يشارك الرئيس التونسي نظيره الجزائري اليوم 15 يوليو/ تموز احتفالات الشعب الجزائري بعيد الاستقلال، في زيارة لم يُعلن عنها مسبقًا. تأتي هذه الزيارة تحت سماء سياسية غائمة بين البلدَين، فالعلاقات باردة أو منقطعة في الظاهر رغم أخبار كثيرة من مصادر مختلفة عن مساعدات جزائرية لتونس، دفعت أحد معارضي النظام الجزائري (السيد زيتوت) إلى تصريح حاد بأن الجزائر تدفع رواتب الموظفين التونسيين.
وأبعد من المساعدات الظرفية، لا تخفي الجزائر قلقها من توجهات الرئيس التونسي نحو المشرق، وكثيره لا يكنّ للجزائر أية مودة وربما يكيد لها، بما يجعل الرئيس التونسي تحت مساءلة غير ودية نرجّح أنه لا يملك لها إجابات تشفي غليل الجزائر.. سنخوض في الأمر بحذر، فالمعلومات الصحيحة شحيحة.
عودة إلى التاريخ قليلًا
منذ عهد الرئيسَين بورقيبة وبومدين (الستينيات) تمَّ وضع ثوابت في سياسة الجوار، ملخّصها عدم الاعتداء وعدم التدخل، وقد دفع بورقيبة ثمنًا من التراب الوطني عند الترسيم النهائي للحدود، وقد ظلت العلاقة بن الشعبَين أقل توترًا من العلاقة بين الأنظمة/ الأجهزة.
في مجال السياسات الخارجية كان البلدان مختلفان دومًا، فالجزائر ركن أساس في جبهة الصمود والتصدي أيام المعسكرات والحرب الباردة، ويصنِّف نظامُها تونس ضمن صف الرجعيات العربية خاصة في موضوع العلاقة مع القضية الفلسطينية، حيث تعتبر الجزائر نفسها داعمة وحاضنة للنضال الفلسطيني (عارضت الجزائر بقوة موقف بورقيبة من قرار التقسيم في خطاب أريحا المشهور).
في مرحلة بورقيبة – بن علي كان النظام التونسي، وبناءً على علاقة ودية بين الملك محمد الخامس وبورقيبة، أميل إلى الموقف المغربي (إحدى الرجعيات العربية بمقاييس الجزائر)، لكن تونس لم تتخذ موقفًا فاصلًا في قضية الصحراء الغربية، وقالت بالشرعية الدولية لحلّ النزاع، وهو الموضوع الذي يقسم دول المغرب منذ الخمسينيات، وقد جنّبها ذلك الاحتكاك بالجزائر بشكل مباشر.
لم ينقطع التعاون الاقتصادي بين البلدَين بل تعزّز بأنبوب الغاز العابر نحو إيطاليا عبر الأراضي التونسية، وهو الذي يموّل السوق التونسية بجزء كبير من حاجتها إلى الغاز، فضلًا عن مؤسسات اقتصادية مشترَكة في البلدات الحدودية.
حركة الإرهاب على الحدود بين البلدَين كانت سببًا للتوتر وأيضًا للتعاون الأمني خاصة بعد الثورة التونسية، حيث عرفت العلاقة نوعًا من التهدئة بعد انتخابات 2014 رغم غضب جزائري من سياسات الباجي قائد السبسي، الذي رفضت الجزائر استقباله طيلة مدة حكمه.
وذكرت مصادر كثيرة أن علاقة طيبة ربطت الرئيس الجزائري بوتفليقة مع زعيم حزب النهضة راشد الغنوشي كانت وراء هذه التهدئة، حتى عزا البعض انقطاع العمليات الإرهابية في المنطقة الحدودية إلى هذا الجهد.
بعد انتخابات 2019 تغيّرت المعطيات وعاد التوتر نتيجة السياسات الغامضة لقيس سعيّد تجاه الجزائر، ولم تحسّنها زيارة تبون لتونس في الربيع الفارط.
الموقف من الوضع الليبي فجّر العلاقة
لم تخفِ الجزائر خشيتها من خليفة حفتر وارتباطاته المصرية والإماراتية والصهيونية، ورغم أنها لا تكنّ مودة كبيرة لحكومة طرابلس التي تستند إلى دعم إسلاميي ليبيا، إلا أنها فضّلت موقفًا يحمي حدودها الشرقية من تقدم العسكر المصري غربًا، لذلك دافعت عن حكومة تسندها شرعية الأمم المتحدة.
في الأثناء لم يخفِ قيس سعيّد علاقته مع شقّ حفتر وفلول نظام القذافي، خاصة بعد سفره إلى مصر وظهور تعاونه مع النظام المصري، هذا الملف وتّر العلاقات بين البلدَين، وكان كلما اتّضح تنسيق قيس سعيّد لمواقفه مع النظام المصري ومن معه ارتفعت الحساسية بين البلدَين.
لكن حالة البؤس الاقتصادي التي فاقمها انقلاب قيس سعيّد على المؤسسات، جعلت الجزائر تضطر إلى دعم تونس بصدقات مالية حماية للنظام من الانهيار، ونظن أن تقديرها يقوم على معادلة بسيطة: كلما ضعف النظام اقترب من أعداء الجزائر.
أما عندما بدأت إشارات التطبيع تتوالى، فإن تحسُّس الخطر في الجزائر ارتفع، فصورة بلد محاصَر بين نظامَين مطبّعَين ليست صورة مطمئنة، حيث تبدو الجزائر الرسمية التي تعيش بخطاب سيادي واستقلالي مخلصة لموقفها المعادي للتطبيع حتى الآن، لذلك إن موقف الانقلاب في تونس من التطبيع يزعجها، ونرجّح أنه سيكون على طاولة الرئيسَين خلال الزيارة.
نتخيّل خطاب الرئيسَين
لم نرَ قائمة ضيوف الرئيس الجزائري لنعرف مع من سيتناول غداءه في عيد الاستقلال، لكن الاستقبال الرسمي لقيس سعيّد يوحي بأن هناك حديثًا ثقيل الوطأة سيضع نقاطًا على حروف كثيرة.
أرى على الطاولة متفضّلًا بمال ومتسوّلًا يبتزّ مضيفه بضعفه، بمنطق لا يخلو من وقاحة أعطني مالًا وإلا ذهبت إلى أعدائك، ولا تصطنع لك من خصومي في الداخل حلفاء، ولا تخاطبني في شؤون علاقاتي بالخارج بما فيها التطبيع.
يجد الجزائري نفسه في ورطة، فهو لا يملك أن يهدد بالقوة العسكرية بلدًا جارًا وشعبًا صديقًا (وأعتبر كل سيناريوهات التهديد أو التدخل العسكري من وقاحة الصبيان)، ولا يملك أن يقاطع النظام فينهار (عبر قطع أنبوب الغاز مثلًا، خاصة أنه بعد إغلاق الأنبوب العابر للمغرب نحو إسبانيا محتاج لبيع الكثير، ليغنم من أثر انقطاع الغاز الروسي عن أوروبا المحتاجة للطاقة).
لا نتوقع بحكم ما عرفنا عن قيس سعيّد أن يعود من هناك باتفاق “جنتلمان”، فتكون تونس كما كانت درعًا للجزائر من حدودها الشرقية. كما لا نتوقع أن الجزائر منزعجة من دستور الرئيس، فنظامها لا يحمل التجربة الديمقراطية في قلبه، وإن كان شأنًا داخليًّا تونسيًّا، لذلك أقصى ما يكون من حديث هو استفسار ودّي عمّا يجري دون التدخل فيه.
الإضرار بأمن الجزائر لم يأتِ من إسلاميي تونس ولا من إسلاميي ليبيا، بل جاء من النظام الذي يقف معه القوميون واليسار بالروح والدم
لقد استبقت المخابرات الفرنسية الزيارة بمقال في موقع مخابراتي بامتياز، يتحدث عن ترقية عسكري تونسي موالٍ لمصر حسب قولها، ربما لتوتير المحادثات أو خلق أزمة أكبر، لكن هل تملك الجزائر حق الاعتراض على حركة ترقيات في جيش لا تقوده؟
خرجنا من منطقة الأحلام بالمغرب العربي الكبير منذ زمن، ونحن في وضع كاريكاتوري حيث الأضعف يبتزّ الأقوى بضعفه، فهل نملك أن ننصح الجزائر التي لا نشك لحظة في أنها تعرف دقائق الوضع التونسي من الداخل؟ المبتزّ لا يعرف التوقف، وكلما أعطيته زاد في الطلب، لذلك نختم بجملة لن تصل إلى تبون: وحدها الديمقراطية في تونس تحمي حدود الجزائر الشرقية.
وعلى كل حال نكتب شهادة وهي آخر التعزيات، الإضرار بأمن الجزائر (الشقيقة الكبرى) لم يأتِ من إسلاميي تونس ولا من إسلاميي ليبيا كما تحدّث بذلك القوميون العرب واليسار التونسي منذ الثورة، بل جاء من النظام الذي يقف معه القوميون واليسار بالروح والدم، تلك فؤوس خراب الأمة التي يهدم بها المنقلب علاقة أزلية بين شعبَين خاوة خاوة.