تقوم صناعة السينما على القيمة المادية للمنتَج الفني في المقام الأول (لا يمكننا تعميم هذه الرؤية ولكنها الأقرب للصواب)، وهذه النظرة المادية تفرض قيودًا كثيرة على المنتَج الفني، وتغيّر من عملية الإنتاج ذاتها، وتجبر الصنّاع على الانشغال بمؤشرات وعناصر تقع خارج السياق الفني والتقني، وتتعلق أكثر بالسوق التجاري، مثل موعد إصدار الفيلم في دور العرض السينمائية، فالجدول الزمني الذي يحدّده المنتِج بالاتفاق مع المخرج يرتبط ارتباطًا جذريًّا بتحقيق الفيلم وإصداره داخل السوق في توقيت تمّ تعيينه بعناية، ليساهم في نجاح الفيلم تجاريًّا على المدى القريب.
تحتاج صناعة السينما -خصوصًا في الدول النامية مثل مصر وأغلب الدول العربية- إلى مناخ معيّن للنجاح، ما يجعل موسم الأعياد والإجازات الرسمية مناخًا مثاليًّا لإطلاق الأفلام في السوق، وهذا التوافق بين المناسبات الاجتماعية والطبيعة الاقتصادية للسوق السينمائي هما ما يجعل موسم الأعياد والإجازات موسمًا سينمائيًّا، تتنافس خلاله الأفلام بضراوة على سيادة شبّاك التذاكر الذي يكون عادةً منتعشًا بالحضور الجماهيري الغفير.
السوق العربي ومواسم الأعياد
تختلف معايير السوق التجاري طبقًا للمنافسة وتنوع الخيارات وضخامة الإنتاج، فلا يمكن مقارنة السوق المصري الصغير والمنغلق على خيارات محدودة بالسوق الأمريكي أو الأوروبي، نظرًا إلى التفاوت الهائل في عدد الأفلام المصنوعة وحجم الأموال التي تُستثمر داخل كل سوق، إلى جانب القيود السياسية والاجتماعية التي تحصر الأنماط الفنية في مناطق معينة، وتخلق أفلامًا تتناسب مع المعايير السائدة ليتسنّى تمريرها من الرقابة.
ولكن في الحقيقة خلال السنوات الأخيرة، ومع تدهور أحوال السينما العربية والمصرية، أصبح موسم العيد هو الملاذ الوحيد والمحرّك الأساسي لعجلة الإنتاج الفني، فقد أصبح المنتجون أكثر حذرًا في انتقاء الأعمال، خصوصًا بعد أزمة كورونا، رغم ذلك ما زالت المواسم والأعياد تحتفظ بقيمتها المعتادة كمنطقة شبة آمنة لإصدار أكبر عدد من الأفلام.
يتميز السوق العربي بخصوصية كبيرة بالنسبة إلى عيدَي الفطر والأضحى، فهما أهم مناسبتَين في السنة السينمائية العربية، نظرًا إلى التفرغ والإقبال على دور السينما، ولكنه لا يتميّز بالحفاوة نفسها مع عيد الميلاد أو رأس السنة، رغم أهمية وجودهما في السنة السينمائية، عكس السوق الأمريكي والأوروبي الذي يبني جزءًا مهمًّا من سنته الإنتاجية على هذه المناسبتَين في شهر ديسمبر/ كانون الأول.
يرجع هذا لعدة أسباب، منها إجازة التفرغ، بجانب إقبال المنتجين على إطلاق أفلامهم في هذا الشهر للمنافسة على الأوسكار، ما يدفع بنهاية سنة سينمائية قوية، ولكن على النقيض تبدأ السنة الجديدة بضعف، حيث يسمّي الكثير شهرَي بداية السنة بشهرَي النفايات (Dump months).
ويكون هذا جرّاء سوء أحوال الطقس الشتوية وانشغال العالم بحفلَي الأوسكار والغولدن غلوب، بالإضافة إلى مباراة السوبر بول الشهيرة التي تقام في فبراير/ شباط، ما يجعل هذين الشهرَين خيارًا سيئًا لإطلاق الأفلام، وهذه ليست قاعدة أساسية، فيمكن لبعض الأفلام أن تنزل السوق وتحقق نجاحًا هائلًا، خصوصًا إذا كانت من صنع الاستوديوهات الرئيسية مثل مارفل ودي سي.
إذا حاولنا إحصاء الأوقات الجيدة في السنة السينمائية المصرية، سنجد أن الموسم الصيفي هو أفضل المواسم نظرًا إلى الطقس الذي يُعتبر عاملًا أساسيًّا في توافد الجمهور، وهو ما يتوافق في الأغلب مع ميعاد عيد الأضحى، ليخلق مناسبة مثالية لتكثيف العروض وإصدار الأفلام، خاصة مع الانفراجة المادية التي تنعش جيوب المواطن العربي في هذا الوقت، فئة الشباب والمراهقين تحديدًا، ثم فئة العائلات، ما يجعل المنتجين يتّجهون إلى أنواع فيلمية معينة، مضمونة النجاح، يستهدفون عن طريقها الفئات والطبقات المذكورة سابقًا.
أهم هذه الأنواع هي الكوميدي والأكشن والدراما، ثم تأتي الأفلام التاريخية بعد ذلك بصحوة من المخرجَين شريف عرفة ومروان حامد في السنوات الأخيرة، كل هذه الأنواع تقع بالضرورة في حيّز الأفلام العائلية، تراعي حدودًا معيّنة حتى لا تخرج عن النص، سواء بصريًّا أو سمعيًّا أو حتى على مستوى تقديم الأفكار السياسية والاجتماعية.
بيد أن انتعاش المواسم لا يصل إلى بقية السنة في مصر، فإذا أحصينا عدد الأفلام الصادرة في الأشهر العادية، سنجد عددها قليلًا جدًّا، لضعف الصناعة نفسها وعدم قدرتها على المغامرة بالأموال داخل سوق لا يمكن توقعه، وهذا بالطبع إذا أخرجنا الأفلام المستقلة الموجّهة -عادةً- إلى جمهور سينمائي معيّن، وهو جمهور النخبة في المهرجانات السينمائية.
لذا من الصعب الخروج عن المواسم والأعياد في السينما المصرية، بالنظر إلى الحالة الاقتصادية للمواطن المصري خلال العام التي لا تسمح له بدخول قاعات السينما في المناسبات العادية لغلاء التذكرة بشكل هائل في السنوات الأخير، حيث تضاعفَ سعر التذكرة في ما يسمّى بسينما المولات التجارية، وهي قاعات سينما محتكرة لطبقة معيّنة تستطيع دفع تذكرة يتجاوز سعرها الـ 100 جنيه.
ينكسر هذا النمط الاقتصادي والاجتماعي خلال مواسم الأعياد كما ذكرنا سابقًا، فالانتعاش اللحظي لجيوب الجمهور المصري، والإجازة الرسمية، والرغبة في كسر روتين العمل وقضاء وقت ممتع، كله يدفع جمهور الطبقة الوسطى للتوافد على السينمات بشكل كبير، والجدير بالذكر أن الحكومة المصرية أعادت إطلاق مبادرات سينما قصور الثقافة ذات التذكرة المخفّضة، وهذه لفتة ممتازة ستسمح للمواطن العادي بالانخراط أكثر داخل السوق السينمائي.
نموذج فيلم المواسم
تتمحور سينما الأعياد والمواسم حول نوعيات معيّنة، تُصنَع خصيصًا من أجل مناسبات معيّنة، فيحشد موسم أفلام عيد الميلاد في أمريكا وأوروبا عددًا هائلًا من أفلام الكوميديا الخفيفة والرومانسية، وهذا نظرًا إلى نوعية الجمهور المستهدَف، العائلات والأزواج والمرتبطين، حيث إنه موسم مناسب للمواعدات اللطيفة والذهاب لدور السينما، لذلك الأفلام الرومانسية والكوميدية هي السائدة، وأغلبها يتبع النمط نفسه تقريبًا في تقديم الأفكار.
ولكن رغم ذلك لا يفتقد شهر ديسمبر/ كانون الأول للتنوع الفيلمي، على عكس السينما المصرية، فمواسم الأعياد هي التي تحمل تنوعًا، وهي المساحة الزمنية الوحيدة في السنة السينمائية التي تستطيع فيها الأفلام المصرية المنافسة ضد الأفلام العالمية، فبقية العام تكتسح إيرادات الأفلام الهوليوودية الأفلام المصرية، وهذا لعدة أسباب من السهل تتبّعها، ولكن في مواسم الأعياد يضع الجمهور المصري الأفلام المصرية في الواجهة، لتتجاوز إيرادات بعض الأفلام في السنوات الأخيرة الـ 100 مليون جنيه.
بيد أن النجاح التجاري يتطلّب أشياء معيّنة، خلطة سينمائية معروفة لجذب المشاهد العربي، الاهتمام بالجانب البصري، وتطعيم الفيلم الواحد بأكبر عدد من النجوم، يمكننا الاستشهاد بسلسلة “ولاد رزق” التي حققت نجاحًا جماهيريًّا عظيمًا، وعودة مروان حامد هذه السنة بفيلم “كيرة والجن” الذي ينتهج الأسلوب نفسه في حشد النجوم والاعتماد على البطولة الجماعية، بميزانية إنتاجية هائلة، وحكاية مثيرة لمشاهد السينما العادي بكافة الطبقات الاجتماعية.
إذًا البطولات الجماعية هي الخلطة المثالية للنجاح التجاري في السوق المصري، وهناك نموذج آخر حظيَ بنجاح كبير في السنوات الأخيرة داخل السوق المصري، وهو الاعتماد على صيت النجم الواحد، مثل أفلام الكوميديا الرومانسية الخفيفة التي يقدّمها النجم تامر حسني، تتراوح جودتها بين المتوسط والرديء، وتنجح نجاحًا جماهيريًّا منقطع النظير بسبب حب الجمهور للنجم، إذًا اسم تامر حسني بحدّ ذاته منطقة آمنة للمنتجين، هامش الخسارة ضئيل جدًّا بحيث لا يمكن رؤيته أصلًا، فمن المعروف أن النجم يدخل السوق السينمائي بجماهيره.
لا يمكن تلقين الجمهور كيفية اختيار الأفلام، أو حتى إسداء النصيحة، فموسم العيد رغم ما يسمح به من تنوع في إنتاجات الأفلام وأنواعها، من السهل معرفة أي من هذه الأفلام سيتربّع على قمة شبّاك التذاكر، وكل أفلام العيد تقريبًا مصنَّفة رقابيًّا للجمهور العام، ومتاحة للعائلات، ومن المنطقي أن يختار أفراد الجماهير الأفلام التي ستشعرهم بالنشوة والإثارة، فهم لا يمتلكون همومًا نقدية أو فنية، فقط يريدون قضاء وقت سعيد مع أفراد أسرتهم.
إذًا ستصبّ الاختيارات على المنطقة الآمنة لفيلم مروان حامد “كيرة والجن” بما يحمله من نجوم صف أول، تتوق الجماهير لرؤيتهم على الشاشة، وفيلم تامر حسني “بحبك” لأنه محبوب الجماهير حتى لو قدّم أفلامًا فارغة من تأليفه وإخراجه وإنتاجه، ثم سيأتي فيلما “عمهم” لمحمد عادل أمام و”مستر إكس” لأحمد فهمي.