بالتوافق مع بدء جولة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، الشرق أوسطية، ستتخلّلها عدة لقاءات مع زعماء المنطقة، حتى بدأت التصريحات الإيرانية تصدر تباعًا حول هذه الزيارة، في مشهد يعكس خشية إيرانية واضحة منها والمقررات التي ستخرج بها، إذ عقد الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، اجتماعًا حكوميًّا، حاول من خلاله تمرير العديد من الرسائل لدول المنطقة، مشيرًا إلى أنه لا يحقّ لأي دولة أن تتكلم مع الشعب الإيراني بلغة القوة، كما أشار إلى أن هناك قمة ستجمعه مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، والرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في طهران يوم 19 يوليو/ تموز الجاري.
وفي هذا السياق، قال وزير الاستخبارات والأمن الوطني الإيراني، إسماعيل خطيب، إن زيارة بايدن تعني عودة الولايات المتحدة رسميًّا إلى المنطقة بمركزية “إسرائيل” بعد فشل جميع مخططاتها ضد إيران. وأوضح خطيب أن عشرات أجهزة الاستخبارات في العالم تنشط ضد إيران، وتعمل على استغلال المطالب الاقتصادية للشعب لتأجيجه ضد الحكومة، ونشر اليأس وعدم الرضا عن أداء النظام الإسلامي في البلاد.
وفي ردّ من نوع آخر على زيارة بايدن، أكّدت طهران أنها نجحت في إنتاج اليورانيوم المخصب بنسبة 20% في منشأة فوردو، وهي الخطوة النهائية التقنية في الإنتاج.
قناعة إيرانية متزايدة
تتمثل القناعة الإيرانية بأن زيارة بايدن ستقدِّم في جزء كبير منها رؤية أمريكية لدول المنطقة في كيفية التعامل مع الملف الإيراني، وهو ما ألمح إليه بايدن بصورة واضحة عند توقيعه على “إعلان القدس” في تل أبيب، في لقاء جمعه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، يائير لبيد، والذي يؤكّد على التزام الولايات المتحدة بدعم أمن “إسرائيل”، وعدم السماح لإيران بامتلاك سلاح نووي.
ويأتي توقيع هذا الإعلان في إطار مسعى أمريكي لدمج “إسرائيل” بالكامل في المنظومة الإقليمية، في إطار تحالفات أمنية تسعى واشنطن وتل أبيب لتشكيلها، ومواجهة ما يُوصف بالخطر الإيراني عبر تأسيس تحالف للدفاع المشترك في الشرق الأوسط بالضد من التهديدات الإيرانية، فالمشكلة التي تواجهها إيران اليوم هي أن تحالفاتها اللادولتية التي جمعتها مع العديد من الحركات والجماعات المسلحة في المنطقة، ضمن ما يُعرف بـ”محور المقاومة”، لم تعد فاعلة بما يكفي لتغيير معادلة الردع مع “إسرائيل”، وهو ما أظهرته السطوة الإسرائيلية في سوريا والعراق، وحتى في الداخل الإيراني.
كما أن روسيا ورغم قوتها وتأثيرها الدولي، قد لا تجازف في فتح جبهة جديدة في الشرق الأوسط لمواجهة أي ترتيبات جديدة قد تقدم عليها الولايات المتحدة، خصوصًا أنها لن تواجه إدارة بايدن فيما لو قررت المواجهة، وإنما ستواجه السعودية والإمارات على سبيل المثال لا الحصر، أي دول فاعلة في منظمة “أوبك بلس”، ومن الممكن أن تضع روسيا في موقف حرج للغاية مع التزايُد المستمر للطاقة العالمية.
وأيضًا إن “إسرائيل” هي الأخرى ستزعج روسيا كثيرًا في سوريا وأوكرانيا، فيما لو قررت روسيا عرقلة جهودها ضد إيران، وهي مشاكل قد تجعل إيران في موقف حرج للغاية فيما لو قررت المواجهة أو التصعيد في المنطقة.
ورغم السعي الإيراني لجعل قمة طهران المرتقبة، والتي ستجمعها مع روسيا وتركيا، بمثابة رد فعل لحظي على زيارة بايدن، خصوصًا أنها تأتي بعد 4 أيام من قمة الرياض المرتقبة التي ستُعقد على هامش زيارة بايدن للسعودية، إلا أن حاجات الأطراف الثلاثة المجتمعة تبدو متباعدة جدًّا، فروسيا تطمح عبر هذه القمة إلى التوصُّل لعلاقات تجارية واقتصادية أوسع مع تركيا وإيران، كما أن تركيا هي الأخرى بحاجة للتوصُّل إلى تصوّر واضح حول موقف الدولتَين من العملية العسكرية المرتقبة في شمال سوريا، إلى جانب إمكانية إقناع الجانب الروسي بلعب دور الوسيط بينها وبين أوكرانيا، ما قد يجعل إيران غير قادرة على ترجمة أهدافها الحقيقية عبر هذه القمة.
إيران والبحث عن مخرج
رغم التحركات الإيرانية المستمرة في تقديم نفسها عبر الحوار مع السعودية كدولة تؤمن بخيار التفاوض والتفاهم، إلا أن الصورة النمطية المأخوذة عنها جعلت دولة المنطقة تفكّر في خيارات أخرى متعارضة.
نعم، قد تكون إيران قادرة على إثارة الفوضى في المنطقة عبر تحريك وكلائها في أي ساحة تريدها، إلا أنها من جهة أخرى بدت اليوم أكثر عقلانية بسبب الضغوط الداخلية التي تعيشها، ما جعلها مجبرة على التفاهم مع تركيا التي تسعى لتنفيذ عملية عسكرية مرتقبة في شمال سوريا، إلى جانب تفهّمها لمشاركة رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، في قمة الرياض.
يمكن القول إن الخيارات الإيرانية تبدو معقّدة للغاية، وهي على ما يبدو تحاول ألّا تستبق زيارة بايدن، خصوصًا أنها نجحت في تجاوز التداعيات التي أفرزتها زيارة الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، للسعودية في مايو/ أيار 2017، وما نتج عنها من سياسة الضغط الأقصى، ومن ثم يمكن القول إن هناك تصورًا إيرانيًّا واضحًا بضرورة العودة إلى سياسة “الصبر الاستراتيجي” مرة أخرى، لمواجهة أي تداعيات قد تفرزها زيارة بايدن.
ويُبنى هذا التصور الإيراني بالأساس على أنَّ أي تحالف يمكن أن تشكّله الولايات المتحدة في المنطقة ضد إيران لن يكون سوى تحالف هلامي، لما يشكّله هذا التحالف من تحديات تتعلق بالدول التي ستنضم إليه، خصوصًا على مستوى الانكشاف الاستخباراتي والأمني، فمن غير المعقول أن تسمح “إسرائيل” لدول مثل مصر وتركيا أن تطّلع على منظومتها العملياتية والاستخباراتية، وكذلك الحال لهذه الدول أيضًا.
فضلًا عن ذلك، ما زالت السعودية غير قادرة على الاندفاع أكثر نحو “إسرائيل”، وتحاول أن تبقي الأوضاع في إطار التفاهم غير المباشر، وذلك لأسباب تتعلق بالداخل السعودي، إلى جانب حالة عدم الاستقرار السياسي التي يمرّ بها العراق اليوم، وهي كلها مخارج تحاول إيران توظيفها في خدمة حساباتها السياسية، دون الانغماس المباشر في شؤون المنطقة بالوقت الحاضر.
ولكن طهران تفضّل عمومًا الربط بين التحديات المتصوَّرة وكيفية ردّها عليها، وبالتالي نظرًا إلى الجهود الأمريكية الأخيرة لدعم إقامة منظومات دفاعية جوية وصاروخية وبنى تحتية أمنية بحرية في المنطقة لمواجهة إيران، ولزيادة إمدادات النفط الخليجية على أمل خفض الأسعار محليًّا، قد تُقرر طهران شنّ هجوم على ناقلات النفط أو البنية التحتية للنفط سواء في البحر أو على اليابسة، وهي الأهداف التي اختارتها إيران خلال السنوات الأخيرة.
فتحييد ناقلات النفط عن مسارها، وشنّ هجمات بألغام ملتصقة على مثل هذه السفن، أو شنّ هجمات غير فتاكة بل مدمّرة بواسطة الصواريخ والطائرات المسيَّرة على البنية التحتية للنفط، ستمكّن إيران من إثبات ضعف المنظومات الدفاعية في المنطقة وهشاشة إمدادات النفط العالمية، والأكثر من ذلك وضع إدارة بايدن في موقف محرج أمام دول المنطقة، وإظهارها في موقف العاجز عن دعم الحلفاء.