًا ضده، إلا أنه استمرَّ في سياساته ذاتها التي أبعدت عنه حتى أقرب مساعديه.
وقد تسبّبت سياسات حكومة جونسون، لا سيما إدارته للملف الاقتصادي الذي فشل في تحقيق الحد الأدنى من تطلعات الشعب البريطاني الذي كان يؤمل نفسه بحياة أفضل بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي، في زيادة معدلات الغضب والاحتقان الشعبي، هذا بجانب سياسته الخارجية التي يعتبرها البريطانيون أنها تهدد الأمن القومي لبلاده، خاصة موقفه إزاء الحرب الروسية الأوكرانية والتصعيد مع موسكو.
ثم جاءت الاتهامات التي وُجّهت لبعض وزرائه بالتحرش الجنسي وآخرين بالكذب والتضليل لتضع جونسون في مأزق حقيقي أمام الشارع البريطاني، وهو المأزق الذي عززته استقالة وزير المالية ريشي سوناك ووزير الصحة ساجد جاويد، الثلاثاء الماضي، والتي مهّدت لسقوط الحكومة بأكملها.
وفق اللوائح الداخلية، لا يمكن للحزب عقد جلستَين لحجب الثقة عن رئيس الوزراء خلال عام واحد، وبالتالي إن إقالته عبر هذا المسار مسألة صعبة إلا إذا تدخّل الحزب لتغيير اللائحة واستحداث بعض المواد التي تسمح بإجراء جلسة جديدة لحجب الثقة خلال تلك المدة القصيرة، وهو أمر يحتاج إلى بعض الوقت.
وعليه لم يكن هناك من طريق سوى إعلان التنحّي والاستقالة من منصبه، وأن يختار حزب المحافظين زعيمًا جديدًا يخلف جونسون في منصبه، بدلًا من الدخول في انتخابات مبكّرة يرى رئيس الوزراء وآخرون أن البلاد ليست على استعداد لإجرائها في تلك الأثناء.
وتُجرى انتخابات زعيم جديد للحزب من خلال عدة مراحل، أولها الإعلان عن أسماء المرشحين إذ يحتاج كل مرشح إلى دعم 5 نواب، على أن تنطلق الجولة الأولى من تلك الانتخابات عبر تصويت للنواب المحافظين على أن يُقصى من يحصل على أقل من 18 صوتًا، ثم الجولة الثانية التي يُقصى فيها من يحصل على أقل من 36 صوتًا، لتتواصل العملية وصولًا إلى متنافسَين فقط، ليتمَّ بعدها التصويت البريدي والفائز يصبح زعيمًا للحزب ورئيسًا للحكومة.
حكومة الأزمات
لم يتخيّل كثير من المراقبين أن يكون هذا مصير جونسون الذي حقق شعبية جارفة في انتخابات حزب المحافظين عام 2019 لم يحققها مرشح قبله، التطور الذي اعتبره البعض حينها بداية الطريق نحو ميلاد زعيم مخضرم جديد يعيد أمجاد السير روبرت والبول، وذائعة الصيت مارغريت تاتشر، ويعيد البلاد إلى سابق عزّها بعد خروجها طواعية من العباءة الأوروبية.
لم تكن الظروف التي جاءت فيها حكومة جونسون مواتية لتساعدها على الوفاء بالوعود التي قطعتها على نفسها بداية توليها السلطة، فالجائحة وتداعياتها السلبية فرضت أجواء ضبابية على الاقتصاد الدولي، تأثّر بها كافة شعوب العالم دون استثناء، غير أن الأخطاء التي ارتكبتها الحكومة عززت من الوضعية الصعبة وأثارت الامتعاض الشعبي والسياسي إزائها.
نهاية العام الماضي وجد جونسون نفسه متّهمًا بخرق القوانين واللوائح الخاصة بإجراءات الغلق المرتبطة بكوفيد-19، فبدل أن يكون قدوة لبقية الشعب الذي آثر الالتزام والبقاء في منازله من أجل الحيلولة دون تفشي الوباء، إذ برئيس الحكومة يتخلى عن دوره ويشارك في بعض الحفلات التي تضرب بتلك الإجراءات عرض الحائط، الأمر لم يتوقف عند مجرد الخرق لكن كذبه وعدم اعترافه بما قام به هما ما وضعه في مرمى الانتقادات والاتهامات كونه مسؤولًا “غير مسؤول”.
لم يستفق رئيس الحكومة من صدمة حجب الثقة حتى فوجئ بكارثة جديدة تتعلق باتهام مساعد المسؤول عن الانضباط البرلماني للنواب المحافظين، كريس بينشر، الذي عيّنه جونسون في فبراير/ شباط الماضي، بالتحرش الجنسي برجلَين
ونتيجة لتلك الفضيحة دعا عدد من النواب إلى عقد جلسة طارئة لحجب الثقة عن حزب جونسون، الذي لم يعد أمينًا على إدارة شؤون البلاد، لكن بسبب مواءمات واعتبارات حزبية خاصة نجا جونسون من مقصلة حجب الثقة، رغم اتهامه بأن سلوكه في عدة فضائح “يهين الناخبين” ويتطلب اتخاذ موقف حازم ضده.
ولم يستفق رئيس الحكومة من صدمة حجب الثقة حتى فوجئ بكارثة جديدة تتعلق باتهام مساعد المسؤول عن الانضباط البرلماني للنواب المحافظين، كريس بينشر، الذي عيّنه جونسون في فبراير/ شباط الماضي، بالتحرش الجنسي برجلَين، وهي الضربة الثانية التي تلقّاها الرجل في أقل من 15 يومًا.
وبدأت الأزمات تتوالى، إذ تفاقمت المشكلات الداخلية في البلاد في ظل فشل الحكومة في علاجها والتعامل معها، وعلى رأسها زيادة معدلات التضخم وارتفاع الأسعار الجنوني، ما زاد من وتيرة الضغط الشعبي على الحكومة التي بدأ أعضاؤها يقفزون من المركب واحدًا تلو الآخر، ليجد جونسون نفسه وحيدًا في الميدان يحاسَب بمفرده على كافة الأخطاء والانتهاكات التي مارستها الحكومة طيلة الأعوام الثلاثة الماضية.
وفي الأخير، إن الحديث عن استقالة نهائية لجونسون من رئاسة الحكومة حديث يقبل التأويل وإعادة النظر في حال استمرَّ في منصبه حتى تعيين زعيم جديد للمحافظين في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، ورفضه إجراء انتخابات مبكرة في هذا التوقيت، لكن تبقى الأيام القادمة وحدها من تحدد تعامل رئيس الوزراء مع وضعيته الجديدة بجانب ردود فعل المعارضة إزاء مسألة رفض إجراء انتخابات مبكرة، مع الوضع في الاعتبار أهمية المستجدات الإقليمية والدولية التي ربما يكون لها دور في رسم ملامح المشهد خلال المرحلة القادمة بصفة عامة ومستقبل جونسون السياسي على وجه الخصوص.