ترجمة وتحرير: نون بوست
شهد الدولار الأمريكي في العام الماضي ارتفاعًا كبيرًا مقابل العملات العالمية الرئيسية، ليصل مؤخرًا إلى مستويات لم يشهدها منذ 20 سنة، فقد ارتفع بنسبة 15 بالمئة مقابل الجنيه الإسترليني؛ و16 بالمئة مقابل اليورو؛ و23 بالمئة مقابل الين الياباني.
ويعتبر الدولار هو العملة المرجعية في العالم، بمعنى أنه يُستخدم في معظم التعاملات الدولية. وكنتيجة لذلك، فإن أي تغييرات في قيمته سيكون لها آثار على الاقتصاد العالمي بأكمله. وفيما يلي خمسة من أهم هذه الآثار:
1- المزيد من التضخم
يتم عادة تداول البترول ومعظم السلع مثل المعادن أو الحطب بالدولار الأمريكي (مع وجود بعض الاستثناءات). ولذلك، كلما أصبح الدولار أقوى، كلما كانت تكلفة هذه السلع أكبر بالعملة المحلية. على سبيل المثال؛ ارتفعت تكلفة كمية من البنزين بقيمة 100 دولار أمريكي خلال العام الماضي من 72 إلى 84 جنيهًا إسترلينيًا، ونظرًا لأن سعر لتر البنزين بالدولار الأمريكي قد ارتفع بشكل حاد، فإنه في هذه الحالة سوف يخلق أزمة مزدوجة: عندما ترتفع تكلفة الطاقة والمواد الخام، ترتفع أسعار العديد من المنتجات الموجهة للمستهلكين والمتعاملين، مما يتسبب في حدوث تضخم في جميع أنحاء العالم. والاستثناء الوحيد من هذه القاعدة هو الولايات المتحدة، حيث يجعل الدولار القوي المنتجات الاستهلاكية المستوردة أرخص وبالتالي يمكن أن يساعدها على التحكم في التضخم.
2- تهديد للبلدان منخفضة الدخل
تقوم معظم البلدان النامية بتسديد ديونها بالدولار الأمريكي؛ لذا فإن العديد منها يصبح مدينًا أكثر بكثير مما كان عليه قبل عام. ونتيجة لذلك، سيضطر الكثيرون لتغطية هذا المبلغ المتزايد من العملة المحلية لسداد ديونهم.
ونحن نشهد هذا الأمر بالفعل في سريلانكا؛ وقد تعرف دول أخرى نفس المصير تقريبًا؛ وسيتعيّن عليها إما فرض ضرائب أكبر في اقتصاداتها، أو إصدار نقود محلية تتسبب بدورها في التضخم أو ببساطة اقتراض المزيد، وفي هذه الحالة؛ قد تكون النتائج ركودًا عميقًا أو تضخمًا حادًا أو أزمة ديون سيادية، أو الثلاثة معًا، ذلك متوقف على المسار الذي تم اختياره. تجدر الإشارة إلى أن البلدان النامية التي تقع في أزمة ديون سيادية، قد تستغرق سنواتِِ أو حتى عقودًا للتعافي، مما يتسبب في أزمات شديدة لشعوبها.
3- عجز أكبر في الميزان التجاري لأمريكا
من المؤكد أن البلدان الأخرى ستشتري كميات أقل من المنتجات الأمريكية عندما يرتفع الدولار؛ وبالتالي يرتفع العجز في الميزان التجاري للولايات المتحدة، وهو الفرق بين حجم الصادرات والواردات، والذي يقترب أصلًا من 1 تريليون دولار في السنة. وفي هذا الشأن؛ تعهد الرئيس جو بايدن، مثلما تعهد دونالد ترامب قبله، بتقليصه وخاصة في إطار المنافسة مع الصين، غير أن بعض الاقتصاديين يشعرون بالقلق من أن يؤدي العجز التجاري إلى زيادة الاقتراض الأمريكي، ويعكس حقيقة أن العديد من وظائف التصنيع قد نقلت إلى الخارج.
4- تراجع إزالة العولمة
إن السياسة الاقتصادية الأكثر وضوحًا لمنع ارتفاع العجز التجاري هي اللعبة القديمة المتمثلة في فرض رسوم جمركية أو حصص أو غيرها من القيود على الواردات، غير أن هذه السياسة يترتب عنها معاملة بالمثل من الدول الأخرى، بفرض رسوم أو قيود أخرى على المنتجات الأمريكية. وفي عصر نشهد فيه “إزالة العولمة”، بفضل العلاقات المتدهورة بين الغرب من جهة وروسيا والصين من جهة أخرى، فإن الدولار القوي يبرز في هذا الزخم السياسي كتهديد للتجارة العالمية.
5. مخاوف منطقة اليورو
أصبحت الدول الأعضاء الأضعف في الاتحاد الأوروبي مثل البرتغال وإيرلندا واليونان وقبرص أقل حصانة، إلى حد ما، أمام المستثمرين الذين يدفعون تكاليف الاقتراض إلى مستويات الأزمة مقارنة بأحلك أيام أزمة منطقة اليورو. ويرجع ذلك إلى أن الكثير من ديونها الوطنية أصبحت الآن في أيدي آلية الاستقرار الأوروبية، التي تم إنشاؤها للمساعدة في إنقاذهم، فضلاً عن البنوك الاستثمارية الأكثر صداقة في منطقة اليورو.
ومع ذلك؛ فإن قوة الدولار تخلق ضغوطًا على البنك المركزي الأوروبي لرفع أسعار الفائدة الخاصة به لدعم اليورو وتخفيض تكلفة الواردات، بما في ذلك الطاقة؛ حيث سيؤدي هذا إلى مزيد من الضغط على دول منطقة اليورو ذات المستويات المرتفعة من الديون. فإيطاليا، التي تعد تاسع أكبر اقتصاد في العالم ولديها ديون حكومية ضخمة تصل إلى 150 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، سيكون من الصعب إنقاذها بشكل خاص إذا خرج الوضع عن السيطرة.
وبجمع هذه النقاط الخمس معًا، فإن الدولار شديد القوة هو سبب آخر للخوف من الركود العالمي في الفترة المقبلة؛ حيث يؤدي ارتفاع التضخم إلى تآكل دخل المستهلك وتقليل الاستهلاك، ويمكن أن تقلل الحمائية التجارة والاستثمار الدوليين؛ حيث إن أزمات الديون السيادية تعني مشاكل خطيرة للعديد من البلدان النامية وربما حتى منطقة اليورو.
هل سيستمر الدولار في الارتفاع؟
ارتفع الدولار لأسباب اقتصادية وجيوسياسية، ورفع البنك المركزي للولايات المتحدة – الاحتياطي الفيدرالي – أسعار الفائدة بقوة وعكس أيضًا سياسة الإنشاء النقدي من خلال التيسير الكمي، وهذا في محاولة للحد من التضخم الناجم عن قضايا التوريد، كوفيد والحرب في أوكرانيا وكذلك التيسير الكمي.
ويعتبر ارتفاع قيمة الدولار الأمريكي أحد الآثار الجانبية لأسعار الفائدة المرتفعة هذه، ونظرًا لأن الدولار يوفر الآن عائدًا أعلى عند إيداعه في أحد البنوك الأمريكية، فإنه يشجع المستثمرين الأجانب على بيع عملتهم المحلية وشراء الدولار الأمريكي.
صحيح أن البنوك المركزية في دول مثل المملكة المتحدة أيضًا رفعت أسعار الفائدة، وتخطط منطقة اليورو لفعل الشيء نفسه، لكنهم لا يتصرفون بقوة مثل الولايات المتحدة. وفي غضون ذلك؛ لا تشدد اليابان سياستها المالية على الإطلاق، وبالتالي فإن النتيجة النهائية هي زيادة الطلب الأجنبي على العملة الأمريكية.
والسبب الآخر لارتفاع الدولار الأمريكي هو أنه ملاذ آمن كلاسيكي عندما يشعر العالم بالقلق من الركود؛ ويمكن القول إن الوضع الجيوسياسي الحالي يجعله أكثر جاذبية، فلقد عانى اليورو من قرب الاتحاد الأوروبي من الحرب في أوكرانيا، وتعرضه للطاقة الروسية واحتمال حدوث أزمة أخرى في منطقة اليورو.؛ حتى إنه قريب من التكافؤ بالدولار لأول مرة منذ سنواته الأولى.
وتضرر الجنيه البريطاني بسبب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ويواجه أيضًا احتمالية إجراء استفتاء ثان على استقلال أسكتلندا، وحرب تجارية محتملة مع الاتحاد الأوروبي بشأن بروتوكول أيرلندا الشمالية. وأخيرًا؛ ينتمي الين إلى اقتصاد يبدو أنه يفقد قوته ببطء، فاليابان تتقدم في السن ولا تزال غير مرتاحة للهجرة لتعزيز قدراتها الإنتاجية، وضعف الين هو أيضًا السعر الذي تدفعه اليابان لمواصلة التيسير الكمي للحفاظ على أسعار الفائدة منخفضة على ديونها الحكومية.
من الصعب التنبؤ بالاتجاه المستقبلي للدولار الأمريكي عندما يكون هناك الكثير من الأجزاء المتحركة في الاقتصاد العالمي، لكننا نشك في أن التضخم المستمر سيجبر أسعار الفائدة الأمريكية على الاستمرار في الارتفاع، وأنه جنبًا إلى جنب مع الصدمات الجيوسياسية الناجمة عن الحرب والتخلف عن سداد الديون السيادية، فمن المحتمل أن يبقى الدولار مرتفعًا، فالدولار الأمريكي القوي هو استجابة للأوقات العصيبة.