يمكن تلخيص علاقة الرئيس “مرسي” بالدوائر السياسية التي عارضته، ووفرت الغطاء، بخروجها على الرئيس المنتخب يوم 30 حزيران/ يونيو، لإطاحته، كالتالي: في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، اصطفت القوى التي تعرف، ببعض الحرية في استعمال اللغة، بالليبرالية والعلمانية والقومية والنظام القديم خلف مرشحيها، على أمل أن توصل هذا المرشح للجولة الثانية من الانتخابات.
في الجولة الثانية، وما إن أصبح واضحًا أن معركة الرئاسة ستنحصر بين مرسي ومرشح النظام القديم، أحمد شفيق، حتى انحازت أغلب القوى والشخصيات الليبرالية والعلمانية والقومية لشفيق، أو امتنعت عن اتخاذ موقف واضح، آملة بفوز شفيق على أية حال، كان الشعور السائد في هذه الدوائر أن وصول مرسي للرئاسة أكثر خطرًا عليها، على اعتبار أن قاعدته الشعبية الكبيرة وركيزته السياسية الإخوانية ستجعل منه رئيسًا قويًا تصعب إطاحته، قلة فقط في الدوائر الليبرالية والقومية اتخذت موقفًا مساندًا للمرشح الإسلامي، باعتباره مرشح الثورة، على أية حال، ولأن الوقوف إلى جانب شفيق بدا خيانة للثورة وغير مبرر أخلاقيًا، ولكن معارضة الرئيس المنتخب، وتجنب التعاون معه ودعم حكومته، بدأت مباشرة بعد فوزه بالرئاسة، بما في ذلك معارضة قراراته التي أراد بها الاستجابة للمطالب الشعبية، مثل عزل النائب العام وإعادة البرلمان المنتخب.
مع الإعلان الدستوري في تشرين ثاني/ نوفمبر، الذي يبدو الآن بالرغم من كل الانقسام والجدل الذي أثاره، مجرد إجراء عادي جدًا، اصطف المعارضون في جبهة الإنقاذ، خلال الشهور التالية، صعدت الجبهة من خطاب معارضة الرئيس، ومن رفض التعاون معه وحكومته بأي صورة من الصور، وصولاً إلى طرح مطلب الانتخابات الرئاسية المبكرة واحتضان مجموعة تمرد، التي ثارت ولم تزل، حولها الكثير من الشبهات، ليس من الواضح متى وكيف فُتحت قنوات الاتصال بين بعض قيادات الإنقاذ وأجهزة الدولة، التي لم تكن على استعداد لقبول الرئيس الغريب عن دوائرها وقيمها وشبكة مصالحها بما في ذلك المؤسسة العسكرية، ولكن المؤكد أن أغلبية قيادات جبهة الإنقاذ، على الأقل، كانت تعلم أن 30 يونيو/ حزيران ليس سوى مقدمة لإطاحة الرئيس، أحد أبرز مفردات خطاب معارضة الرئيس المنتخب تمحور حول تفرد مرسي والإخوان بالحكم، وسعي الرئيس وجماعته للسيطرة على الدولة المصرية، حقيقة الأمر، التي أصبحت أكثر وضوحًا بعد إطاحة مرسي، أن لا الرئيس تفرد بالحكم، ولا جماعته حاولت السيطرة على جهاز الدولة.
اختار مرسي شخصية تكنوقراطية وابنًا للدولة المصرية، رئيسًا للحكومة، كان معظم وزرائه من التكنوقراط والمحسوبين على جهاز الدولة، حفنة صغيرة فقط من الوزراء جاءت من خلفية سياسية، إخوانية وغير إخوانية، من كان لدية الاستعداد بين القوى السياسية للتعاون مع الرئيس، مثل حزب الوسط، شارك في الحكم، ولكن أغلبية القوى السياسية رفضت، أكثر من ذلك، أن مرسي قام بالفعل، قبل شهور قليلة من إطاحته، بتكليف الليبرالي “أيمن نور” بتشكيل حكومة جديدة، ولكن نور اعتذر عن تحمل عبء الحكم بعد أن رفض أصدقاؤه من قادة الإنقاذ التعاون معه.
ما هو مؤكد الآن أن وزراء مرسي، كما الرئيس، لم يحاولوا العبث بالبنية البيروقراطية التقليدية للوزارات التي ترأسوها، واقتصرت تعييناتهم السياسية على بعض المساعدين والمستشارين، الذين جرت التقاليد بمغادرتهم مواقعهم بمجرد مغادرة من عينهم، وعندما أُطيح بالرئيس وحكومته، لم يصل عدد من غادروا مواقعهم بالفعل سوى عشرات قليلة، سواء من مستشاري الرئيس ومساعديه، أو مستشاري رئيس الحكومة والوزراء ومساعديهم، ولا يكاد يوجد موظف دولة واحد اضطر للمغادرة، لأن لا الرئيس ولا الوزراء حاولوا الزج برجالهم إلى مؤسسة الدولة.
خطاب التفرد والسيطرة وجه أيضًا لحركة النهضة في تونس، وهنا أيضًا يبدو الخطاب أكثر قربًا للأسطورة منه إلى الواقع، حُكمت تونس خلال العامين الأولين من المرحلة الانتقالية التي تلت انتخابات الجمعية التأسيسية من مؤسسات ثلاث: رئاسة الجمهورية التي تولاها رئيس حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، ورئاسة الجمعية التأسيسية التي تولاها رئيس حزب التكتل الديمقراطي، ورئاسة الحكومة التي تولاها قياديان نهضويان، على التوالي، ولكن لا “حمادي الجبالي” رئيس الحكومة الأولى، ولا “علي العريض” رئيس الثانية، قاد حكومة نهضوية، بل حكومة ائتلافية، شُكلت من وزراء نهضويين ومؤتمريين وتكتليين وتكنوقراط، وكما في مصر مرسي، لم تحاول الحكومة الائتلافية المس بجهاز الدولة إلا في حالات قليلة معدودة تتعلق بالفساد والاتهامات الموجهة لعدد من رجال الأمن والداخلية.
والأكثر بلاغة في الحالة التونسية أن النهضة وحلفاءها انتهوا إلى التخلي عن الحكم كلية، بالرغم من الأغلبية التي تمتعت بها الحكومة الائتلافية في الجمعية التأسيسية، عندما أصبح واضحًا أن المعارضة وضعت البلاد بين خيارين: مغادرة حكومة الائتلاف الحكم أو إحراق الأخضر واليابس، والنهضة قبلت، بالرغم من وزنها البرلماني الكبير، بالتخلي عن الكثير من مطالبها والقبول بدستور توافقي تمامًا.
واكب عملية التحول والتغيير التي أطلقتها الثورتان التونسية والمصرية صعودًا انتخابيًا ملموسًا للقوى السياسية الإسلامية، ولكن دوائر نخبوية في البلدين، تنتمي للنظام القديم، أو تعارض التيار الإسلامي السياسي، مدعومة بدرجات متفاوتة من جهاز الدولة، أعلنت حربًا شعواء على الإسلاميين وحلفائهم، وظفت في هذه الحرب أدوات سياسية وغير سياسية، أخلاقية وغير أخلاقية، قانونية وغير قانونية، لم يعبر الاتهام بالتفرد والسعي إلى السيطرة على جهاز الدولة عن واقع فعلي، بل كان مجرد أداة من أدوات الحرب، وليس ثمة شك، في ضوء النتائج التي أفضت إليها هذه الحرب، أن هذا الاتهام كان أداة فعالة، بل بالغة الفعالية.
بيد أن ثمة نتيجة أخرى، لا تقل أهمية، نجمت عن حرب العامين الماضيين في تونس ومصر، كما في دول الثورة العربية الأخرى: أن قطاعًا واسعًا من النخبة المعادية للتيار الإسلامي – معظم دوائر النظام العربي القديم، ومؤسسات الدولة الرئيسية -، تحتفظ بموقف موروث من فكرة الشراكة مع الإسلاميين في الحكم، في تصور قوى هذه الدوائر، ليس ثمة توجه للقبول بالشراكة في الحكم، لا مع الإسلاميين ولا أي جهة سياسية غريبة على المنظومة التقليدية السائدة للحكم والسياسية في المجال العربي.
طالما أن الثورة العربية لم توقع هزيمة قاطعة بقوى المنظومة التقليدية، ستعمل هذه القوى على تأبيد سيطرتها على الحكم والساحة السياسية، سواء بالاعتماد على توازن قوى داخلي، تلعب فيه مؤسسة الدولة دور المرجح، أو استدعاء دوائر إقليمية حليفة لمساندتها، ثمة شعور لدى هذه القوى، حتى تلك الجهات بينها التي لم تكن شريكًا مباشرًا في الحكم قبل اندلاع الثورات العربية، أن الدولة العربية الحديثة هي دولتها، وأن إدارة شئون هذه الدولة والتحكم في قيادها هو حق موروث لها وحكر عليها، أنها وحدها من يفهم لغة هذه الدولة، من يعرف أسرار معبدها، ومن هو المؤهل للالتحاق بسلك كهنوتها.
مثل هذا الوضع، وليس دعايات التفرد والسيطرة، من أفضى إلى تحول حركة الثورة والتغيير في المجال العربي إلى حرب أهلية عربية محتدمة وباهظة التكاليف، وقد بات واضحًا الآن أن على الإسلاميين والقوى السياسية الجديدة، التي فتحت رياح الثورة العربية لها مجال الصعود السياسي، خوض معركة طويلة، دفاعًا عن حق الشعوب في تقرير مصيرها واختيار من يمثلها في إدارة مؤسسة الدولة، أو القبول بالتهميش والاكتفاء بموقع الديكور السياسي.