خلال عصر الظلام الذي غرقت فيه أوروبا، كانت تحاول أن تنهش العالم فابتعثت الحملات الصليبية إلى الشرق، تنصب أعينها على المدينة المقدسة، مرددة شعار “حرروا مدينة الرب من هراطقةٍ مسلمين من جنسٍ مشؤوم، لهم مخالب من نحاس وأسنان من حديد، هم عصا الرب وأداة الجحيم”.
وفي عام 1096 بدأت الحملة الصليبية الأولى تتجمّع غرب أوروبا في حملة هي الأكبر من حيث الجيش والقادة، كان لفرنسا الوزن الأكبر منها، وبدأت الحرب في مواجهة السلاجقة، محاصرين إياهم محتلين البلاد إمارةً إمارة، وواصلوا التقدم جنوبًا باتجاه فلسطين، ارتكبوا مذابحهم الكبرى على حدودها، وحصّنوا مواقعهم في صور وعكا.
واصلوا المسير في مايو/ أيار 1099، ومرّ الجيش الصليبي أمام حيفا وأرسوف وقيساريا، وانعطفوا إلى مدينة الرملة عاصمة فلسطين السياسية في تلك الحقبة، وتابعوا إلى القدس، استعصت عليهم المدينة فحاصروها شهرًا من الزمن، حتى سقطت في 15 يوليو/ تموز 1099، وارتكبوا مذبحة رهيبة ضد السكان المحليين، وطردوا من تبقّى منهم -مسلمين ومسيحيين شرقيين ويهود- خارج أروقتها القديمة.
اليوم، ومع مرور 923 عامًا على احتلال الصليبيين للقدس، نستعرض في “نون بوست” أهم الشواهد والآثار التي ما زالت تحمل في جدرانها ذكريات الغزاة الذين استعمروا المدينة المقدسة خلال 88 عامًا، قبل أن يحررها المسلمون بقيادة صلاح الدين الأيوبي عام 1187.
كنيسة القديسة حنّة
داخل أسوار البلدة القديمة في مدينة القدس، وتحديدًا في “طريق الآلام” في الحي الإسلامي، تقع كنيسة القديسة حنّة (سانت آن) على امتداد 14 دونمًا، شاهدةً تاريخ المدينة المقدسة لـ 9 قرون منذ البناء الأول لها، فوق كهفٍ يُعتقد أنه حضن ميلاد سيدتنا مريم العذراء.
ليس الكهف وحده ما أكسب الكنيسة أهميتها، بل بِركة بيت حسدا الموجودة داخله أيضًا، ففي العودة إلى الروايات عبر العصور، كانت البِركة المكوّنة من حوضَين قبلةً للمرضى طلبًا للشفاء خلال الفترة اليونانية، ليس من مائها بل من إله الطب الوثني سرابيوس أسكلابيوس، كما تتناقل الروايات المسيحية أن السيد المسيح عيسى عليه السلام ألقى مريضًا مُقعدًا في هذه البِركة فشُفي.
كنيسة القديسة حنّة، بشكلها الذي ورثناه عن الصليبيين، كانت امتدادًا لكنائس عديدة بنيت في الموقع ذاته، حيث يعود بناء أول كنيسةٍ في هذا المكان إلى القرن الخامس الميلادي في عهد القديسة البيزنطية إيلوقيا، ولا تزال الأعمدة البيزنطية التي حملت الكنيسة ماثلة حتى اليوم، قبل أن تتعرض هذه الكنيسة للهدم من قبل الفرس عام 614 كحال معظم الكنائس، ورُمِّمت للمرة الأولى في القرن السابع الميلادي على يد الراهب مودستوس.
عام 1104، بعد 5 سنوات من احتلال الصليبين للقدس، قام أول ملك صليبي في المدينة المقدسة، بالدوين الأول، بنفي زوجته أردا إلى موقع كنيسة القديسة حنة، فأمرت حينها ببناء الكنيسة على امتداد بركة بيت حسدا، لكنها لم تُبنَ بشكلها الحالي كما نعرفها اليوم حتى عام 1131 في عهد ملكة بيت المقدس ميليسندا.
مع انتصار القائد صلاح الدين الأيوبي في معركة حطين وفتحه مدينة القدس، تحولت الكنيسة إلى مدرسة إسلامية نُقش على بابها اسم “المدرسة الصلاحية” نسبة إلى القائد صلاح الدين، وذلك ضمن استراتيجية اتّبعها القائد الإسلامي لتحويل الكثير من مباني المدينة إلى مدارس إسلامية تدرِّس العلوم الشرعية لاستقطاب أكبر عدد من المسلمين للمدينة.
المدرسة الصلاحية
واصلت المدرسة الصلاحية عملها في تدريس علوم الشريعة والفقه حتى أواخر العهد العثماني، وقد خُصِّص لها أفضل المدرّسين من أقطاب الامتداد الإسلامي حينها، إلا أن زخم الاهتمام بها تراجع شيئًا فشيئًا حتى هُجرت المدرسة، وفي عام 1878 منح السلطان العثماني عبد الحميد الثاني كنيسة القديسة حنّة (المدرسة الصلاحية) عن طريق أحد ولاته بالقدس لإمبراطور فرنسا نابليون الثالث، اعترافًا بالجميل ومكافأة من الدولة العثمانية لفرنسا على موقفها من حرب القرم.
لاحقًا، أهدت الحكومة الفرنسية الكنيسة لـ”رهبنة الآباء البيض”، وهي مؤسسة تبشيرية فرنسية أسّسها الأب لافيجري الذي صبّ اهتمامه على تبشير الناس في جنوب أفريقيا، ولا تزال الكنيسة حتى اللحظة تتبع القنصلية الفرنسية ويعيش فيها 4 راهبات و10 رهبان أجانب يستبدَلون بشكل دوري يمارسون نشاطاتهم التبشيرية.
آثار كنيسة القديسة حنّة (داخل المدرسة الصلاحية)
كاتدرائية القديس يعقوب
بُنيت الكنيسة عام 1163 في عهد الملكة ميليسندا، تقع في حارة الأرمن، وتحديدًا بين القشلاق (مركز الشرطة) وباب النبي داود، وهي الكنيسة الرئيسية للبطريركية الأرمنية في القدس، وتُعرف بـ”دير القديس جيمس الكبير”، وهو قلب الحي الأرمني في المدينة.
يعدّ هذا الدير من أوسع الأديرة بالقدس، حيث يشغل مع الحارة التي يقع فيها نحو سدس مساحة البلدة القديمة من القدس، واتّخذ الأرمن فيه دار بطريركيتهم، ومدرسة للاهوت، وفي مساحته الواسعة الممتدة يضمّ الدير أكثر من 500 بئر، وعددًا من الكنائس والمعابد والقاعات متحف.
كان الدير من أوائل المؤسسات العربية الفلسطينية التي امتلكت مطبعة منذ أوائل القرن العشرين الماضي، ويضمّ مكتبة غنية بنفائس المخطوطات والكتب المطبوعة، فقد قدّرَ المؤرّخ الفلسطيني عارف العارف محتوياتها عام 1947 بنحو 4 آلاف مخطوط، وأكثر من 30 ألف كتاب مطبوع.
قلعة القدس
كمعسكر للقيادة والجنود، بنى الرومان في القرن الثاني قبل الميلاد قلعة القدس في الجهة الشمالية الغربية للبلدة القديمة داخل باب الخليل، وهي نقطة التقاء بين بلدة القدس القديمة والمدينة الحديثة التي تمددت خارج الأسوار، وتطل على البلدة القديمة بكاملها، وتقع على إحدى التلال الأربع المقامة عليها مدينة القدس.
حقبٌ عديدة وإمبراطوريات مختلفة تعاقبت على القلعة منذ الرومان وحتى الإمبراطورية العثمانية، وكان لكل جماعة لمسة معمارية في هذه القلعة التي حفظت هويتها كمقرّ عسكري، وسجن في بعض الأحيان.
أما عن الصليبيين، أطلقوا خلال فترتهم على القلعة اسم “برج أهل بيزا”، ويُعتقد أنّ السبب يكمن في منح القائد الصليبي الذي احتلَّ القدس، جودفري البويني، القلعة لبطريرك المدينة دايمبوت البيزي، أي من بيزا، واستخدم الصليبيون القلعة كمقرّ لملوك القدس الصليبيين.
تعرّضت القلعة لانهيارات متعددة على مرّ التاريخ، بفعل الزلازل والحروب، وبينما بقيَ من ريح الصليبيين الخندق والحائط الشرقي منها، فإن البناء الحالي للقلعة إسلامي في غالبيته يعود للفترة الأيوبية والمملوكية والعثمانية، حيث تعدّ المئذنة الواقعة في زاوية القلعة الجنوبية الغربية من أبرز الإضافات التي شُيِّدت في عهد السلطان عبد الملك بن قلاوون عام 1310.
إلى جانب تفاصيلها العسكرية، ككوة الرماية والمساقط والمغازل التي كان يستخدمها الجنود لإطلاق السهام أو إسقاط الزيت الحار على أعدائهم، فإن القلعة تحتوي على مسجدَين أحدهما صيفي يقع أسفل المئذنة لا يُستخدم الآن، وآخر شتوي يقع في زاويتها الشرقية يستخدمه الاحتلال الإسرائيلي معرضًا.
من الجدير بالذكر أن القلعة تتعرض لمحاولات تهويد مستمرة، يشنّها الاحتلال الإسرائيلي بدءًا من تغيير اسمها إلى قلعة داوود نسبة إلى النبي داود عليه السلام، بما ينسجم مع ادّعاءاتهم بوجود الهيكل، وفي عام 2016 كشف المركز الإعلامي لشؤون القدس والأقصى أن الحفريات الإسرائيلية أسفل القلعة يصل طولها إلى 80 مترًا، وبعمق 15 مترًا.
مسجد المولوية
على بعد 40 درجة صعودًا من باب العامود، يقع مسجد المولوية (تكية المولوية) الذي يعود بشكله الحالي إلى الحكم العثماني، أما عن تسميته بالمولوية فهي نسبة إلى جماعة المولوية، إحدى الجماعات المتصوفة التي اتخذت من المسجد زاوية تصوفٍ لها.
شهد المسجد 3 مراحل تاريخية، فطابقه الأولى بناه الفاطميون، فيما بنى الصليبيون الطابق الثاني ككنيسة أطلقوا عليها اسم كنيسة القديس أغنس “كنيسة سانت أغنس”، وبعد تحرير القدس حوّل المسلمون الكنيسة -كغيرها من مباني المدينة- إلى معلَم إسلامي، فأقاموه مسجدًا، وفي القرن السادس عشر، إبّان الحكم العثماني، بنى المسلمون مئذنة للمسجد، وبعض الغرف الملحقة به شرقي ساحته المكشوفة، وتقيم اليوم بعض العائلات الفلسطينية في بعض غرفه.
احتفى المسجد بمكتبة تضمّ أهم كتب الطائفة المولوية، وخاصة كتاب “المثنوي” لصاحبه مؤسس الطريقة المولوية جلال الدين الرومي، وقد رُصد عددها بـ 70 كتابًا وُضعت في اللغة التركية على الأغلب، وقد زاره عدد من الرحّالة العرب والأجانب، أهمهم الشيخ الرحالة عبد الغني النابلسي.
واجهة كنيسة القيامة
تقع كنيسة القيامة في وسط البلدة القديمة في القدس، تحديدًا في الحي المسيحي شمال غرب المدينة، تعود أولى المباني التي شُيِّدت في المكان نفسه، كنيسة القيامة، إلى فترة حكم الإمبراطور الروماني هدريان في القرن الثاني للميلاد، وقد شهدت عبر التاريخ محاولات هدم وإحراق بفعل الحروب المختلفة بين الجماعات التي طمعت ببيت المقدس والسيطرة عليه.
أما حول أهمية الكنيسة، ثاني الكنائس أهمية في فلسطين بعد كنيسة المهد في بيت لحم، فيعتقدُ أن منها رفعَ الله المسيح عيسى عليه السلام إليه، أثناء محاولة قومه صلبه قبل أن يشبّهوه بأحد آخر، وعليه يُعتبر “قبر المسيح” في الرواية المسيحية.
ارتبط اسم كنيسة القيامة بشكل مباشر مع الحملات الصليبية، التي كانت تصف نفسها بأنها “حجّ مسلّح” هدفه “تحرير القبر المقدس” في كنيسة القيامة في القدس، وذلك لكي تحظى هذه الحملات بمباركة الكنيسة في أوروبا، وتحصل على امتيازات تعزز من خوضها “هذا الهدف المقدس”.
مع دخول الصليبيين مدينة القدس، قرروا إعادة بناء الكنائس القديمة المتهدمة، بل إنشاء مبنى ضخم يحوي داخله جميع الأبنية الأساسية، وبخاصة مكان الجلجثة (مكان رفع المسيح إلى السماء) والقبر المقدس، وكانت بذلك واجهة كنيسة القيامة التي لا تزال شاخصة حتى اللحظة تحمل في حجارتها افتراء أوروبا في حملاتها الصليبية، ومجازرهم التي فعلوها باسم الدين.
أخيرًا، إن شواهد معمارية عديدة دلّت على مرور الصليبين الثقيل على القدس، فبعض أسواق البلدة القديمة التي رمّمها الصليبيون ما زالت تحمل حتى اللحظة شعار فرسان المعبد والرسم الصليبي، وكأنها شاهد على عصر ظلام مرّت به مدينة السلام، إضافة إلى عدة قلاع أبرزها قلعة عتليت في حيفا، وبيت جبرين في الخليل، والقرن في الجليل الأعلى.