ست سنوات مرّت على فشل محاولة وحدات من الجيش التركي الانقلاب على حكومة حزب العدالة والتنمية في 15 يوليو/ تموز 2016، والتي أسفرت عن وفاة 251 شخصًا، وإصابة ما يقارب الـ 2196 شخصًا، وحينها اتهمت الحكومة جماعة فتح الله غولن بالوقوف وراء محاولة الانقلاب، وبدأت حملة ملاحقة وتصفية واسعة لعناصر جماعة غولن من مختلف مؤسسات الدولة، وعلى رأسها المؤسسات العسكرية التي نالت الاهتمام الأكبر على مستوى التطهير والإصلاح.
تركّزت إصلاحات حزب العدالة والتنمية على إبعاد الجيش عن الممارسة السياسية، وتعزيز سيطرة وإشراف المؤسسات المدنية على نشاط المؤسسة العسكرية، وتركيز دورها في حماية البلاد ضد التهديدات الخارجية، واتخذت في سبيل ذلك مجموعة من الخطوات، في الوضع الطبيعي قد تحتاج إلى سنوات من الانتظار لكن لحظة 15 يوليو/ تموز ساهمت بتمريرها، دون مماطلة أو تأخير، لتؤسِّس لمرحلة جديدة.
الجيش والساسة: تاريخ من الصراع
دائمًا ما يؤكد المؤرخ التركي ألبير أورطالي على امتداد الجمهورية التركية للعصر العثماني وتقاليده في السياسة والإدارة، حيث احتفظ العسكر بموقع أساسي في عملية صنع القرار داخل المؤسسة العثمانية، ممثّلين بآغا الانكشارية، الذي لعب دورًا هامًّا في استقرار حكم السلطان أو نهايته.
وبعد البطش بالانكشارية، بما عُرف بالواقعة الخيرية عام 1826، على يد السلطان محمود الثاني، تحوّل الجيش الجديد إلى المؤسسة الأولى على قائمة الإصلاحات العثمانية، مستقطبًا أهم نخب الإمبراطورية ومستهلكًا جُلّ مواردها.
أنتجت إصلاحات عبد الحميد الثاني في التعليم والجيش جيلًا من الضباط والبيروقراطيين المنفتحين على المعارف الغربية بشقَّيها النظري والعملي، وورثت هذه الأجيال الحراك الإصلاحي الذي دشّنه مُصلحو القرن التاسع عشر من البيروقراطيين والمثقفين العثمانيين، ليجمع الضباط ما بين القوة الميدانية والأيديولوجيا الفكرية والإصلاحية.
انخرط الضباط والبيروقراطيون في حراك معارض لدفع السلطان عبد الحميد لتنفيذ مجموعة من الإجراءات الإصلاحية على مستوى الحريات وعودة البرلمان، لتصل إلى خلع السلطان عبد الحميد الثاني بعد حادثة 31 مارس/ آذار 1909 وتدخُّل “جيش الحركة”، ليكون هذا التسلل الأعنف للجيش الحديث لقلب نظام حكم قائم.
جمع ضباط حرب الاستقلال ما بين موقعهم في الجيش التركي كقادة وضباط، وموقعهم في البرلمان كسياسيين ومؤسسين للجمهورية، وبعد انتهاء مرحلة التحرير وبدء مرحلة الحكم تصاعدت الخلافات ما بين قادة حرب الاستقلال وتحديدًا مصطفى كمال وفريقه، وكاظم كارابيكر وفريقه من جهة أخرى.
مبنى وزارة الدفاع في إسطنبول
خشيَ مصطفى كمال من تحول الجيش إلى ميدان وأداة للصراع السياسي، خاصة في ظل احتفاظ خصومه بحضور قوي في المؤسسة العسكرية، حيث دعا في أكثر من مناسبة إلى ضرورة الفصل ما بين الوظيفة المدنية والعسكرية، ووصل الأمر الى إصدار عدد من القرارات والقوانين التي تمنع ذلك.
وفي مارس/ آذار 1924، وبالتزامن مع قرار إلغاء مؤسسة الخلافة، صدر قانون بإلغاء وزارة أركان الحرب العامة (Erkân-ı Harbiye-i Umumiye Vekâleti) واستبدالها برئاسة هيئة الأركان العامة (Erkân-ı Harbiye-i Umumiye Riyaseti)، التي احتفظت باستقلالية عن مجلس الوزراء بعد أن كان رئيسها عضوًا بمرتبة وزير، وجرى إلحاقها برئاسة الوزراء، واحتفظ مصطفى كمال لاحقًا بمنصب القائد الأعلى للقوات المسلحة.
وفي عهد عصمت إينونو، بموجب قانون صدرَ عام 1949، جرى إنشاء وزارة الدفاع من جديد وتولّت الإشراف على هيئة الأركان العامة، التي جرى تغيير اسمها من (Müdafaa-i Milliye Vekâleti) إلى (Millî Savunma Bakanlığı)، وذلك بعد إصدار قانون تتريك الأسماء والرتب في المؤسسة العسكرية عام 1935.
وعقب هذا القرار دخلت الجمهورية التركية بعد عام 1950 عصرًا جديدًا، فجرى تنظيم انتخابات حرة لأول مرة منذ تأسيسها، منهية بذلك سنوات من حكم الحزب الواحد في تركيا.
مكّنت نجاحات الحزب الديمقراطي بقيادة مندريس في سنواته الأولى من فرض سيطرته على الجيش، الذي لم يكن بمعزل عن تأثير عواصف السياسة والأيديولوجيات في تركيا، وتحديدًا ضباطه الصغار، ومع تراجع إنجازات الحزب الديمقراطي وتفاقم الأزمة الاقتصادية والسياسية في البلاد، أخذ الضباط بالتفكير في التحرك لمواجهة حكومة مندريس.
جاءت أولى الإشارات حول نوايا الجيش بالانقلاب على السلطة بعد الكشف عن تنظيم سرّي لقلب نظام الحكم، فيما عُرف لاحقًا بحادثة الضباط التسعة عام 1958، وبعد عامَين من بدء محاكمة عناصره التسعة في 27 مارس/ آذار 1960، نجح عدد من الضباط متوسطي الرتب في قلب نظام الحكم واعتقال رموزه، ولاحقًا إعدام رئيس الوزراء عدنان مندريس، ووزير الخارجية فطين رشدي زورلو، ووزير المالية حسن بولاتكان.
عزّز دستور 1961 المُقرّ بعد الانقلاب من حضور المؤسسة العسكرية ونفوذها في النظام السياسي التركي عبر تأسيس مجلس الأمن القومي، وتعزيز صلاحيات رئيس الجمهورية ومنحه حقّ النقض على تعيين رؤساء الأركان ومشاريع القوانين وقضاة المحكمة العليا، مع العلم أن منصب رئاسة الجمهورية فترة 1961-1989 شغله ضباط ورؤساء أركان سابقون، وهم: جمال جورسال (١٩٦٠-١٩٦٦)، جودت سوناي (١٩٦٦-١٩٧٣)، فخري كوروتورك (١٩٧٣-١٩٨٠)، كنعان ايفرين (١٩٨٠-١٩٨٩).
وجاء التغيير الأهم في تحويل تبعية رئاسة الأركان من وزارة الدفاع إلى رئاسة الوزراء مباشرة، فيما اقتصر دور الوزارة على تقديم الخدمات اللوجستية للجيش، وبعد 10 سنوات على إقرار دستور 1961، تدخّل الجيش مجددًا وهذه المرة عبر إرسال مذكرة تحذيرية إلى رئيس الحكومة وزعيم حزب العدالة، سليمان ديميرال، الذي استقال لاحقًا.
عاشت تركيا في سبعينيات القرن الماضي ما يشبه الحرب الأهلية، طرفاها مجموعات اليسار واليمين التركي، في ظل عجز الساسة الأتراك عن وضع حد للعنف الداخلي وإيجاد حالة من الاستقرار السياسي، وجد الجيش الفرصة سانحة ليتدخل مرة أخرى، لكن بصورة هي الأعنف والأوسع.
جرى اعتقال أغلب السياسيين الأتراك وفرض حظر على ممارستهم للسياسة، وشنَّ الجيش التركي حملة واسعة لملاحقة النشطاء من مختلف التوجهات، وبعد عامَين من السيطرة على الحكم جرى إقرار دستور عام 1982، الذي قلّص الحريات المتاحة في دستور 1961.
الجنرال كنعان إيفرين، سابع رؤساء تركيا (1982-1989)
تولّى كنعان إيفرين منصب رئيس الجمهورية خلال التسع سنوات التي تلت الانقلاب، وانتقلت تركيا إلى الحكم المدني عام 1983، وبعد أقل من 10 سنوات من رحيل كنعان إيفرين عن منصب رئيس الجمهورية عاد الجيش للتدخل مجددًا في الحياة السياسة التركية، بما عُرف لاحقًا بالانقلاب ما بعد الحداثة عام 1997، الذي تلاه توسُّع في الإجراءات المتخذة لمواجهة الحركات الإسلامية التي تصاعد نفوذها، مدفوعًا بحالة الفوضى التي عاشتها تركيا خلال تسعينيات القرن الماضي.
متتالية الانقلابات: ملاحظات عمّا سبق
منذ تأسيس الجمهورية تدخّلَ الجيش بشكل واضح في الحياة السياسية في 4 مناسبات: انقلاب 27 مارس/ آذار 1960؛ مذكرة 1971؛ انقلاب 1980؛ والانقلاب ما بعد حداثي 1997، وحاولَ التدخل وفشل في مناسبات أخرى/ كما جرى مع تنظيم الضباط التسعة عام 1958، ومحاولات العقيد طلعت أيديمير 1962-1963، والمذكرة الإلكترونية عام 2007 وأخيرًا المحاولة الانقلابية عام 2016.
جميع المحاولات التي نجح فيها الجيش بتدخل وفرض وقائع جديدة، سبقها حالة من الضعف والفوضى في الحياة السياسية، والأهم تراجُع واضح في الأداء الاقتصادي.
قبيل انقلاب 1960 مرّت البلاد بحالة من التراشق السياسي الحاد، وأزمة اقتصادية تركت آثارها على مختلف الطبقات، وعشية مذكرة 1971 عاشت البلاد فوضى سياسية مدفوعة بحالة التراشق ما بين أحزاب اليمين واليسار.
وجاء انقلاب 1980 كنهاية لسنوات من الاقتتال الداخلي والحكومات الضعيفة، حيث عاشت تركيا خلال سنوات التسعينيات في ظلال صراع مسلَّح ما بين زعماء المافيا من جهة وحالة الحرب مع حزب العمال الكردستاني وأخبار فساد السياسيين من جهة أخرى، ما هيَّأ الأجواء أمام تدخل الجيش.
رغم وجاهة بعض الاتهامات الموجّهة للمؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية بالتسبُّب في توتير الأجواء وافتعال حالة الفلتان والفوضى الأمنية والسياسية، إلا أن ذلك لا يعفي السياسيين الأتراك من المسؤولية عن تهيئة الأجواء لتدخل الجيش أو إيجاد عوامل صدّ حقيقية تمنع العسكر من فرض إرادتهم، ففي الأوقات التي ظهرت فيها قوى سياسية ذات إرادة، تمكّنت من فرض حضورها على المؤسسة العسكرية والأمنية ودفعها باتجاه أجندتها السياسية وإبقائها داخل ثكناتها.
خلال جميع الانقلابات السابقة لم يتمسّك الجيش بالحكم فارضًا حكمًا عسكريًّا مباشرًا، واكتفى بالتأثير غير المباشر عبر مؤسسات دستورية وتحالفات مع البيروقراطية المدنية، فالعديد من ضباط انقلاب 27 مارس/ آذار 1960 تأثروا بتجربة الضباط الأحرار في مصر، وتحديدًا تعاملهم مع القوى السياسية في البلاد، فرأى هؤلاء بضرورة فرض حظر سياسي ومنع الأحزاب من الحكم مجددًا، وتحويل اللجنة العسكرية التي قامت بالانقلاب إلى حكومة دائمة.
رفض الضباط ذوو الرتب العليا هذا الطرح، الذي قاومه كذلك زعيم حزب الشعب الجمهوري، عصمت إينونو، كما وضع ترشح تورغوت أوزال لمنصب رئيس الجمهورية عام 1989 حدًّا لاحتكار العسكر لهذا المنصب.
حزب العدالة والتنمية والمؤسسة العسكرية
أقل من 5 سنوات فصلت ما بين وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة وانقلاب فبراير/ شباط 1997، ما جعل الحزب يتخذ مقاربة حذرة في التعامل مع المؤسسة العسكرية، وكانت البداية في الامتثال للشروط الاقتصادية والسياسية المطلوبة للدخول للاتحاد الأوروبي، وهي الفرصة التي اغتنمها الحزب لاتخاذ مجموعة من الإصلاحات التي عدّلت من وضعية الجيش أمام المؤسسة المدنية، حيث ازدادت جرأة الحزب في مواجهة سلوك المؤسسة العسكرية وتحديدًا رفضه للمذكرة الإلكترونية عام 2007، ولاحقًا محاكمة عدد من قادة الجيش في قضايا عُرفت باسم “أرجنكون والمطرقة”، رغم إسقاطها لاحقًا وكشفها كمؤامرات من جماعة فتح الله غولن، إلا أنها من دون شكّ ساهمت في تعزيز كفّة المدنيين.
وجاءت المحاولة الانقلابية الفاشلة عام 2016 لتشكّل فرصة تاريخية للحزب والمؤسسات المدنية للقيام بخطوات جذرية لتأسيس شكل جديد في العلاقات المدنية العسكرية، تركّزت على إصلاح مجلسَي الأمن القومي والشورى العسكري، وإشراف وزارة الدفاع على هيئة الأركان العامة، وفصل الجندرمة عن هيئة الأركان العامة وإلحاقها بوزارة الداخلية، إلغاء القضاء العسكري بالإضافة إلى إصلاح منظومة التعليم العسكري.
كما جرى تغيير البنية القانونية التي استندت عليها القوات المسلحة في تدخلها في الحياة السياسية، فعدّلت المادة 35 من قانون الخدمة الداخلية والتي تنصّ على أن واجب الجيش “صيانة الجمهورية وحمايتها” إلى أن “مهمة القوات المسلحة الدفاع عن الوطن التركي ضد التهديدات والمخاطر القادمة من الخارج”.
كما عدّلت المادة من قانون الخدمة العسكرية من “أن العسكري مكلَّف بتعلُّم وتطبيق فنون الحرب من أجل حماية الوطن والاستقلال والجمهورية” إلى عبارة “العسكري مكلَّف بتعلُّم تطبيق فنون الحرب”.
وغُيّرت الفقرة الأولى من المادة 43، والتي نصّت على أن “القوات المسلحة التركية خارج وأعلى من أي أفكار سياسية، ولهذا يمنع أفراد القوات المسلحة من الانتساب إلى أي حزب سياسي، أو من الدخول بصفتهم أعضاء في جمعيات لها علاقة بالنشاط السياسي، وكذلك جميع أنواع التجمعات السياسية، وتحظر عليهم الكتابة السياسية”، لتصبح “لا يمكن لأفراد القوات المسلحة التركية المشاركة في أي أنشطة سياسية”.
وزارة الدفاع وهيئة الأركان العامة: عودة الإشراف المدني
تشكّلت الحكومات الأولى للجمهورية التركية في ظلال حرب الاستقلال، ما جعلها حكومة حرب، حيث شغل رئيس الأركان العامة منصب وزير في الحكومة وشارك في جلساتها إلى جوار وزير الدفاع، وتولّى وزير هيئة الأركان العامة قيادة الجيش والإشراف على عمله، في حين تولّت وزارة الدفاع توفير مستلزمات المجهود الحربي، وتوفير الدعم اللازم لاستمراره.
وفي مارس/ آذار 1924، وبعد تصاعُد الخلاف ما بين مصطفى كمال باشا ورفاق سلاحه السابقين، وخشية من استخدام المؤسسة العسكرية في الصراع الداخلي، جرى فصل هيئة الأركان العامة عن مجلس الوزراء وتحويلها إلى هيئة مستقلة مسؤولة أمام رئيس الوزراء المسؤول أمام البرلمان عن أدائها، فيما احتفظ بوزارة الدفاع الوطنية (Müdafaa-i Milliye Vekâleti) في مجلس الوزراء.
بعد الحرب العالمية الثانية ودخول البلاد في مرحلة التعددية الحزبية، صدر قانون جديد لإعادة تنظيم وزارة الدفاع عام 1949، جرى بموجبه وضع هيئة الأركان العامة تحت إشراف وزارة الدفاع من جديد التي أصبحت مسؤولة أمام مجلس الوزراء عن هيئة الأركان.
ومن أهم التغيرات في دستور 1961 الذي جاء بعد انقلاب الـ 60 سحب تبعية هيئة الأركان العامة من وزارة الدفاع وإلحاقها مباشرة برئاسة الوزراء، ليقتصر دور وزارة الدفاع على توفير الدعم المادي واللوجستي للمؤسسة العسكرية، وحافظ دستور 1982 على هذه الوضعية.
بعد فشل المحاولة الانقلابية عام 2016، جرى مباشرة نقل تبعية هيئة الأركان العامة وقيادة القوات الجوية والبحرية والبرية إلى وزارة الدفاع، وبعد الانتقال إلى النظام الرئاسي جرى تعديل جديد على شكل العلاقة ما بين هيئة الأركان العامة ووزارة الدفاع، تحوّلت فيه الوزارة إلى المرجعية الأولى لهيئة الأركان العامة، ليعود الوضع مجددًا إلى ما كان عليه قبل انقلاب 1960، فبدلًا من اقتصار مهمة وزارة الدفاع على الدعم اللوجستي للقوات المسلحة تحوّلت إلى الجهة السياسية المسؤولة عن الجيش.
وساهمَ تولي رئيس الأركان السابق، خلوصي أكار، منصب وزير الدفاع في تعزيز سلطة الوزارة، وذلك لجمعه السلطة السياسية كوزير دفاع، والخلفية العسكرية كرئيس أركان سابق، ما حوّله إلى ما يشبه القائد العام للجيش التركي.
وتحت مظلة وزارة الدفاع جرى دمج التعليم العسكري التركي، فبعد المحاولة الانقلابية في 15 يوليو/ تموز جرى إلغاء التعليم الثانوي العسكري، بعد أن رأت فيه الدولة مصدرًا لتسرُّب أعضاء جماعة فتح الله غولن إلى المؤسسة العسكرية.
كما جرى إلحاق جميع الكليات العسكرية بفروعها المختلفة بجامعة الدفاع الوطنية، التي أُلحقت بدورها بوزارة الدفاع بعد أن كانت تابعة لهيئة الأركان العامة، فيما يعيَّن رئيسها من قبل رئيس الجمهورية، وجرى كذلك زيادة عدد المدنيين في الهيئات العليا في الكلية العسكرية، فرئيس الجامعة شخصية مدنية ويعاونه 4 مساعدين، 2 منهم مدنيين و2 عساكر.
مجلس الأمن القومي ومسيرة الإصلاح الطويلة
مثّل مجلس الأمن القومي (MİLLİ GÜVENLİK KURULU) النموذج الأهم لمؤسسات الوصاية العسكرية على القرار والإرادة السياسية في تركيا، وتعود جذور المجلس إلى العقود الأولى من عمر الجمهورية التركية، بموجب قرار صدر في أبريل/ نيسان 1933 جرى تشكيل مجلس الدفاع الأعلى (Yüksek Müdafaa Meclisi).
تكوّن المجلس من رئيس الأركان ورئيس الوزراء ومجلس الوزراء، على أن يترأّسه رئيس الجمهورية، وحُدِّدت مهام المجلس بالنظر في الوظائف والمهام المتعلقة بالتعبئة العامة ومتطلباتها، ويعيَّن الأمين العام للمجلس من قبل وزارة الدفاع، ويحتفظ بمكتب خاص مكوّن من عدد من الموظفين، ويشرف على إعداد المواضيع المتعلقة بالتعبئة العامة قبل انعقاد المجلس ومتابعة تنفيذها بعد عقده.
في يونيو/ حزيران 1949 صدر قانون لتشكيل مجلس جديد حمل اسم المجلس الأعلى للدفاع الوطني (Millî Savunma Yüksek Kurulu)، تكوّن من رئيس الجمهورية، رئيس الوزراء، وزير الداخلية، وزير الخارجية، وزير المالية، وزير الاسكان، وزير الاقتصاد، وزير التجارة، وزير المواصلات، وزير الزراعة والاستثمار، وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان العامة، وفي أوقات الحرب يصبح قادة القوات في الجيش أعضاءً طبيعيين في المجلس، ويحقّ للمجلس استدعاء أي من الخبراء للاستشارة.
حُدِّدت مهام المجلس بوضع الأُسُس للسياسة الدفاعية الوطنية، وعرض القوانين والإجراءات اللازمة لتنفيذ خطط الدفاع الوطنية ومتابعة إقرارها وتطبيقها، والإشراف على تنفيذ خطط التعبئة العامة، ويشرف رئيس الوزراء على متابعة تنفيذ قرارات المجلس الذي يجتمع مرة كل شهر على الأقل وعند الضرورة، ويعيَّن سكرتير المجلس بتشاور وزير الدفاع مع رئيس هيئة الأركان العامة، وبقرار من مجلس الوزراء.
أقرَّ دستور 1961 في مادته 111 ضرورة إنشاء وتشكيل مجلس الأمن القومي، وتكوّن من رئيس الجمهورية، رئيس الوزراء، رئيس هيئة الأركان العامة، وزراء الدولة، مساعدي رئيس الوزراء، وزير الدفاع والداخلية والخارجية والمالية والمواصلات، بالإضافة إلى قادة القوات في المؤسسة العسكرية.
ويترأّس رئيس الجمهورية المجلس، ويحقّ لرئيس الوزراء دعوة من يريد من الوزراء على أن يُعامَلوا كخبراء ولا يحقّ لهم التصويت على القرارات، كما حُدِّدت مهام المجلس بالنظر في المسائل المتعلقة بالقضايا الدفاعية والتعبئة العامة، ووضع القوانين والإجراءات التي تكفل تنفيذها، وتقدَّم قرارات المجلس كتوصيات لمجلس الوزراء، ويجتمع المجلس مرة واحدة على الأقل في الشهر.
أكّد دستور 1982 على وجود مجلس الأمن القومي ووظائفه، واحتوى على مواد زادت من الحضور العسكري في المجلس، فضمَّ كلًّا من رئيس الجمهورية، رئيس الوزراء، وزير الدفاع، وزير الداخلية، رئيس هيئة الأركان العامة، قائد القوات البرية، قائد القوات الجوية، قائد القوات البحرية وقائد قوات الجندرمة، ويمكن للمجلس استدعاء أي من المستشارين والوزراء لإبداء الرأي دون الاحتفاظ بحقّ التصويت.
ووسّع قانون مجلس الأمن القومي من طبيعة المهام التي يتناولها المجلس، لتتجاوز المسائل العسكرية والدفاعية وتمتدّ إلى قضايا مرتبطة بالإعلام والثقافة والتربية والتعليم والجامعات والمسائل السياسية والفكرية، ويجتمع المجلس مرة في الشهر على الأقل، أو بناءً على طلب رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء أو رئيس هيئة الأركان العامة، ويعيَّن للمجلس أمانة عامة تعمل تحت إطار هيئة الأركان العامة.
متسلّحًا بالإصلاحات الضرورية لدخول الاتحاد الأوروبي، وضعَ حزب العدالة والتنمية مجلس الأمن القومي نصب إصلاحاته، فبعد استفتاء عام 2003 على التغييرات الدستورية، جرى إعادة ترتيب عدد أعضاء المجلس فارتفع إلى 15 عضوًا، مع إضافة مساعدي رئيس الوزراء ووزير العدل، بذلك ارتفع عدد المدنيين في المجلس بعد أن كان متساويًا مع العسكر.
وتمّت إعادة تعريف وظيفة ودور المجلس، فلم تعد قراراته ملزِمة للحكومة كما كان سابقًا، وتحولت إلى توصيات يمكن للحكومة أخذها أو رفضها، وجرى تعديل مدة عقده من مرة كل شهر إلى مرتين كل شهر، وسحب صلاحية رئيس الأركان لدعوة انعقاد المجلس بشكل استثنائي.
وسُحبت الأمانة العامة للمجلس من هيئة الأركان وحُوِّلت إلى مجلس الوزراء لتشغلها شخصيات مدنية، ولم يعد للمجلس صلاحية التدخل في قضايا التعليم العالي والإذاعة والتلفزيون، بعد أن كان يحتفظ بترشيح عضو في مجلس التعليم العالي والمجلس الأعلى للإذاعة والتلفزيون.
بعد الانتقال إلى النظام الرئاسي صدر قانون جديد لتنظيم مجلس الأمن القومي، خفّضَ أعداده من 15 إلى 10 أعضاء وذلك بإخراج بعض من مساعدي الرئيس وقائد قوات الجندرمة، ليتكوّن المجلس من رئيس الجمهورية، مساعدي رئيس الجمهورية، وزير الدفاع، وزير الداخلية، وزير الخارجية، وزير العدل، رئيس هيئة الأركان العامة، قائد القوات البرية والبحرية والجوية، ويترأّس رئيس الجمهورية المجلس وفي حال غيابه ينوب عنه مساعده، كما جرى إعادة تعريف مهام ووظائف الأمانة العامة للمجلس، لتصبح مسؤولة مباشرة أمام الرئيس.
في المحصلة العامة، خاضَ حزب العدالة والتنمية عملية إصلاح طويلة من أجل زيادة نفوذ السلطة المدنية على المجلس وتقليص نفوذ العسكر، الذين وظّفوا المجلس تاريخيًّا لممارسة الوصاية على الإرادة السياسية للشعب التركي.
مجلس الشورى العسكري: الغلبة للمدنيين
أُنشئ مجلس الشورى العسكري بموجب قانون صدر عام 1972، تشكّل في ذلك الوقت من رئيس الوزراء، رئيس هيئة الأركان العامة، وزير الدفاع، قادة القوات البحرية والجوية والبرية، قادة الجيوش البرية، السكرتير العام لمجلس الأمن القومي، جنرالات من الجيش والبحرية، بالإضافة إلى قائد الجندرمة.
ويُعقد اجتماع المجلس برئاسة رئيس الوزراء، وفي الأوقات التي يغيب فيها يُعقد برئاسة رئيس الأركان العامة، وجرت العادة في تلك الفترة أن يجلس رئيس الأركان العامة إلى جوار رئيس الوزراء على رأس الطاولة، في إشارة إلى الدرجة التي يتمتّع بها رئيس الأركان.
ويقوم مجلس الشورى العام على تنفيذ مجموعة من المهام، منها النظر في الاستراتيجية العسكرية للجيش، النظر في أهداف وبرامج الجيش، إبداء النظر بالقوانين والإجراءات الإدارية الخاصة بالجيش، النظر في أي مواضيع تُطرح من قبل رئيس الوزراء ورئيس هيئة الأركان العامة ووزير الدفاع، بالإضافة إلى ذلك ينظر المجلس في ترقيات قادة وجنرالات المؤسسة العسكرية.
ويعقد المجلس مرة واحدة على الأقل في السنة، وتُتّخذ القرارات في المجلس بالأغلبية، ويتولى الرئيس الثاني لهيئة الأركان مهام السكرتارية الخاصة بالمجلس، وتبقى قرارات المجلس سرّية، باستثناء ما يمكن الإفصاح عنه.
وبعد المحاولة الانقلابية الفاشلة عام 2016، اتخذت الحكومة التركية مجموعة من الإصلاحات الجذرية بحقّ مجلس الشورى، بدءًا من تشكيلة المجلس التي شهدت تحديد عدد العسكريين في المجلس، ليحدَّد فقط بـ 4 أشخاص، هم رئيس الأركان العامة، قائد القوات البرية، قائد القوات البحرية وقائد القوات الجوية.
في المقابل وصل عدد المدنيين إلى ضعف العساكر، ليضمَّ كل من رئيس الجمهورية، مساعدي الرئيس، وزير الدفاع، وزير العدل، وزير الخارجية، وزير الداخلية، وزير المالية ووزير التعليم.
وجرى سحب صلاحية هيئة الأركان العامة بتحديد موعد الاجتماع العادي والطارئ، وإلغاء المادة التي تنصّ على ترؤُّس رئيس الأركان مجلس الشورى في حال تغيُّب رئيس الوزراء، بالإضافة إلى تحويل صلاحيات السكرتارية من الرئيس الثاني لهيئة الأركان إلى وزارة الدفاع.
الجندرمة: من رئاسة الأركان العامة إلى وزارة الداخلية
تبعية الجندرمة وعلاقتها مع هيئة الأركان ووزارة الداخلية من المواضيع التي دائمًا ما كانت مثار احتكاك وخلاف ما بين الوزارة ورئاسة الأركان، التي احتفظت بتبعية الجندرمة لها تدريبًا وتطويرًا وشغل قائدها موقعًا في هيئة الأركان، في حين اقتصر دور الداخلية على المتابعات الإدارية.
الجندرمة هو تشكيل شبه عسكري تأسّس عام 1839، ويضطلع بمهام الأمن الداخلي خارج المدن -تشرف دائرة الأمنيات والشرطة على الأمن داخل المدن- وفي المناطق الريفية والحدودية، التي تصل نسبتها إلى 93% من مساحة تركيا تضم 21% من سكانها، ووصل عدد عناصر الجندرمة عام 2021 لما يقارب الـ 186 ألفًا و170 شخصًا.
تمتلك الجندرمة قواتها الخاصة المدرَّبة جيدًا على حرب المدن، وصاحبة الخبرة الطويلة في مكافحة حزب العمال الكردستاني، لعبت هذه القوات دورًا محوريًّا في التصدي للمحاولة الانقلابية عام 2016، كما يتبع لقيادة الجندرمة جهاز أمني رافقته سمعة سيّئة خلال سنوات التسعينيات، التي شهدت تصاعدًا في الاشتباك مع حزب العمال الكردستاني.
ويمتلك الجهاز نفوذًا واسعًا وقدرة عالية على جمع المعلومات نتيجة لطبيعة المهام الموكلة للجندرمة، وتحديدًا المرتبطة بحفظ أمن الحدود والمناطق الريفية، ويشغل الجهاز برنامجًا خاصًّا بالطائرات مسيَّرة.
خلال السنوات التي سبقت المحاولة الانقلابية عام 2016، وفّرت الجندرمة الأرضية المناسبة للمؤسسة العسكرية للتدخُّل بفعالية في الحياة السياسية، عبر تشغيل أهم أجهزة الأمن الداخلي التي وفّرت لها القوة والشرعية الكافية للاطّلاع والتأثير على مجريات السياسة العامة.
كما حالت تبعية الجندرمة لرئاسة الأركان العامة، دون وجود أي قوة لديها قدرة التصدي لأي محاولة انقلابية تقوم بها المؤسسة العسكرية، هذا الأمر دفع الرئيس بعد 10 أيام فقط من فشل المحاولة الانقلابية 2016 إلى إصدار قرار بنقل تبعية الجندرمة إلى وزارة الداخلية بشكل تامّ، وكذلك جرى الأمر مع خفر السواحل التركي، ويشرف على إدارة كليهما أحد نواب وزير الداخلية.
أدوار وظيفية تقليدية
حظيت المؤسسة العسكرية بالنصيب الأكبر والأهم بعمليات تصفية جماعة فتح الله غولن، فمنذ المحاولة الانقلابية عام 2016 جرى تسريح 24 ألفًا و256 عسكريًّا، من بينهم 150 جنرالًا -بما يشكّل 40% من البنية القيادية للجيش التركي- و10 آلاف و528 ضابطًا.
وعلى أهمية وخطورة جماعة فتح الله غولن، إلا أن حزب العدالة والتنمية وحكومته لم يفوّتا الفرصة لتأسيس واقع جديد للعلاقات المدنية العسكرية، يضطلع فيه الجيش بدوره الطبيعي كمؤسسة مكلفة بحماية حدود البلاد بعيدًا عن التدخل في السياسة الداخلية.
انصبّت إجراءات الحكومة على المساحات والأدوات التي هيَّأت للجيش التدخل، فتمَّ إلغاء القضاء العسكري، وإعادة هيكلة مجلس الأمن القومي ومجلس الشورى العسكري، وإعادة دور وزارة الدفاع كمشرف على هيئة الأركان العامة، التي سحبت منها قوات الجندرمة وحُوِّلت إلى وزارة الداخلية.
لم تكتفِ حكومة حزب العدالة والتنمية بالإجراءات السابقة، وقامت بإشغال الجيش بمهامه العسكرية، فخلال السنوات التي تلت المحاولة الانقلابية نفّذ الجيش التركي 176 عملية عسكرية، ونفّذ ما يقرب من 500 مناورة عسكرية، ورفعت القوات البرّية عدد ألوية النخبة إلى 17 لواء، ووصلت عدد ساعات الإبحار لوحدات البحرية التركية إلى 200 ألف ساعة، وكذلك تمّت مضاعفة عدد ساعات الطيران للطيارين الأتراك.
بالإضافة إلى ذلك، أحاطت الدولة المؤسسة العسكرية بمجموعة من الشركات العسكرية والتقنية التي لامست احتياجات المؤسسة العسكرية، كما نشطت مؤسسات أخرى في عملية رسم الاستراتيجية التركية كجهاز المخابرات العامة.
تؤسِّس الإجراءات السابقة لصيغة جديدة من العلاقات المدنية العسكرية ترجَّح الكفة فيها للجانب المدني، في ظل العمل بالنظام الرئاسي الذي يوفّر نوعًا من الاستقرار والقوة السياسية التي تحول دون عودة تدخل العسكر في الحياة السياسية. مع ذلك، الهدف الدائم من جميع عمليات تقنين العلاقات المدنية العسكرية ليس إقصاء العسكر عن عملية صنع القرار، بقدر ما يقوم على تقنين حضورهم وضبط مشاركتهم في إطار القوانين واللوائح، والقدرة على إدامة هذه المعادلة مرهون دائمًا بقدرة الإرادة السياسية على إنفاذ ذلك.