بالتزامن مع إقامة أنصار الزعيم الشيعي مقتدى الصدر صلاة جمعة موحَّدة في بغداد، دعا إليها بداية الشهر الجاري، حتى سبقتها موجة من التسريبات الصوتية التي تعود لرئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي تجتاح وسائل الإعلام في اليومَين الماضيَين، والتي حملت في أجزائها المتسلسلة أوصافًا قاسية أكالها المالكي على الصدر.
تحدّث في هذه التسجيلات عن فترة حكمه 2006-2014، معتبرًا أنه نجح في كبح جماح التيار الصدري في أكثر من مناسبة، مشيرًا إلى أن “صولة الفرسان” التي نفّذها عام 2008 ضد جيش المهدي الذي كان يتبع للصدر في محافظة البصرة، كشفت عن “جُبن” الصدر، وهروب عناصر جيشه إلى الحدود مع إيران.
لم تتوقف التسريبات التي تعود للمالكي عند هذا الحد، بل تحدّث عن الدعم المقدَّم من الجانب الإيراني للصدر في تلك الفترة، خصوصًا على مستوى التسليح، إلى جانب إشارته لعمليات التصفية الجسدية التي دارت بين عناصر التيار الصدري وعصائب أهل الحق في أكتوبر/ تشرين الأول 2019.
هذا فضلًا عن وصفه للسنّة بأنهم “حاقدين”، والكرد بأنهم “عملاء للصهاينة”، معبّرًا عن طموحه بأنه كان يسعى لتحويل الحشد الشعبي إلى نسخة مشابهة للحرس الثوري الإيراني لولا غدر الأخوة، في إشارة للصدر الذي اعتبره جزءًا من مشروع تخريبي تقوده بريطانيا في العراق.
ورغم نفي مكتب المالكي لهذه التسريبات، معتبرًا أنها جزء من مخطط خارجي لإحداث فتنة داخل البيت الشيعي، إلا أن الصدر على ما يبدو غير مهتمّ حتى اللحظة في الردّ على هذه التسريبات، ولعل هذا ما أكّده في التغريدة التي نشرها صباح الخميس على الصفحة الرسمية الخاصة به في موقع تويتر، مشيرًا إلى أنه غير مستعد للدخول في فتنة جديدة، وأن التيار الصدري مدرك لطبيعة الظرف السياسي الحالي، قائلًا: “نحن لا نقيم له وزنًا” في إشارة للمالكي.
فانشغال الصدر بإنجاح صلاة الجمعة الموحَّدة، وعدم اكتراثه بالردّ على المالكي بالوقت الحاضر، قد يكون الهدف منهما جعل هذه الصلاة بمثابة رد فعل لحظي على تصرفات قادة الإطار التنسيقي الشيعي، وفي مقدمتهم المالكي، عبر حشد الشارع وتنظيمه.
ولعل إشارته إلى أن صوت الجمعة أعلى من أي احتجاج آخر، يشير بوضوح إلى أنها قد تكون مقدمة لجُمَع أخرى قد يدعو إليها الصدر، في ترجمة واضحة لعبارة أنه تركَ “الخيار للشعب”، في إمكانية جعل هذه الجُمَع على شكل اعتصام مفتوح قد ينتهي باقتحام المنطقة الخضراء في المرحلة المقبلة، في تكرار لسيناريو اقتحامها في فبراير/ شباط 2017، فيما لو استمرّت الأزمة بين الإطار والتيار.
المالكي يعمّق من أزمة الإطار
رغم استحواذ قوى الإطار التنسيقي الشيعي على مقاعد نواب التيار الصدري المنسحبين من مجلس النواب، إلا أنه حتى اللحظة لم تتمكن قوى الإطار من الإعلان عن مرشحها لرئاسة الوزراء.
وفي الوقت الذي كانت تسعى فيه قوى الإطار إلى تقديم مرشحها خلال اليومَين الماضيَين، إلا أن فشل اجتماعها الأخير يوم الثلاثاء الماضي يوحي بعمق الخلافات التي بدأت تعصف بقوى الإطار، خصوصًا بعد تعثر محادثاته مع الكتلتَين الكردية والسنّية، إلى جانب إصرار كل من نوري المالكي وهادي العامري على الانفراد بقرار الترشيح، وما عمّق من هذه الأزمة هي التسريبات الأخيرة للمالكي.
فما لا شكّ فيه أن المالكي بعد هذه التسريبات عمّق من أزمة الانسداد السياسي، بعد حديثه الحاد عن الكرد والسنّة، بل أصبح يمثّل عبئًا على قوى الإطار التنسيقي الشيعي التي تحاول اليوم إقناع الكرد والسنّة للتوافق على شكل الحكومة المقبلة.
والأهم من كل ذلك إن هذه التسريبات وضعت قوى الإطار التنسيقي الشيعي في موقف محرج للغاية، خصوصًا أنها حملت اعترافات صريحة من المالكي عن عمليات الدعم الإيراني وعمليات الاغتيال والنبرة العنصرية حيال الشركاء، وهي اعترافات يمكن أن تشكّل إدانة جنائية واضحة للمالكي فيما لو تمَّ تقديمها للقضاء.
والأكثر من ذلك أشارت هذه التسريبات إلى طبيعة الكراهية التي يحملها المالكي حيال الآخرين، إلى جانب طبيعة العلاقة الوثيقة التي يتمتع بها مع ميليشيات مسلحة، ويعتبرها ضدّ نوعي مهم بالضد من التيار الصدري، وتركيزه المستمر على مصطلحات المناطقية والمذهبية والطائفية والمكوناتية، ما جعله يظهر كزعيم لطائفة أكثر من كونه زعيمًا سياسيًّا.
لا يمكن بأي حال من الأحوال الحديث عن إمكانية ترشّحه لولاية ثالثة في المرحلة المقبلة، ورغم أن هذا المتغير قد يعطي قوى الإطار فرصة للتخلُّص من معضلة إصرار المالكي على ترشيحه، بسبب ما ورد في التسريبات الأخيرة، إلا أنه من جهة أخرى قد لا تستطيع قوى الإطار تجاوز المالكي في تقديمها لأي مرشح آخر لا يحظى بقبوله، أو أن يكون له دور بارز في اختيار مرشح الإطار.
إذ تبدو خيارات الإطار التنسيقي الشيعي معقّدة للغاية اليوم، فحالة الارتباك الداخلي التي يشهدها، إلى جانب التنازلات المؤلمة التي يسعى الكرد والسنّة للحصول عليها من قوى الإطار، قد تجعل قوى الإطار محكومة بـ 3 خيارات هي: إما التمديد لحكومة مصطفى الكاظمي من أجل الإعداد لانتخابات مبكرة بعد عام من الآن، وإما يتمّ تقديم تنازلات للصدر والكرد والسنّة عبر تقديم مرشح توافقي يحظى بقبول الأطراف الثلاثة كمدخل لتشكيل الحكومة الجديدة، وإما أن يتمّ حلّ البرلمان، ورغم المحاذير السياسية التي تقف وراء كل خيار، فإن الصدر وحده من سيحدد أي توجّه قد يلجأ إليه الإطار التنسيقي الشيعي، حسب طبيعة التعاطي والتعامل الصدري مع المرحلة المقبلة.
تعقيد سياسي يمرّ به العراق
يأتي التعقيد السياسي الذي يمرّ به العراق اليوم مع الزيارة الحالية للرئيس الأمريكي جو بايدن للشرق الأوسط، وسط جهود أمريكية لوضع مزيد من الضغوط على إيران، من أجل التوصل لاتفاق نووي جديد، إذ ما زالت إيران تصرّ على عرقلة التوصل لأي اتفاق لا يلبّي طموحاتها السياسية.
ورغم إعلان إدارة بايدن عزمها على تشكيل مظلة أمنية جديدة في المنطقة، تجمع دول الخليج و”إسرائيل” بالضد من إيران وحلفائها، فإن هذه الرؤية الأمريكية ستكون أمام امتحان صعب للغاية، فيما لو نجح الإطار التنسيقي الشيعي في إيصال رئيس وزراء جديد في العراق متماهيًا مع الرؤية الإيرانية، الرافضة للوجود الأمريكي في العراق، أو حتى التقارب مع السياسات الأمريكية في المنطقة، عندها سيتحول العراق لعقدة أمنية ينبغي على الولايات المتحدة أن تتعامل معها وفق التوازنات الجديدة في العراق.
إن الضبابية التي تحيط بموقف الصدر، خصوصًا حول طبيعة الخطوة المقبلة التي ستعقب صلاة الجمعة الموحَّدة، فيما إذا كان هناك تصعيدًا صدريًّا عبر الشارع، أو تراجعًا واضحًا لقوى الإطار عن أي خطوة تستفزّ الصدر، تضع أمامها العديد من إشارات الاستفهام.
فما لا شكّ فيه أن الصدر سيحاول استخدام إمكانات الحسم لديه في أية لحظة، خاصة مع الأخذ في الاعتبار النفوذ السياسي والاجتماعي والاقتصادي الكبير الذي يتمتّع به تياره، في حال ما إذا حاولت قوى الإطار التنسيقي الشيعي استفزازه أو احتواء نفوذه، وبناءً على ذلك يدرك الصدر جيدًا ألّا حكومة مقبلة قادرة على النجاح إذا لم تحظَ بقبوله.
يسعى الصدر عبر صلاة الجمعة الموحَّدة إلى إثبات قوة تياره، وتكريس عدم تجاوزه في أي معادلة حكم مقبلة، وهو ما بدا واضحًا في الشروط التي أعلنها في خطبة الجمعة الموحَّدة، والتي اُعتبرت بمثابة موافقة مشروطة لتشكيل أي حكومة جديدة، منها الالتزام بإخراج ما تبقّى من القوات المحتلة، ومحاسبة الفاسدين تحت طائلة قضاء نزيه، وحصر السلاح بيد الدولة، وحلّ الفصائل المسلحة، وإعادة تنظيم الحشد الشعبي، والتحذير من إعادة تشكيل الحكومة من قبل أشخاص تمَّ تجربتهم سابقًا، في إشارة على ما يبدو إلى المالكي.
ورغم أن هذه الشروط سبق وأن أكّد عليها الصدر في مناسبات سابقة قبل انسحابه من العملية السياسية، إلا إن إصراره عليها مجددًا قد يعيد رسم الخارطة الشيعية من جديد، وتحديدًا على مستوى العلاقات الصدرية الإطارية في المرحلة المقبلة.