تسير المفاوضات الخاصة بالإفراج عن صادرات أوكرانيا من الحبوب نحو انفراجة قريبة في ضوء الاتفاق المبدئي الذي أبرمه وفدا روسيا وأوكرانيا على هامش اللقاء الذي عقد في “قصر قلندر” بمدينة إسطنبول برعاية تركية أممية، فيما أكد وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، أن الاتفاق بصورته النهائية والخاص بضمان أمن ممرات شحن الحبوب وسلامة الطرق الخاصة بها، سيتم توقيعه الأسبوع القادم.
كانت وفود عسكرية روسية أوكرانية تركية قد التقت بمسؤولين من الأمم المتحدة في إسطنبول الأربعاء 13 يوليو/تموز 2022 لإجراء جولة جديدة من المحادثات الخاصة باستئناف صادرات الحبوب الأوكرانية من ميناء أوديسا الرئيسي على البحر الأسود مع توفير الضمانات الخاصة بعملية النقل.
وما زال هناك أكثر من 20 مليون طن من الحبوب الأوكرانية عالقة في صوامع ميناء أوديسا من العام الماضي، فيما يتوقع أن يصل إجمالي محصول هذا العام إلى 50 مليون طن آخرين، ما يمثل تهديدًا مباشرًا لتلك الإمدادات الغذائية إذا لم يتم نقلها من مخازنها قبيل حصد المحصول الجديد.
ويحبس العالم أنفاسه في انتظار وترقب ما ستسفر عنه تلك المباحثات التي لم تكن الأولى من نوعها منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في 24 فبراير/شباط الماضي، في ظل حزمة من التحديات والعراقيل التي تهدد الوساطة التركية الأممية في هذا المسار، في الوقت الذي يهدد شبح الجوع عشرات الملايين من سكان العالم.
وتتحكم روسيا وأوكرانيا في 30% من إجمالي صادرات الحبوب في العالم، فيما تمثل الحبوب الأوكرانية المصدر الأساسي لكثير من الدول: الصين، مصر (1.12 مليار دولار)، إندونيسيا، إسبانيا، هولندا، تركيا (473 مليون دولار)، تونس (347 مليون دولار)، بنغلاديش، كوريا الجنوبية، ليبيا (265 مليون دولار).
مباحثات إيجابية
تذهب كل المؤشرات والتصريحات الصادرة من مختلف الأطراف إلى أن المباحثات كانت بناءة وإيجابية، وأن هناك اختراقًا كبيرًا لبعض النقاط الصلبة التي عرقلت التوصل لحلول ملائمة خلال الأشهر الأربع الماضية، وهو ما يمكن البناء عليه لدخول الاتفاق حيز التنفيذ الأسبوع المقبل كما هو متوقع.
وبعد انتهاء المباحثات – التي استمرت قرابة 3 ساعات متواصلة – بشكل رسمي، أكد المتحدث باسم الأمم المتحدة فرحان حق أن المنظمة الدولية “تعتقد أن هذا شيئًا إيجابيًا”، فيما قال الأمين العام أنطونيو غوتيريس “اتُّخِذَت خطوة مهمة للأمام” لاستئناف صادرات الحبوب الأوكرانية من البحر الأسود، أما وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، فأوضح في بيان له أن طرفي النزاع أحرزا تقدمًا كافيًا في اتجاه حل النزاع بشأن تلك المسألة.
الألغام البحرية التي زرعتها أوكرانيا ستعرقل شحن الحبوب لأشهر قادمة حتى إن تم التوصل إلى اتفاق بين الطرفين
ويعد هذا الاجتماع امتدادًا للمبادرة التركية التي أعلن عنها في يونيو/حزيران الماضي المتعلقة بالضغط لإعادة فتح الموانئ الخاضعة للحصار الروسي في البحر الأسود، بهدف تسهيل عملية نقل القمح والحبوب من أوكرانيا إلى جميع أنحاء العالم عبر ممر آمن للسفن، وقد لاقت حينها ترحيبًا من كل الأطراف، الأممية والإقليمية والمحلية، رغم وجود بعض التحفظات لدى موسكو وكييف تتعلق معظمها بفقدان الثقة المتبادل وهي المعضلة التي حالت دون دخول المبادرة حيز التنفيذ طيلة الأيام الماضية.
حاول الجانب التركي، مدعومًا من الأمم المتحدة، منذ الأسبوع الأول من الشهر الماضي، تقريب وجهات النظر بين طرفي الحرب بشأن استئناف خطوط الإمدادات من الحبوب الأوكرانية وتصديرها للخارج في ظل الأزمة الغذائية الطاحنة التي تعاني منها العديد من بلدان العالم، وذلك من خلال العديد من رسائل الطمأنة وإحياء الثقة، وهي الجهود التي ربما تسفر عن نتائج إيجابية الأيام القادمة، لكن شريطة أن يتم التغلب على التحديات والعراقيل التي حالت دون ذلك سابقًا.
ثلاثية المسارات والتحديات
بعد فرض موسكو حظر طيران كامل على كل الأجواء الأوكرانية منذ بداية الحرب، لم يعد أمام الحبوب الأوكرانية إلا 3 مسارات فقط لنقلها خارج البلاد، إما عبر المياه من خلال الموانئ البحرية القابعة تحت سيطرة الروس، وإما المسار البري عبر الشاحنات العملاقة، بجانب السكك الحديدية الممتدة لمئات الكيلومترات بين الأراضي الأوكرانية وجيرانها.
المسار الأول الخاص بالموانئ يواجه تحديات ربما تكون الأصعب، تلك الخاصة بالألغام المزروعة في تلك الموانئ ومداخلها، التي زرعتها كييف لحماية أمنها القومي من الاختراقات الروسية، المتمسكة بها كونها أحد الأسلحة الرادعة في الحرب الدائرة الآن.
وبعد جهود ومحاولات تركية توصلت المباحثات إلى العمل معًا على إزالة تلك الألغام وتوفير ممرات آمنة بحسب صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية، التي نقلت عن مسؤول غربي قوله: “أوكرانيا أبلغت الأمم المتحدة في البداية أنه يمكن رسم خريطة للممر الآمن عبر حقول الالغام، لكن يجب أيضًا إبطال مفعول الألغام العائمة”.
بدوره يرى الأكاديمي الروسي في السياسة الدولية ديميتري فيكتوروفيتش، أن الألغام البحرية التي زرعتها أوكرانيا ستعرقل شحن الحبوب لأشهر قادمة حتى إن تم التوصل إلى اتفاق بين الطرفين، مضيفًا في تصريحاته لـ”سكاي نيوز” أن الألغام الموجودة في البحار والمحيطات أصعب بكثير من نظيرتها الموجودة في اليابس نظرًا لتوافر خرائط كافية لها عكس المزروعة في المياه التي تسمى “الألغام الشاردة” التي تجرفها الأمواج والتيارات البحرية إلى أماكن غير معروفة وهنا مكمن الخطورة والتهديد المحتمل لأي مرور من تلك الموانئ.
رغم الأجواء الإيجابية التي خيمت على مباحثات الأربعاء وإزالة المخاوف لدى الطرفين قدر الإمكان من خلال عدد من الضمانات، مع استجابة موسكو وكييف للاستغاثات الدولية لإنقاذ الملايين من شعوب العالم من الجوع الناجم عن فقدان ثلث الإمدادات تقريبًا في ضربة واحدة وغير متوقعة، تبقى حالة القلق قائمة حتى تنفيذ ما تم الاتفاق عليه
ووفقًا لما تم الاتفاق عليه وفي محاولة لإزالة المخاوف الروسية من استخدام كييف تلك الممرات لنقل أسلحة غربية لدعم جيشها في الداخل، ستقوم البحرية التركية، ومعها بعض القوى الدولية، بتفتيش السفن الفارغة التي تدخل الموانئ الأوكرانية، وفق التقرير الذي نشرته الصحيفة الأمريكية وترجمه موقع “الميادين”.
وكان المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، خلال لقاء عقده مع الصحفيين الثلاثاء 7 يونيو/حزيران 2022 قد أكد أن بلاده لا ترفض عبور السفن المحملة بالقمح الأوكراني، غير أن الأمر مشروط بفحصها قبل المرور، للتأكد من خلوها من أي أسلحة غربية، منوهًا أن المرور سيكون تحت الحراسة الروسية بدءًا من دخول الموانئ مرورًا بتحميل الحبوب ثم الذهاب إلى المياه الدولية.
المسار الثاني خاص بالطرق البرية حيث نقل الحبوب على ظهر شاحنات عملاقة، الأمر الذي يتطلب معه جيشًا هائلًا من الناقلات يتجاوز مليوني شاحنة وفق بعض التقديرات، وهو ما يصعب توفيره في الوقت الحاليّ، فضلًا عن التلفيات التي أصابت الطرق السريعة جراء الحرب، ما أفقد الكثير منها صلاحيتها بما يهدد مصير تلك الشاحنات ويجعل من عبورها مغامرة غير محسوبة، فضلًا عن عدم وجود الضمانات الكافية لعدم استهدافها عسكريًا، سواء عن قصد أم دون قصد.
فيما يأتي المسار الثالث لنقل الحبوب الأوكرانية للخارج عبر قطارات السكك الحديدية، خاصة بعدما عرضت بعض الدول المجاورها كبولندا وليتوانيا نقل الحبوب عبر موانئها شريطة أن يتم نقلها من الصوامع الأوكرانية إلى موانئ البلطيق في هاتين الدولتين، غير أن هذا المقترح قوبل بمعضلة رئيسية تتمثل في اختلاف مقاييس ومعايير اتساع القضبان الحديدية والمسافة بين ليتوانيا وروسيا ودول السوفييت القديمة من جانب ودول أوروبا من جانب آخر، وهو ما يجعله مسارًا صعبًا يتطلب جهدًا إضافيًا ووقتًا كبيرًا لإعادة النظر في تلك المقاييس بما يمهد نحو استخدامها بالشكل الأمثل، وهو ما لم يتوافر في الوقت الحاليّ.
تفاؤل حذر.. هل تنجح الجهود التركية؟
يترقب العالم الجهود التي تبذلها أنقرة لفك القيد عن الحبوب الأوكرانية لا سيما القمح والذرة، ورغم الأجواء الإيجابية التي خيمت على مباحثات الأربعاء، وإزالة المخاوف لدى الطرفين قدر الإمكان من خلال عدد من الضمانات، مع استجابة موسكو وكييف للاستغاثات الدولية لإنقاذ الملايين من شعوب العالم من الجوع الناجم عن فقدان ثلث الإمدادات تقريبًا في ضربة واحدة وغير متوقعة، تبقى حالة القلق قائمة حتى تنفيذ ما تم الاتفاق عليه.
لا شك أن موسكو وكييف يسعيان قدر الإمكان – وإن لم يعلنا ذلك لضغوط داخلية وخارجية – لتبريد أجواء الحرب نسبيًا، في ظل الخسائر الفادحة التي تلقاها الطرفان دون استثناء، وربما يكون الممر الآمن لنقل الحبوب للخارج وتخفيف حدة الأزمة الغذائية العالمية خطوة أولى نحو الجلوس على مائدة المفاوضات لإنهاء الحرب التي لم ينتصر فيها أحد حتى اليوم.
وعلى الجانب الموازي، تكثف أنقرة من مساعيها لإدخال اتفاق إسطنبول الأولي حيز التنفيذ الأسبوع القادم بما يعزز من ثقلها الإقليمي كوسيط موثوق فيه، ومن جانب آخر لتكسير حالة الجمود الاقتصادي الناجم عن تداعيات الحرب الذي له ارتداداته العكسية على الداخل التركي قبيل الانتخابات المقرر إقامتها العام المقبل.
وتلتقي الرغبة الروسية الأوكرانية مع الأهداف التركية اللوجستية تحت رعاية الأمم المتحدة لوقف جنون أسعار السلع الغذائية الذي وصل بعد شهر واحد فقط من الحرب إلى أعلى مستوى له منذ عقود، الأمر الذي يزيد من أزمة الجوع عالميًا، فوفق الأرقام الرسمية فإن نصف آسيا (418 مليونًا) وثلث إفريقيا (282 مليونًا) و8% من سكان أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي (60 مليونًا) يعانون من الجوع في 2020 بحسب تقرير الأمن الغذائي الصادر عن منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة “الفاو”.
وربما تنجح شعوب آسيا وأمريكا اللاتينية في توفير مصادر بديلة مرحليًا للحبوب الأوكرانية الروسية، لتبقى إفريقيا أكبر ضحايا تلك الحرب، وهو ما وثقته مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا غورغييفا، حين ربطت بين تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على القمح ومؤشر الجوع العالمي، قائلة: “الحرب في أوكرانيا تعني الجوع في إفريقيا”.
قد يشهد الأسبوع الحاليّ اتصالات ومباحثات غير رسمية، تركية وأممية، بين جميع الأطراف للإبقاء على حالة الثقة المتبادلة بين موسكو وكييف من أجل إتمام الاتفاق وفق الجدول الزمني المخصص له، ما لم يستجد أي طارئ يعيد الأمور إلى نقطة الصفر مرة أخرى، وهذا ما ستكشفه الأيام القادمة.