يبدو وفق المؤشرات الأولية أن أعظم ما يمكن للرئيس الأمريكي جو بايدن تحقيقه من وراء جولته الأولى للشرق الأوسط إسراع خطى التقارب بين السعودية و”إسرائيل”، وهو الإنجاز الذي ربما يرتكز عليه لتحسين صورته داخليًا واستعادة شعبيته المتراجعة لأدنى مستوياتها في ظل المعاناة الداخلية التي يعاني منها المواطن الأمريكي جراء الأزمات الاقتصادية التي تخيم على الأجواء العالمية منذ الحرب الروسية الأوكرانية فبراير/شباط الماضي.
الزيارة التي استهلها بايدن بدولة الاحتلال ثم فلسطين مختتمًا إياها بالسعودية، وتخلى خلالها عن الكثير من الشعارات الشعبوية والمواقف الأخلاقية المسبقة التي دفعته لزيارة ما وصفها قبل 18 شهرًا بـ”الدولة المنبوذة” ومصافحة من اتهمه بقتل المعارض السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده بإسطنبول، في أكتوبر/تشرين الأول 2018، من الواضح أنها لم تؤت ثمارها المأمولة على الجانب الاقتصادي أسوة بما حدث مع سلفه دونالد ترامب الذي حمل معه خلال عودته من الرياض 2017 حزمة استثمارات بأكثر من نصف تريليون دولار كانت كفيلة بتحسين صورته لدى الشارع الأمريكي الذي كان متحفظًا حينها على توجهات الرئيس.
وسائل إعلام أمريكية أشارت إلى صفقة محتملة بين السعودية و”إسرائيل” برعاية أمريكية، تتضمن إنهاء إجراءات تسليم جزيرتي تيران وصنافير التي تنازلت عنهما مصر للمملكة في 2016 نظير بعض الخطوات تخطوها الرياض نحو التطبيع مع دولة الاحتلال، حتى إن لم يكن تطبيعًا كاملًا، فهل ينجح بايدن في تحقيق هذا الإنجاز الذي سيضاهي ما حققه سلفه حين رعا اتفاق “أبراهام” الذي بموجه انخرطت أربع دول عربية مرة واحدة (الإمارات – البحرين – المغرب – السودان) داخل حظيرة التطبيع؟
ملامح الصفقة
في تقريره المنشورة على موقع “أكسيوس” الأمريكي، استعرض المحلل الإسرائيلي باراك رافيد، ملامح الصفقة المحتملة، لافتًا إلى موافقة الحكومة الإسرائيلية على المعايير الخاصة بالاتفاق بشأن الجزيرتين بما يمهد الطريق أمام السعودية لاتخاذ خطوات نحو تطبيع العلاقات مع “إسرائيل”.
رافيد أشار إلى أن الصفقة يتم دراستها داخل المطبخ السياسي الأمريكي منذ شهور، وأنها ستكون الإنجاز المهم في السياسة الخارجية لإدارة بايدن في الشرق الأوسط، فيما نقل عن مسؤولين إسرائيليين أنه من المتوقع أن يتم إعلان خطواتها في أعقاب زيارة بايدن للسعودية.
وعلى “إسرائيل” وفق بنود الصفقة الموافقة على نقل القوات متعددة الجنسيات من الجزيرتين إلى مواقع أخرى يرجح أن تكون في شبه جزيرة سيناء المصرية، مع مراقبة النشاط داخل الجزيرتين من خلال تركيب كاميرات متطورة لاعتبارات أمنية، أما على المستوى السعودي، فيفترض أن تتعهد بالتزامها التام بكل الالتزامات التي تضمنتها اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية وعلى رأسها الحفاظ على حرية الملاحة في مضيق تيران للسفن الإسرائيلية.
أعطت تل أبيب موافقة مبدأية على إعادة الجزيرتين للسعودية في انتظار اتفاق الرياض والقاهرة على المسائل المتعلقة بالقوات متعددة الجنسيات الموجودة في المنطقة، بجانب الترتيبات الأخرى الخاصة بحرية الملاحة في المضيق
الموقع الأمريكي كشف أن الصفقة ستتيح إبرام اتفاقيات منفصلة بين البلدين فيما يتعلق بالسماح لشركات الطيران الإسرائيلية باستخدام المجال الجوي السعودي للرحلات الجوية المتجهة شرقًا إلى الهند والصين، كذلك تسيير رحلات طيران مستأجرة مباشرة من “إسرائيل” إلى السعودية لنقل الحجاج المسلمين الذين يرغبون في زيارة مكة والمدينة.
وفي محاولة إقناع تل أبيب بالموافقة على إتمام تلك الصفقة ونقل ملكية الجزيرتين بشكل رسمي للمملكة، تعهدت واشنطن بمنح دولة الاحتلال كل الضمانات الأمنية بشأن حرية الملاحة بناءً على الالتزامات السعودية، بجانب التأكيد على دعم “إسرائيل” عسكريًا على طول الخط، وهو ما نوه عنه بايدن خلال كلمته التي ألقاها عقب وصوله “إسرائيل”.
صحيفة “إندبندنت عربي” السعودية بدورها، حددت بعض معالم تلك الصفقة، حين كشفت في تقرير لها أن مستقبل الجزيرتين سيكون محل نقاش رئيسي على مائدة بايدن خلال زيارته لجدة، منوهة أن المملكة ودولة الاحتلال يمكنهما معالجة المسائل العالقة في هذا الملف، فيما نقلت عن مسؤولين لم تسمهم قولهم لوكالة الصحافة الفرنسية: “إسرائيل ليس لديها أي اعتراض على تسليم مصر الجزيرتَين إلى السعودية”.
يذكر أن الجزيرتين الواقعتين في مدخل مضيق تيران، الممر الإستراتيجي القريب من ميناء العقبة في الأردن وإيلات في “إسرائيل”، كانتا تحت السيادة المصرية منذ 1950، وكان لهما دور محوري في إشعال الحرب العربية الإسرائيلية في 1967 حين نشرت مصر قواتها العسكرية فيهما وأغلقت مضيق تيران، وقد استعاد المصريون السيادة عليهما بعد استردادهما من الاحتلال بموجب معاهدة السلام 1979، فيما تنازلت عنهما مصر في ضوء اتفاقية إعادة ترسيم الحدود البحرية الموقعة مع المملكة في أبريل/نيسان 2016، ما تسبب في غضب جماهيري كبير، أعاق بجانب أسباب أخرى نقل الجزيرتين رسميًا إلى السعودية حتى اليوم.
نقل الجزيرتين إلى السعودية.. عقبات وتحديات
على الورق فقد تنازلت مصر عن الجزيرتين بعد موافقة البرلمان المصري على اتفاقية ترسيم الحدود في يونيو/حزيران 2017، والمحكمة العليا في البلاد في مارس/آذار 2018، رغم الاحتجاجات الشعبية التي عمت أرجاء البلاد وقتها وأسفرت عن الزج بالعشرات داخل السجون بسبب تأكيدهم على مصرية تيران وصنافير وبطلان الاتفاقية دستوريًا وتعريضها الأمن القومي المصري للخطر.
لكن على أرض الواقع كانت هناك عقبات حالت دون تسليم الجزيرتين رسميًا للمملكة، فوفق معاهدة السلام بين مصر و”إسرائيل”، فإن تيران وصنافير منطقة منزوعة السلاح ولديها قوة من المراقبين متعددي الجنسيات بقيادة الولايات المتحدة، وعليه لا يمكن التنازل عنهما لدولة أخرى دون موافقة الأخرى، وبالتالي على دولة الاحتلال الموافقة على نقلهما للسيادة السعودية.
وقد أعطت تل أبيب موافقة مبدأية على إعادة الجزيرتين للسعودية في انتظار اتفاق الرياض والقاهرة على المسائل المتعلقة بالقوات متعددة الجنسيات الموجودة في المنطقة، بجانب الترتيبات الأخرى الخاصة بحرية الملاحة في المضيق، فيما شددت المملكة على مغادرة المراقبين الدوليين، الأمر الذي يتطلب الدخول في مفاوضات دبلوماسية ثلاثية تشمل الأطراف المعنية (مصر و”إسرائيل” والوافد الجديد السعودي).
وخلال الأشهر الماضية بذلت إدارة بايدن جهودًا دبلوماسيةً للتوسط بين العواصم الثلاثة من أجل التواصل إلى حلول مشتركة لنقل الجزيرتين، وكان من تحديات تلك المفاوضات عدم وجود علاقات دبلوماسية مباشرة بين تل أبيب والرياض، وهو ما تحاول الإدارة الأمريكية فرضه خلال زيارة رئيسها للمنطقة من خلال بعض المؤشرات التي تذهب إلى خلخلة نسبية في جدار الرفض الصلب الذي طالما تمسك به السعوديون قبل سنوات.
فتح الأجواء السعودية أمام الطيران الإسرائيلي
استبقت السعودية تسريبات الصفقة بإعلان الهيئة العامة للطيران المدني، الجمعة 15 يوليو/تموز، فتح مجالها الجوي لجميع الناقلات الجوية التي “تستوفي متطلبات الهيئة لعبور الأجواء” بما فيها بطبيعة الحال الطائرات الإسرائيلية، وهي الخطوة الأولى من نوعها في تاريخ البلدين.
الهيئة بررت هذا الموقف الذي جاء عشية زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى السعودية، أنه يأتي في إطار “حرص المملكة على الوفاء بالالتزامات المقررة بموجب اتفاقية شيكاغو 1944، التي تقتضي عدم التمييز بين الطائرات المدنية المستخدمة في الملاحة الجوية الدولية” وأنه يأتي “استكمالًا للجهود الرامية لترسيخ مكانة المملكة كمنصة عالمية تربط القارات الثلاثة وتعزيزًا للربط الجوي الدولي” بحسب بيان رسمي.
رغم تنازل مصر رسميًا عن الجزيرتين قبل 6 سنوات بموجب اتفاقية رسم الحدود البحرية، فإنها لم تسلمهما حتى اليوم للسلطات السعودية بشكل نهائي
القرار قوبل بترحيب أمريكي كبير، ففي بيان لمستشار الأمن القومي في البيت الأبيض جيك سوليفان، قال فيه إن الرئيس الأمريكي “يرحب بالقرار التاريخي لقادة السعودية فتح مجالهم الجوي أمام جميع الناقلات الجوية المدنية بلا تمييز”، بما في ذلك “الرحلات الجوية من “إسرائيل” وإليها”، مشيرًا إلى أن هذه الخطوة تتويجًا لما أسماه “دبلوماسية الرئيس بايدن الحثيثة والمبدئية مع السعودية على مدى أشهر عدة، التي توجت بزيارته لها”، كاشفًا أن هذا التحرك الفريد سيعبد الطريق أمام شرق أوسط أكثر تكاملًا واستقرارًا وأمنًا، وهو تطور نوعي شديد الأهمية لأمن ورخاء الولايات المتحدة و”إسرائيل”.
مغادرة قوات حفظ السلام
لم يتأخر بايدن كثيرًا في رد الجميل للسعودية على قرارها التاريخي، إذ أعلن عقب وصوله المملكة عن مغادرة قوات حفظ السلام الدولية بما فيها القوات الأمريكية من جزيرتي تيران وصنافير بنهاية 2022، ملبيًا بذلك المطلب السعودي الذي ظل أحد العراقيل أمام نقلهما للسيادة السعودية.
وقد نص البيان المشترك، الصادر عن البيت الأبيض، في أعقاب محادثات بايدن وولي العهد، على أن “القوات الأمريكية وقوات حفظ السلام الأخرى ستغادر جزيرة تيران التي تتمركز فيها في إطار اتفاقات أبرمت في عام 1978، التي أدت إلى اتفاق سلام بين “إسرائيل” ومصر”، مضيفًا “توصلنا إلى ترتيبات لسحب قوات حفظ السلام التابعة للقوة المتعددة الجنسيات وتطوير هذه المنطقة (في إشارة لجزيرة تيران) من أجل السياحة والتنمية”، مشيرًا إلى ترحيب بايدن بهذا الترتيب الذي جرى التفاوض عليه على مدى أشهر.
وأكد البيت الأبيض موافقة السعودية على “احترام جميع الالتزامات والإجراءات القائمة في المنطقة والاستمرار فيها”، مع الالتزام بما جاء في معاهدة السلام المصرية الأمريكية، دون أي خلل يهدد أمن أي من الطرفين، مع التأكيد على أن قوات حفظ السلام متعددة الجنسيات “ستطبق ترتيبات بديلة لضمان حرية الملاحة لجميع الأطراف، بما فيها “إسرائيل””.
ماذا عن القاهرة؟
رغم تنازل مصر رسميًا عن الجزيرتين قبل 6 سنوات بموجب اتفاقية رسم الحدود البحرية، فإنها لم تسلمهما حتى اليوم للسلطات السعودية بشكل نهائي، فقد وضعت القاهرة بعض الشروط أبرزها موافقة الجانب الإسرائيلي على عملية النقل بحكم اتفاقية السلام.
ومع الحديث عن موافقة مبدأية إسرائيلية على نقل السيادة للمملكة، فإن القاهرة ستكون مُلزمة بالتسليم بشكل نهائي للإدارة السعودية، ما لم يطرأ طارئ، يدفع الجانب المصري لعرقلة العملية مرة أخرى، خاصة أن الرفض الشعبي إزاء التنازل عنهما ما زال على أشده وسط محاولات بين الحين والآخر للطعن في الاتفاقية أمام القضاء بما قد يعيد الأمور برمتها إلى النقطة صفر مرة أخرى.
ولا يمكن قراءة دعوة الرئيس المصري إلى قمة جدة الحاليّة وعقد لقاء خاص مع بايدن بمعزل عن تلك الصفقة، فمن المتوقع مناقشة الترتيبات المتعلقة بإنهاء إجراءات التسليم بما يمهد الطريق نحو تطبيع سعودي إسرائيلي، وفي المقابل قد تحصل القاهرة على بعض المنح والمحفزات، المالية واللوجستية، في وقت تعاني فيه الدولة المصرية من أوضاع اقتصادية طاحنة، هذا بخلاف ترجيح أن يكون لواشنطن دور في ملف سد النهضة المتعثر.
وكان من إرهاصات تلك الصفقة مغازلات سعودية استباقية خلال الفترة الماضية، لعل أبرزها تعزيز التقارب بين ولي العهد السعودي والنظام المصري، عبر الزيارات والاتصالات المتبادلة، مع إنعاش الخزانة المصرية ببعض المليارات السعودية في صورة ودائع واستثمارات، رغم الفتور النسبي الذي شاب العلاقة بين البلدين خلال الآونة الأخيرة بسبب تباين وجهات النظر حيال بعض الملفات الإقليمية.
وفي الأخير.. وبعد التعثر الذي يواجه تدشين مشروع الناتو العربي الشرق أوسطي الذي كانت تأمل أمريكا في تمريره عبر تلك الزيارة، في ظل التحفظات المصرية السعودية العراقية بشأنه، فضلًا عن تأكيد الإمارات عدم انضمامها لأي تحالف يستهدف طرف إقليمي رغم موافقتها السابقة على المشروع، يبدو أن بايدن لن يعود لبلاده إلا بصفقة الجزيرتين مع احتمالية سعر مقبول للنفط و”بنصف كرامة” كما وصف البعض.