على جوانب الطرقات الفرعية والأسواق الرئيسية تُنصب الطاولات وخيم الحلويات التي تنبئ بقدوم العيد، حيث تباع الحلوى بجميع أنواعها في لبنان، سكاكر، شوكولاتة، ملبّس وحتى ما يُعرف بمعمول العيد من تمر وجوز أو فستق.
ويعتبر العيد في لبنان الموسم الأهم لبيع الكثير من الحلويات التي يصنعها البعض فقط في هذه المناسبة، كالملبن الذي يصعب إيجاده في الأيام العادية، حيث الكثير من تلك الحلويات تركيا هي منشأها الأمّ، لا سيما البقلاوة والكنافة، وهناك أيضًا مشروب السحلب الذي يزدهر في فصل الشتاء.
تعود الكثير من الحلويات التي يتمّ تناولها في جميع أنحاء العالم اليوم إلى تأثير الأتراك على المطبخ في الشرق الأوسط، ويفسِّر انتشار النفوذ العثماني عبر البلدان التي حكموها قدرًا كبيرًا من أوجُه التشابه في مطبخ الشرق الأوسط.
تتباهى مناطق الدول المختلفة دائمًا بوصفاتها الخاصة وطرق صنعها، لكن تبقى الحقيقة هي أن العثمانيين كان لهم تأثير كبير على الأطعمة التي يتمّ تناولها في العديد من المناطق، وبما أن لبنان من بين الدول التي خضعت لسيطرة العثمانيين تأثّر مطبخه كثيرًا بالمطبخ التركي، لكن اللبنانيين بدورهم وضعوا لمستهم الخاصة على بعض الحلويات التركية فأصبحت بطعم أكثر تميزًا وشهية، وراحت تنتشر وتزدهر أكثر في المناسبات والأعياد.
البقلاوة
على الصواني النحاسية الضخمة تلمع البقلاوة من داخل محالّ الحلويات في لبنان، خاصة في مدينة طرابلس الشمالية، تسرق أنظار المارّة، ورغم غلائها اليوم لا يمكن الاستغناء عنها في المناسبات، حيث يتهافت اللبنانيون على شرائها في الأعياد كونها الحلوى المميزة عندهم.
وتُعتبر البقلاوة ضمن أشهر الحلويات في العالم، انطلقت من قصور السلاطين العثمانيين ومنها نحو الشرق الأوسط ودول آسيا، ولكن يُشار إلى أن جذورها تعود إلى ما قبل الدولة العثمانية، ويُذكر أنها كانت تُصنع كثيرًا في مطابخ الإمبراطورية العثمانية خاصة قصر توبكابي بإسطنبول، كما قدّمها السلطان في صينية بشكلها المعتاد حاليًّا إلى الانكشاريين في كل منتصف شهر رمضان بمراسم احتفالية تسمّى موكب البقلاوة.
بعد مرور قرون على صنع البقلاوة احتفظت بهيبتها وقيمتها رغم انتشارها في بلاد الشام، فهي على رأس قائمة الحلويات الحاضرة على موائد اللبنانيين وموجودة في مناسباتهم المختلفة، حتى أنها تقدَّم كهدايا، ويتمّ دعوة الأصدقاء لتناولها في المطاعم فيما بينهم.
عجينة البقلاوة اللبنانية تكون رقيقة جدًّا، تختلف حشوتها بين الفستق والجوز واللوز والكاجو، بين طبقات العجين يوضع النشاء، ولكل نوع من البقلاوة طبقات معيّنة من العجين، بقلاوة الأصابع مثلًا مكوّنة من 5 طبقات وحشوتها كاجو مطحون، أما بقلاوة كول وشكور فهي 10 طبقات من العجين.
وليس غريبًا أن يحمل الزائر اللبناني كميات منها حيث يراها هدية قيمة يمكن أن تقدَّم لأصحابه وأقاربه، وتُعتبر من أثمن الحلويات التي يمكن إهداؤها، واليوم بعد الإضافة اللبنانية صار للبقلاوة عدة أسماء ونكهات، نذكر منها البورما، كول وشكور والأصابع.
الملبن
حبال معلقة مغطاة بالنشاء، يظنها الناظر نوعًا من الزينة، إلا أن الملبن في الحقيقة الحلوى الأكثر صعوبة من حيث الصنع، ويُباع فقط في العيد في مدينة صيدا اللبنانية، حيث تحمل هذه الحبال كرات صغيرة ثم تقطَّع وتُباع داخل أكياس بلاستيكية.
تحضير هذه الحلوى المعلقة تستغرق وقتًا وعملًا شاقًّا في الطبخ والتحضير، حيث تستغرق شهرًا ونصف الشهر، تستفرد في صنعها نساء كبيرات في السن، ورثن الطريقة طبعًا عن أمّهاتهن وجدّاتهن، لكن بسبب صعوبتها لا يقدر على صنعها إلا القليل وقت الأعياد.
يتكوّن الملبن اللبناني من النشاء والطحين والسكّر والمسك بالإضافة إلى ماء الورد وماء الزهر، ثم تطبخ حتى الغلي، من ناحية أخرى يتمّ إحضار حبل وجوز ويُدخَل الجوز في الحبال على شكل سلسلة متفرقة، بعدها تدخل الحبال مع الجوز في الطبخة الموجودة في القدر وتعلق حتى تنشف، ثم تكرر العملية بين 25 و30 مرة حيث في كل مرة تتشكّل طبقة، ثم يجب تعليقها والانتظار حتى تجفّ في الشمس والهواء، وبعد أسابيع من العمل يوضع النشاء ويقطَّع ثم يباع.
تنفرّد مدينة صيدا بصنع الملبن، ويقوم اللبنانيون من مدن أخرى بشرائه من المدينة، وتجد أنواعًا عديدة في الأسواق، منها الملبن المغطّى بالشوكولا وهو الأكثر طلبًا عند الأطفال، أما الغالبية العظمى من الناس فتشتريه بشكله الأصلي، باختصار لا عيد دون ملبن في مدينة صيدا، فهو الحلوى الأكثر طلبًا ومبيعًا في العيد.
دخل الملبن إلى لبنان عن طريق امرأة تُدعى ثانية عرابي، التي أعجبها مذاقه اللذيذ عندما تناولته في تركيا في أوائل القرن التاسع عشر، تحديدًا في العام 1927، حيث تعلّمت كيفية صناعة الملبن في تركيا وأحضرت الوصفة بعدها إلى صيدا في لبنان.
ويُعتبر أصل الملبن من الدولة العثمانية، وكان يسمّى “راحة الحلقوم”، وهو أحد أشهر النكهات التقليدية في المطبخ التركي، ويمكن أكله في العيد بعد رمضان والأيام الخاصة والاحتفالات أو مع القهوة التركية.
بدأت صناعة راحة الحلقوم في العصر العثماني، وتعني تخفيف الحلق في الأناضول، والحلقوم (الملبن) ظهر في القرن الخامس عشر ليكون معروفًا في كل مكان في الأناضول، ويدخل تمامًا المطبخ التركي بحلول القرن السابع عشر.
كما تمّت صناعة الحلقوم (الملبن) بإضافة العسل والفواكه والدقيق سابقًا، بعد ذلك دخل النشاء والسكّر المكرر في إنتاجه وتغيّر مذاق الحلقوم، كما يوجد العديد من أنواع الحلقوم التركي تُنتَج في أيامنا هذه.
الكنافة
تعدّ حلوى الكنافة من أشهى أنواع الحلويات الشرقية التقليدية، كما أنها مشهورة في دول أخرى مثل تركيا واليونان وبلاد القوقاز بروسيا، ويتمّ تقديمها غالبًا إلى جانب كأس من الشاي أو فنجان قهوة.
وتتكوّن الكنافة من خيوط عجين، يُضاف إليها السمن والسكّر والمكسرات، وهي من الحلويات الدارجة في جميع الفصول والمواسم، ويكثر تحضيرها على وجه الخصوص في شهر رمضان والعيد، كما تقدَّم الكنافة في جميع الحفلات والمناسبات، كالأعراس والولائم ومناسبات النجاح والاجتماعات العائلية.
وللكنافة أسماء عديدة، أشهرها الكنافة النابلسية والكنافة بقشطة والكنافة الناعمة والكنافة الخشنة والكنافة المفروكة والكنافة بجبنة والكنافة المبرومة والكنافة بالمكسرات.
لكن في لبنان للكنافة حكاية أخرى حيث تعدّ وجبة بحدّ ذاتها، يتناول اللبنانيون الكنافة داخل خبزة صُنعت خصيصًا للكنافة وتسمّى “كعكة كنافة”، تكون الخبزة مدوّرة وحلوة المذاق عليها بعض السمسم، يتمّ تناولها كوجبة إفطار، خاصة أن الكنافة الأشهر في لبنان هي كنافة الجبنة وتكون الجبنة فيها سميكةً بعض الشيء، وتحضّر أيضًا في المناسبات السعيدة وتتزين طاولات الأعياد بها.
غالبية الناس يصنعون الكنافة في المنزل لسهولتها، ولكنها غالبًا مرتبطة بوجبة الصباح، فعلى سبيل المثال يمكن أن تقصد محلات بيع الكنافة منذ السادسة صباحًا وقبل الحادية عشرة صباحًا، حيث تكون قد نفدت جميع الكمية ولن تجد محلًّا يبيع الكنافة ظهرًا.
هناك اختلاف كبير حول أصول الكنافة بين أموي وفاطمي وتركي، ولكن أكاد أجزم أن الطعم بين بلد وآخر يختلف اختلافًا كبيرًا، ولكنه كله تحت مظلة الكنافة الشهية.
اندماج الحضارات والتطور الثقافي بين العرب والأتراك تتجلّى مظاهرهما السعيدة في صحن بقلاوة بالكاجو أو كيس ملبن بالجوز، وتعدّ الحلويات من أجمل التبادلات الثقافية التي بدأها الأتراك وطورها اللبنانيون، حيث إنها كفيلة أن تصنع المناسبات السعيدة والأعياد في بلد يبحث عن سبب صغير ليفرح، حتى لو كان السبب كعكة كنافة.