ترجمة وتحرير نون بوست
حين بدأ التخصيب الصناعي عام 1978، عبّر بعض العلماء عن قلقهم من أن الأطفال المولودين عن طريق تلك العملية قد يعانون عيوبًا معيّنة بعد الولادة، أو مشاكل صحية في المستقبل، بيد أن البحوث المكثفة في السنوات الأولى لتطبيق تلك التقنية، وتجاوز تعداد المولودين بها لخمسة ملايين طفل حول العالم، طمأنت العلماء حيال تبعات التخصيب الصناعي. ومع ذلك، لم يتوقف العلماء عن دراسة المزيد من آثار تلك العملية، لا سيما والاكتشافات الحديثة في مجال الوراثة اللاجينية (Epigenetics) تفتح آفاقًا جديدة للبحث فيها — الوراثة اللاجينية هي العلم المعني بتوارث خصائص معيّنة نتيجة لعوامل مرتبطة بالخلايا دونما تدخل من الحمض النووي، وهي عملية مختلفة عن توارث الخصائص المعتاد الذي نعرفه عن طريق الحمض النووي.
التخصيب الصناعي وصحة الجنين
تنصب الأولوية حاليًا في البحث عن مدى ضلوع الخطوات المختلفة لعملية التخصيب الصناعي — مثل تجميد الأجنّة، وكيفية زرعها وتخزينها في المعامل، وطول المدة التي تكون فيها بعيدة عن الأم — في أي تغيّرات لاجينية، وكيف يمكن تطوير هذه الخطوات لتصبح العملية أكثر أمانًا (إذا ما ثبت ضررها بأي شكل)، وكذلك على دراسة معدلات الدخول إلى المستشفيات، والإصابة بأمراض القلب والضغط المرتفع وداء السكريّ، لدى المولودين بالتخصيب الصناعي مقارنة بغيرهم. كما تنصب أيضًا الكثير من البحوث على النظريات القائلة بأن وزن الطفل عند الولادة قد يحدد قابلية إصابته بأمراض معيّنة، إذ يقل متوسط وزن أطفال التخصيب الصناعي عن نظيره لدى الأطفال المخصّبين بشكل عادي بحوالي 20-30 جرام (وهو فرق ضئيل على أي حال).
يقوم الأستاذ دانييل بريسون، المدير العلمي لقسم طب الولادة بمستشفيات جامعتي مانشستر وسنترال مانشستر، بالبحث عن الآثار الصحية طويلة المدى على المولودين بالتخصيب الصناعي، وذلك ضمن مشروع “إبي هيلث” (EpiHealth) التابع للاتحاد الأوربي. يقول بريسون بأنه على مستوى الأفراد غالبًا ما تكون أنشطة الأطفال المستقبلية هي المحدد الرئيسي لماهية صحتهم على مدار حياتهم، ولكن على مستوى المجتمع بشكل واسع تبدو تلك الاختلافات الطفيفة ذات أثر كبير، مثلًا فيما يخص طبيعة الرعاية الصحية التي سيحتاجونها مستقبلًا.
يعمل فريق بريسون على الربط بين قاعدة بيانات إدارة التخصيب البشري والأجنة البريطانية (HFEA)، والتي تضم بيانات 110 ألف طفل مولود بالتخصيب الصناعي بين عامي 1991 و2009، مع قواعد بيانات أخرى خاصة بالصحة، وذلك للكشف عن أنماط معيّنة لدى صحة أولئك الأطفال، وينصب مشروعه الحالي على الربط بين قاعدة البيانات تلك وسجلات سكتلندا الطبية، للبحث عن أي مرض يصيب المولودين بالتخصيب الصناعي أكثر من سواهم، وبالتحديد أي خلل في عملية النمو.
تمت في السابق دراسات مماثلة، كتلك التي قام بها العام الماضي أليستير ساتكليف، أستاذ طب الأطفال بمعهد صحة الطفل التابع لكلية لندن الجامعية، والذي استخدم نفس قاعدة البيانات مع سجلات مرضى السرطان ليثبت أنه ليست هناك زيادة في خطر الإصابة بالسرطان لدى المولودين بالتخصيب الصناعي، وهي دراسة سيجريها مجددًا بعد خمس سنوات لزيادة التأكد.
متابعة الحالات الصحية لأولئك الأطفال لفترة طويلة أمر صعب من الناحية البحثية، ويستغرق بالطبع وقتًا طويلًا للوصول إلى نتائج حاسمة، وللتغلّب على تلك المشكلة، تتم في إطار مشروع “إبي هيلث” دراسة للأجنّة البشرية لمعرفة تأثير المدة التي تبقى فيها الأجنة في المعمل، وما إذا كان يتم تجميدها، على حدوث أي تغيّر قد يجعل الطفل الناتج عنها عرضة للمرض في حياته. يقول بريسون أنه وفريقه يرصدون بالفعل جوانب معيّنة تتعرض للضغوط بسهولة في الأجنة المخصّبة صناعيًا، وأنها تتغيّر تبعًا لاختلاف ظروف البيئة المحيطة بها، مما يتيح للعلماء العمل على تحسين تلك الظروف لتخفيف الضغط، وتعزيز فرص واحتمالات نجاح الجنين وسلامته مستقبلًا، “لقد أفاد التخصيب الصناعي الملايين من الأزواج، ونحن عاكفون على التأكد من أننا نمارس تلك التقنية بالشكل الأمثل.”
الفئران توسّع مداركنا
توم فليمينغ، أستاذ الأحياء الإنمائية في جامعة ساوثامبتون، المساهم أيضًا في مشروع “إبي هيلث”، يشارك بريسون جهوده من أجل تخصيب صناعي أفضل، وهو يستغل الحيوات القصيرة للفئران لجمع بيانات حول آثار تخصيب أجنتها الصناعية على صحتها طول حياتها، ويركز فريقه البحثي على تأثير عوامل ثلاثة أساسية هي عُمر الأم، وتجميد الأجنة، والمدد المختلفة لاسترزاع الأجنة.
يمكن لدراسات الفئران أن تكون بداية جيدة للبحث في وجود آثار مشابهة لدى البشر، فقد وجد فريق فليمينغ بالفعل أن الأجنة التي تُنقل لأرحام أمهات الفئران بعد خمسة أو ستة أيام من تخصيبها (حين تتطور الخلية المُلقَّحة إلى بلاستولة من 200-300 خلية – Blastocyst) يكون خطر إصابتها بمشاكل القلب والأوعية الدموية بعد بلوغها أعلى. تستخدم البلاستولة في البشر لأنها تتيح لمتخصصي الأجنّة انتقاء الجنين الذي بدت عليه أثناء التكاثر في الأيام الأولى فرص نجاح أكبر، وقد دفعت تلك النتائج العلماء إلى دراسة البيانات المماثلة لأطفال التخصيب الصناعي، ووجدوا بالفعل أن لديهم علامات على وجود ضغط دم أعلى.
يقول فليمينغ، “هناك دليل على أن بعض جوانب صحة القلب والأوعية الدموية، والصحة الأيضية، للمولودين بالتخصيب الصناعي، قد تكون مختلفة فعلًا، لا سيما الضغط المرتفع ونسبة الدهون في الجسم، وكذلك عُمر العظام الأكثر تقدّمًا. هذه التحولات لا تهدد الحياة ولكنها ذات أهمية لصحة أولئك المولودين، وبما أن أعمارهم اليوم لا تزال صغيرة، لا يمكننا بصراحة أن نعرف كيف ستصبح صحتهم في المستقبل.”
قد يقول قائل بأن كل المخاطر التي تصيب المولودين بالتخصيب الصناعي ناجمة عن عوامل وراثية متعلقة بعُقم الأبوين في الأساس، لا بالتخصيب ذاته، وهو أمر لا يمكننا معرفته بالطبع لأن البشر غير المصابين بالعُقم لا يتسخدمون التخصيب الصناعي كي نستطيع المقارنة بين أطفال التخصيب الصناعي لذوي الوالد(ة) العقيم وذوي الوالدين غير العقيمَين.
مرة أخرى، تأتي دراسات الفئرات لتُسعِفنا، إذ أن التخصيب الصناعي يُطبَّق عليها كافة، كما أن العقم بين الفئران نادر أصلًا، وهو ما يعني أن النتائج التي نتوصل لها بخصوص أجنة الفئران تكون ناتجة فقط عن التخصيب الصناعي، لا عن عُقم أحد الوالدين.
يقول نيك ماكلون، أستاذ طب النساء والتوليد بجامعة ساوثامبتون، والعضو أيضًا بأبحاث “إبي هيلث”، أن الفصل بين أثار التخصيب الصناعي والعوامل المرتبطة بعُقم الوالدين كان تحديًا كبيرًا للباحثين. على سبيل المثال، مسألة قلة وزن الجنين كان يمكن أن نعزوها لعُقم أحد الوالدين، بدلًا من توجيه اللوم للتخصيب الصناعي. في الحقيقة، وبعد الأبحاث، يتجه الإجماع العلمي الآن إلى أن الأجنة الأخف تكون كذلك لأسباب تتعلق بكليهما. يحاول ماكلون التوصّل إلى تخصيب صناعي طبيعي أكثر يعتمد بشكل أقل على إعطاء هرمونات للأمهات، ويقول أن “هناك اتجاه عام بأنه كلما كانت العملية طبيعية أكثر، كلما كان ذلك أفضل.”
سيفتح لنا تطوير تقنيات جديدة لتجميد الأجنة آفاقًا أرحب لكيفية تخزينها قبل نقلها للأم، وهو ما يتيح لنا أن نتفادى أو نقلل تحفيز هرمونات الأم بشكل صناعي، وهو أمر هام، كما يشير ماكلون، لأن أبحاث تحليل السوائل داخل الأرحام أثبتت أن التلاعب الهرموني هذا يؤثر على البيئة في الرحم، “تتاح لنا اليوم لأول مرة القدرة على تحليل المحتوى الغذائي لسوائل الرحم الذي ينشأ فيه الجنين، إذ استطعنا التوصل إلى مستويات الأحماض الأمينية بداخلها وكيف تتأثر حسب نظام الأم الغذائي.” تعزيزًا لتلك النتائج، وجد فريق فليمينغ دليلًا لذلك بين الفئران عند تحليل سوائل أرحامها، حيث أثبت أن هناك آثارًا بعيدة المدى لتغيّر مستويات الأحماض الأمينية فيها.
***
هكذا إذن، يقوم العلماء اليوم بدراسة مجموعة من البشر لم تكن موجودة منذ نصف قرن، المولودين بالتخصيب الصناعي، ولا يزال أغلبهم في أوائل العشرينيات من العُمر، مما يعني أننا سنحتاج للانتظار على أي حال لمعرفة ما ستؤول له صحتهم في أعمار متقدمة. تظل الأبحاث تشير إلى صحة إيجابية بشكل عام، فكما رأينا، لا علاقة أبدًا بين التخصيب الصناعي والسرطان، وتأثير التخصيب الصناعي على وزن الطفل ليس التأثير الأوحد. علاوة على ذلك، لا تزال البحوث جارية لتكون تلك العملية، وهي واحدة من أنجح ما قدمه علم الطب للبشر، طبيعية أكثر.
يختتم ماكلون حديثه قائلًا: “نعرف بشكل حاسم أن البيئة التي نتطور فيها في أرحام أمهاتنا ونولد منها لها آثار مباشرة على حياتنا بعد الولادة، ولذا يعَد مهمًا لنا أن نتابع أولئك الأطفال باستمرار حتى بلوغهم، وكذلك متابعة نسلهم لزيادة يقيننا من أن التخصيب لا يسبب مشاكل جذرية أو عيوب شديدة، وهو أمر طالما عرفناه من الأبحاث، ولكننا نظل نريد التأكد منه. معرفة الإجابة على تساؤلاتنا تلك لن تكتمل بطبيعة الحال إلا خلال عقدين أو ثلاثة، ولكنني متفاءل بما ستؤول له على أي حال، فالنتائج الحالية مبشرة.”
منقول بتصرف من: الغارديان