ترجمة وتحرير: نون بوست
إن صعود وسقوط منظمة فتح الله غولن مرتبط أساسًا بالحرب الباردة.
لم يقتصر الصراع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي على الاستقطاب العسكري والاستراتيجي بين الناتو وحلف وارسو، وإنما تطور إلى منافسة متعددة الأوجه ذات أبعاد سياسية واقتصادية وأيديولوجية وثقافية.
ومن بين الحقائق المعروفة أن النظام الشيوعي يقوم على أيديولوجية شمولية وأن آلية الدعاية القوية تستخدم كأداة أساسية للسيطرة على المجتمع والتأثير عليه. ومع ذلك، من الخطأ الاعتقاد أن التضامن الداخلي للكتلة الغربية الموحدة حول القيم الليبرالية متروك للأداء الطبيعي للأنظمة السياسية والاجتماعية الداخلية للدول الأعضاء.
بالعودة إلى الماضي، نرى أن العديد من مشاريع الهندسة الاجتماعية والتلاعب السياسي وحتى الانقلابات العسكرية نفذت بأساليب – مفتوحة أو مغلقة – مدعومة من قبل دول الناتو من أجل تحصين المجتمعات ضد الشيوعية.
تظهر الأبحاث التي أجريت على هذه المنظمة أن الحلقة الاجتماعية التي تشكلت حولها، وخاصة حول زعيمها فتح الله غولن، كانت مخادعة منذ البداية من خلال الإيهام بأنها منظمة دينية اجتماعية. ولكن تصميم هذه المنظمة يتوافق مع عملية إعادة تصميم الهيكل السياسي والاقتصادي والعسكري لتركيا بعد انقلاب سنة 1960.
في السنوات السابقة، تجسدت هذه الاستراتيجية في بعث سلسلة مدارس ومؤسسات تعليمية خاصة وحتى جامعات في جميع أنحاء البلاد تُقدّم فرص التنشئة الاجتماعية المختلفة للطبقات الدنيا من المتدينين الذين أصبحوا حضريين من خلال هذه الهياكل التعليمية.
على هذا النحو، أصبح الشباب الذين استفادوا من المراكز والمؤسسات التابعة لهذه المنظمة أعضاءً فعّالين للغاية بفضل التعليم. ويمكن القول إن الهيكل العلماني الصارم والسياسات الإقصائية السابقة وفّرت أساسًا شرعيًا قويًا لإنشاء مثل هذا الهيكل الطائفي، الهيكل الخاص المتشدد الذي تحول إلى آلة اجرام في ليلة 15 تموز/ يوليو.
افتتاح المدارس أولاً في آسيا الوسطى
تم إنشاء مدارس التعليم التابعة لمنظمة فتح الله غولن في الخارج بعد نجاحها في تركيا، وبدأت التوسع في آسيا الوسطى خلال فترة ما بعد الحرب الباردة. أعيد تحديد الدور الدولي لتركيا، التي كانت بمثابة واجهة في الدفاع عن العالم الغربي ضد الشيوعية أثناء الحرب الباردة، واُسند إليها دور ثقافي لا يقل أهمية عن دورها الجيوسياسي. وفي كتاب بعنوان “الموقف الجيوسياسي الجديد لتركيا” بقلم إيان ليسر وغراهام فولر الصادر في سنة 1993، تم اقتراح أن تكون تركيا نموذجًا في التحول الاقتصادي والسياسي للعالم التركي الإسلامي، وخاصة في آسيا الوسطى، التي نالت مؤخرًا استقلالها.
كان من المفترض أن تكون سياسات التنمية التركية القائمة على اقتصاد السوق والديمقراطية متعددة الأحزاب تجربة مفيدة للجمهوريات التركية الشقيقة. في هذا الصدد، تم اقتراح أن تلعب المؤسسات التعليمية دورًا رائدًا وكذلك رجال الأعمال في تركيا من أجل التحول الاجتماعي في هذه البلدان. وليس من قبيل المصادفة أن يتوجه تنظيم غولن، الذي تعرفه الولايات المتحدة جيدًا في تركيا، إلى دول القوقاز وآسيا الوسطى منذ سنة 1992. وقد شهدت المدارس التي افتتحت من قبل هذه المنظمة في الخارج انتشارا سريعًا في آسيا الوسطى بفضل رجال الأعمال المقربين من المنظمة، ثم امتدت هذه المراكز التعليمية إلى البلقان وجنوب آسيا (باكستان وأفغانستان وغيرها) وأخيرًا إلى القارة الأفريقية في بدايات سنة 2000 وأصبحت في النهاية شبكة تجارية وتعليمية عالمية.
مع تفكك الاتحاد السوفيتي، كانت أذربيجان الدولة الأولى التي فتحت فيها منظمة غولن مركزا تعليميًا، أولها ثانوية ”ناختشفان” التركية في سنة 1992 تبعها افتتاح مدارس في بلدان أخرى. وكانت كازاخستان الدولة التي نشطت فيها بكثرة المراكز التعليمية التابعة لمنظمة غولن، حيث وصل فيها عدد هذه المدارس إلى 29 مدرسة في سنة 1992.
هاجر زعيم المنظمة فتح الله غولن إلى الولايات المتحدة في سنة 1999 ولم يعد أبدًا، وذلك في الواقع مؤشر واضح للمراكز التي تخدمها الأنشطة العالمية لهذه المنظمة
استمر عمل هذه المؤسسات التعليمية في الجمهوريات التركية وفي البلقان والشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا، والتي تمثل منطقة التأثير السياسي والثقافي لتركيا، ثم امتد نشاطها إلى قارات مثل أمريكا وأوروبا وأستراليا حيث فتحت منظمة غولن مدارس في أكثر من 100 دولة في وقت قصير.
تعرّف منظمة غولن نفسها على أنها مجتمع مدني ديني من حيث الشرعية الاجتماعية، وهي تبني “المنازل والفصول الدراسية والمهاجع والمؤسسات التعليمية”، وتعطي الأولوية للتعليم الحديث في مدارسها وتعلّم اللغة الإنجليزية كلغة أجنبية وترسل المتفوقين من طلابها إلى الجامعات الأمريكية والأوروبية، وحتى تحقق مآربها تظهر دوافع جذابة للبلدان المضيفة.
كان يُنظر لمراكزها التعليمية في دول آسيا الوسطى على أنها مصدر لتدريب النخبة السياسية/الاجتماعية الليبرالية الجديدة على النمط الغربي الذي كان مناسبًا جدًا لخطاب العولمة الدارج في ذلك الوقت. كانت هذه المدارس في الأساس جزءًا من مؤسسات منظمة غولن، التي تتألف من منظمات رجال الأعمال في الخارج ومنظمات المساعدة الاجتماعية والأنشطة التعليمية، وكانت تمول غالبا من شعب الأناضول.
تفرض المنظمة على رجال الأعمال ضريبة تطلق عليها تسمية ”ضريبة الهمّة” وقد شكلت الأنشطة التطوعية والتبرعات المقدمة لمنظمات المساعدة الإنسانية المصدر المالي الرئيسي لهذه المنظمة. وكانت الألعاب الأولمبية التركية التي تنظم سنويًا في أجزاء مختلفة من العالم وفي تركيا، وقصص النجاح المبالغ فيها للمدارس، وقصص التضحيات البشرية داخل المنظمة، من الروايات التي تهدف إلى ضمان شرعية هذا الهيكل أمام المجتمع التركي.
شكك العديد من المراقبين في صمود هذه السلسلة العالمية من المؤسسات من خلال التبرعات فقط، ورجّحوا أن يكون تمويلها من دول أجنبية. هاجر زعيم المنظمة فتح الله غولن إلى الولايات المتحدة في سنة 1999 ولم يعد أبدًا، وذلك في الواقع مؤشر واضح للمراكز التي تخدمها الأنشطة العالمية لهذه المنظمة. كما أنّ العديد من أعضاء المنظمة الذين فرّوا من تركيا بعد المحاولة الفاشلة لانقلاب 15 تموز/ يوليو ذهبوا بشكل مباشر أو غير مباشر إلى دول مثل الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وإنجلترا وألمانيا ولم يتم تسليم زعيمها إلى السلطات التركية حتى هذا اليوم.
دور وأهمية مدارس منظمة غولن
مهما كانت الأهداف الأساسية لمؤسسي منظمة غولن، يمكن القول إن هذا الهيكل قد تولى وظيفة تعزيز الشبكات التجارية العالمية التي تضمن استمرار الهيمنة العالمية ”الأنجلو ساكسونية” المتمركزة في الولايات المتحدة من خلال تربية أجيال نشأت على أيديولوجية العولمة الليبرالية الجديدة للغرب. وعلى هذا النحو، تعد المدارس فرصة لتسهيل الوصول إلى عمق المجتمعات التي تعيش في مناطق جغرافية مختلفة واختراق النخب السياسية والبيروقراطية والاقتصادية في تلك البلدان.
بالنسبة لمنظمة غولن ومن يقفون وراءها، كانت هذه المؤسسات التعليمية عمليًا هياكل مفيدة لجميع أنواع الأنشطة السياسية والاقتصادية وغيرها من الأنشطة السريّة. وقد تغير تصور تركيا لأدوار هذه المدارس بشكل جذري خلال الفترة الفاصلة بين 17 إلى 25 كانون الأول/ ديسمبر وبعد ”انقلاب 15 تموز/ يوليو” في أعين الجماهير. من ناحية أخرى، يبدو أن تغيّر الرأي العام تحقّق إلى حد كبير مع النضال الفعال والمنسق الذي خاضته تركيا مع وسائل الإعلام وجميع مؤسساتها بعد محاولة الانقلاب.
دراسات وتأثيرات مؤسسة المعارف التركية
بعد الكشف عن الأنشطة الإرهابية لمنظمة غولن في تركيا، تم تتبع المؤسسات التعليمية للمنظمة في البلاد، وكان وصول المنظمة إلى الأجيال الشابة في تركيا وعملية التجنيد والمعاملات المالية للمنظمة مقيدًا بإجراءات مختلفة.
تم تتبع المؤسسات التعليمية التابعة لمنظمة غولن في الخارج أيضًا، ومُنعت المنظمة من التظاهر بأنها الممثل الشرعي لتركيا تحت اسم “المدارس التركية”، وبدلا من ذلك قامت الدولة بإنشاء سلسلة من المؤسسات التعليمية الدولية في الخارج. في هذا السياق، تأسست مؤسسة المعارف التركية بموجب القانون عدد 6721، الذي صادقت عليه الجمعية الوطنية التركية الكبرى في 17 حزيران/ يونيو 2016.
لا تقتصر مهمة مؤسسة معارف التركية على محاربة مؤسسات منظمة غولن، بل هي أيضًا مؤسسة عامة تضطلع بتنفيذ أنشطتها التعليمية في الخارج نيابة عن تركيا لسنوات عديدة، وتشمل أنشطتها 67 دولة من خلال مكاتبها التمثيلية في 55 دولة. كما تقدم هذه المؤسسة خدمات التعليم النظامي والخاص في جميع فروعها وتضم 406 مدارس تتخصص في التعليم قبل المدرسي والابتدائي والثانوي وجامعة واحدة.
إجمالا، وقع إغلاق 234 مؤسسة تعليمية من أصل 428 مؤسسة تابعة لمنظمة غولن نتيجة مفاوضات دبلوماسية بين مؤسسة المعارف التركية والبلدان ذات الصلة، حيث يتلقى أكثر من 50 ألف طالب التعليم في هذه المؤسسة وتهدف لأن تكون علامة تركية فارقة في مجال التعليم.
بدأت المبادرات المشتركة للمؤسسات التركية ذات الصلة ومؤسسة المعارف التركية العمل على أربع عمليات مختلفة لإغلاق المدارس التابعة لمنظمة غولن في الخارج:
أولا دفع بعض البلدان إلى إغلاق المدارس التابعة لمنظمة غولن
كانت أوزبكستان وروسيا في طليعة هذه الدول. وقد قررت أوزبكستان في سنة 2000 وروسيا في سنة 2008 إغلاق المدارس التابعة لمنظمة غولن، وعرّفتها على أنها شبكة تجسس. كما أغلقت دول مثل المغرب والجزائر وصربيا هذه المدارس تمامًا بناءً على تحذير تركيا.
ثانيا، إغلاق بعض البلدان المدارس وتحويلها إلى إشراف وزارة التعليم
من بين هذه البلدان، قامت تركمانستان في سنة 2011 وطاجيكستان في سنة 2013 وأذربيجان في سنة 2018 بتصفية المدارس التابعة لمنظمة غولن، بينما حولتها كازاخستان إلى مدارس حكومية تخضع لإشراف وزارة التعليم.
ثالثًا، إغلاق بعض البلدان مدارس منظمة غولن ونقلها إلى إشراف مؤسسة المعارف التركية
اعتبارًا من حزيران/ يونيو 2022، أغلقت البلدان المعنية 234 مدرسة كانت تابعة لمنظمة غولن وحولتها إلى مؤسسة المعارف التركية. يتم إغلاق المدارس التابعة لمنظمة غولن ونقلها إلى مؤسسة المعارف التركية وفقًا للقانون الدولي. فعلى سبيل المثال، تم تسجيل “مذكرة التفاهم بشأن نقل المدارس الأفغانية التركية إلى مؤسسة المعارف التركية في سنة 2018″، وهي تضمن إغلاق المدارس التابعة لمنظمة غولن في أفغانستان ونقلها إلى مؤسسة المعارف التركية من قبل الأمانة العامة للأمم المتحدة في 3 كانون الثاني/ يناير 2019. وفي باكستان أيضا، تم تحويل هذه المدارس إلى مؤسسة المعارف التركية بقرار من المحكمة الدستورية بإعلان منظمة غولن ”منظمة إرهابية”.
ومع أن بعض البلدان لم تتخذ إجراءات مماثلة بشأن المدارس التابعة لمنظمة غولن، إلا أنها تسمح أيضًا لمؤسسة المعارف التركية بفتح مدارس. نتيجة لذلك، بدأت المدارس التابعة لمنظمة غولن، التي لم تعد تستطيع استخدام اسم “المدرسة التركية” وتعليق العلم التركي على مبانيها، تفقد قدرتها على منافسة المدارس الحديثة التي افتتحتها مؤسسة المعارف التركية. وفي البلدان التي فتحت فيها مؤسسة المعارف التركية مدارس، تراجع الطلب على الانخراط في المدارس المحسوبة على منظمة غولن، ما دفعها إلى إغلاق أبوابها من تلقاء نفسها.
إن مؤسسة المعارف التركية تنشر علامة “المدارس التركية” في جميع أنحاء العالم من خلال المؤسسات التعليمية التي يرفرف فيها العلم التركي. وعلى هذا النحو، يُمكن منع الأنشطة الدعائية المناهضة لتركيا في المدارس التابعة لمنظمة غولن ومنعها من التأثير على عقول الشباب.
المصدر: كريتر