اختتم الرئيس الأمريكي جو بايدن جولته الشرق أوسطية، التي استمرت أربعة أيام (13-16 يوليو/تموز الحاليّ)، وشملت “إسرائيل” وفلسطين والسعودية، وهي الزيارة التي رغم أنها الأولى له منذ توليه مهام منصبه، فقد أثارت الكثير من الجدل بداية من الأجواء التي سبقتها مرورًا بخيوطها التفصيلية وصولًا إلى ما حققته من نتائج.
وبينما كان يعول بايدن على تلك الزيارة في تحقيق حزمة من النتائج والأهداف، على المستوى الداخلي والخارجي، لكن المؤشرات العامة بعد مغادرته جدة، آخر محطات جولته، تذهب في الاتجاه العكسي لعقارب ساعة الرئيس الذي يواجه مستقبله السياسي معضلة كبيرة في ظل الفشل في التعاطي مع العديد من الملفات التي تهم رجل الشارع الأمريكي.
فرق شاسع بين ما حققه الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترامب خلال زيارته الأولى للرياض في 2017 وما حققه الرئيس الديمقراطي الحاليّ، وهو الفرق الذي سيكون له تبعاته على حظوظ بايدن وحزبه في الماراثونات الانتخابية القادمة، سواء انتخابات التجديد النصفي للكونغرس المقررة في نوفمبر/تشرين الثاني القادم أم الرئاسية في 2024.
وكان بايدن قد استهل جولته بزيارة دولة الاحتلال التي مكث فيها يومين، التقى خلالهما رئيس “إسرائيل” ورئيس الوزراء المؤقت وزعيم المعارضة، قبل أن يكمل جدول أعماله بلقاء الرئيس الفلسطيني في بيت لحم ومنها إلى جدة حيث المشاركة في قمة جدة للأمن والتنمية، بحضور قادة الخليج وزعماء مصر والعراق والأردن.. فهل حقق الرئيس الأمريكي أهدافه من تلك الزيارة؟
فشل التأمين النفطي
في أجواء مشابهة لما هي عليه الآن، حيث وصل سعر برميل النفط وقتها 147 دولارًا في يوليو/تموز 2008، توجه الرئيس الأمريكي حينها جورج بوش إلى السعودية لطلب زيادة الإنتاج حتى يتراجع السعر المرتفع بصورة كانت بمثابة الكارثة على الاقتصاد العالمي في ذلك الوقت، وعلى الفور تمت الاستجابة، فتراجع سعر البرميل إلى أقل من 42 دولارًا بنهاية العام، أي بعد أقل من 6 أشهر من الزيارة.
لأجل الغرض ذاته – مع حزمة أغراض أخرى – توجه بايدن إلى العاصمة الاقتصادية السعودية (جدة) لبحث ملف النفط وزيادة الإنتاج، لكن يبدو أن ما حدث مع بوش قبل 14 عامًا لم يحدث معه، فوفق ما نشرته وكالة “رويترز” فشل الرئيس الأمريكي في تأمين التزامات أمنية ونفطية كبيرة خلال جولته.
كان بايدن يؤمل نفسه باستجابة سعودية سريعة لمطلب زيادة الإنتاج بالشكل الذي يعوض الإنتاج الروسي من النفط والغاز الذي تسبب في أزمة خانقة للعالم
وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، في بيان قمة جدة الختامي، قال: “13 مليون برميل من النفط يوميًا هي الطاقة الإنتاجية القصوى التي ستصل إليها المملكة”، مضيفًا أن بلاده لا يمكنها زيادة الإنتاج أكبر من هذا الحد، مشيرًا إلى أن “إنتاج النفط لم يكن مطروحًا للنقاش في قمة جدة للأمن والتنمية”، مشددًا على أن أوبك+ لديها منظومة قائمة لمتابعة الأسواق وضمان إمدادها بما تحتاجه من الطاقة.
وكان بايدن يؤمل نفسه باستجابة سعودية سريعة لمطلب زيادة الإنتاج بالشكل الذي يعوض الإنتاج الروسي من النفط والغاز الذي تسبب في أزمة خانقة للعالم، سواء على مستوى الإمدادات أم الأسعار، وذلك في أعقاب العقوبات الغربية الموقعة على روسيا جراء الحرب في أوكرانيا، التي كان من أبرز بنودها وقف الواردات الروسية من الوقود، وهو القرار الذي يدفع العالم ثمنه طيلة الأشهر الأربع الماضية.
تعثر مشروع الناتو
حمل بايدن في حقيبته خلال جولته الشرق أوسطية مشروع لدمج “إسرائيل” في المنطقة العربية عسكريًا، كان التصور الأبرز والأكثر ترجيحًا لدى سلطات واشنطن وتل أبيب، تدشين ما عرف إعلاميًا باسم “الناتو العربي” وهو التحالف العسكري الذي يضم عددًا من الدول العربية مع “إسرائيل” وبرعاية أمريكية.
إلا أن هذا المشروع ولد متعثرًا في ظل التحفظ المصري السعودي بشأنه، وزاد الأمر تعثرًا بعد إعلان الإمارات التأكيد على عدم انضمامها لأي تحالف يستهدف طرفًا إقليميًا – في إشارة إلى إيران – رغم موافقتها السابقة على المشروع، وهو ما يعني إلغاء هذا الملف أو تجميده حتى إشعار آخر.
وعليه كان اللجوء لبديل هو الحل العملي الأبرز أمام إدارة بايدن، حيث ذكر موقع “أكسيوس” ملامح صفقة أمريكية بين “إسرائيل” والسعودية لتعزيز التقارب بينهما كخطوة تمهيدية نحو التطبيع، تتضمن موافقة تل أبيب على تسلم الرياض لجزيرتي تيران وصنافير التي تنازلت عنهما مصر بموجب اتفاقية ترسيم الحدود مع المملكة في 2016، نظير فتح الأجواء السعودية أمام الطيران الإسرائيلي بما يمهد الطريق أمام السعودية لاتخاذ خطوات نحو تطبيع العلاقات بينهما.
ورغم فتح السعودية لمجالها الجوي فعليًا أمام الطائرات الإسرائيلية، فإن وزير الخارجية السعودية أكد أن “فتح المجال الجوي لا علاقة له بإقامة علاقات دبلوماسية مع “إسرائيل” وليس مقدمة لخطوات أخرى”، منوهًا أنه “ليس ثمة ما يعرف بالناتو العربي ولا أعرف من أين أتى هذا المسمى والأمر لم يطرح في القمة”، وأن “ليس هناك أي نقاشات بشأن تعاون دفاعي بين دول مجلس التعاون الخليجي و”إسرائيل””.
حرصت كل من واشنطن وعواصم الخليج تحديدًا على الإبقاء على الشراكة بينهما ولو عند حدودها الدنيا، وهو ما أكده بيان قمة جدة
عودة خجول للشرق الأوسط
أيقنت واشنطن مؤخرًا خطأ قرار الانسحاب التدريجي من الشرق الأوسط، إذ مهد ذلك الطريق نحو تعاظم النفوذ الروسي الصيني لملء الفراغ الذي تركه الأمريكان، بما حمل معه تهديدًا مباشرًا وضمنيًا للمصالح الأمريكية في المنطقة، فضلًا عن سحب البساط من أقدام القطب الأكبر وتراجع نفوذه وهيبته العالمية.
حاول بايدن من خلال تلك الجولة العودة مجددًا للمنطقة الشرق أوسطية، لإحياء النفوذ المتراجع ومناهضة التمدد الروسي الصيني الإيراني، أملًا في تصحيح الخطأ القديم، لكن يبدو أن قرار الرجوع كان متأخرًا للغاية، إذ نسجت قوى المنطقة علاقاتها المتشابكة مع القوى البديلة التي نجحت في تثبيت أقدامها عبر شراكات متعمقة وعلى المسارات كافة.
ومع ذلك حرصت كل من واشنطن وعواصم الخليج تحديدًا على الإبقاء على الشراكة بينهما ولو عند حدودها الدنيا، وهو ما أكده بيان قمة جدة الذي ركز على “الشراكة الإستراتيجية بين المملكة والولايات المتحدة”، وهي شراكة امتدت لـ80 عامًا وقامت على المصالح المشتركة والاحترام المتبادل بين البلدين.
وفي الوقت الذي أبرمت فيه دول مجلس التعاون عشرات الاتفاقيات مع قوى المنطقة بشتى انتماءاتها، كانت القمة العربية الأمريكية واللقاءات الثنائية بين بادين وزعماء المنطقة، شبه خالية من أي مذكرات تفاهم، مكتفية بخطاب دبلوماسي فضفاض يحفظ ماء الوجه للحلفاء بعد شراكة دامت سنوات طويلة، الأمر الذي يبدو معه أن عودة أمريكا للشرق الأوسط بنفس قوتها سابقًا ستكون مسألة صعبة وبحاجة إلى جهود دبلوماسية كبيرة.
“إسرائيل” الرابح الأكبر
نجحت “إسرائيل” في حصد كل مكاسب جولة بايدن، واستأثرت لنفسها بنصيب الأسد في الدعم واتفاقيات التعاون، فاستغلت الوضعية الحرجة للرئيس الديمقراطي داخليًا للخروج بأي قدر ممكن من الغنائم من زيارته لها التي استمرت يومين التقى فيها قادة دولة الاحتلال وحظي خلالها بتكريم كبير.
ولأول مرة تجبر “إسرائيل” رئيسيًا أمريكيًا على تجاوز حاجز الدعم التقليدي بحكم سيطرة اللوبي اليهودي على المشهد الأمريكي، إلى الحديث صراحة عن دعم لا يتوقف استنادًا إلى خلفية أيديولوجية، وذلك حين قال بايدن صراحة: “أنا صهيوني” خلال كلمته التي ألقاها عقب وصوله.
ونجحت تل أبيب في الظفر بتعهدات أمريكية عدة بدعم أمن وتأمين البلاد في مواجهة التحديات الإقليمية وتزويد الجيش الإسرائيلي بأحدث الأسلحة والعتاد العسكري بما يتيح له التفوق مقارنة بجيوش المنطقة المجاورة، وهو المكسب الذي طالما تسعى حكومات الاحتلال المتعاقبة لتحقيقه مع كل زيارة لرئيس أمريكي أو أوروبي.
قادة العرب يبدو أنهم أدركوا أن الاستجابة لمطالب بايدن الذي تتآكل شعبيته وبات مستقبله السياسي آيلًا للسقوط في المستقبل ربما يكون قرارًا خاطئًا في الوقت الراهن وفي ظل المستجدات الأخيرة
ويرى الخبير المصري إبراهيم نوار، أن المصالح الانتخابية وراء هذا الدعم غير المسبوق الذي يقدمه بايدن لـ”إسرائيل”، لافتًا أن تقييم تلك الزيارة يتطلب النظر إليها من منظور إستراتيجي بعيد المدى بحسب مقاله في “القدس العربي”، منوهًا أن بايدن حضر إلى “إسرائيل” وعقله مشغول بانتخابات التجديد النصفي للكونغرس في نوفمبر/تشرين القادم حيث يعاني من تراجع في الشعبية بمستويات لم يصل إليها أحد من قبل، ويحاول قدر الإمكان إنقاذ مستقبله السياسي من خلال تقديم قرابين الولاء والطاعة لدولة الاحتلال بما يضمن له دعم اللوبي اليهودي في بلاده، ماديًا ولوجستيًا.
وأضاف نوار أن كل من الرئيس الأمريكي ورئيس وزراء الاحتلال “يواجه شبحًا يطارده من الماضي، شبح ترامب يطارد بايدن، وشبح نتنياهو يطارد لابيد، ومن مصلحة كل منهما قطع الطريق على الشبح الذي يطارد الآخر، وقد كان كل منهما حريصًا أشد الحرص خلال الزيارة على اختيار خطواته وكلماته بحساب دقيق، لكي يساعد نفسه على تحقيق الأمل المنشود”.
من الواضح أن لتلك الجولة التي لم تحقق أهدافها المنشودة بنسبة كبيرة سيكون لها ارتدادتها على الداخل الأمريكي خلال الفترة المقبلة، لا سيما فيما يتعلق بسمعة البلاد التي باتت على المحك، وهو ما ألمحت إليه مراسلة صحيفة “الغارديان” البريطانية في القدس، بيثان ماكيرنان، حين أشارت إلى أن بايدن قدم العديد من التنازلات للحصول على تأمين نفطي وكان ذلك على حساب حقوق الإنسان وصورة أمريكا خارجيًا.
وفي الأخير فإن قادة العرب يبدو أنهم قد أدركوا أن الاستجابة لمطالب بايدن الذي تتآكل شعبيته وبات مستقبله السياسي آيلًا للسقوط في المستقبل ربما يكون قرارًا خاطئًا في الوقت الراهن وفي ظل المستجدات الاخيرة التي فرضت تموضوعات على معادلة التوازنات الإقليمية والدولية، ليعود الرئيس إلى بلاده بـ”خفّي حنين” عربيًا على الأقل، عدا حفنة من المكاسب السياسية التي حققها بدعمه لـ”إسرائيل”.