“هل تخجلين من جسمك”، كانت تلك حيلة المبتز للإيقاع بفتيات لاجئات، من أجل دفعهن لتصوير أنفسهن بصور خادشة للحياء، ثم يبتزهن لإقامة علاقة وإلا يهددهن بنشر ما يملكه من فيديوهات وصور لهن، ومنهن اللاجئة السورية نور (15 عامًا)، إحدى ضحايا الابتزاز الإلكتروني.
بدأت القصة حينما وقعت بعلاقة مع صديق والدها الذي حاول التقرب منها بالهدايا النقدية والمجاملات، قبل أن تتطور الأمور إلى المحادثات ثم تبادل الصور الحميمية، دون علمها أن كل محادثاتها المصورة كان يوثقها الرجل الثلاثيني ليستخدمها في الوقت المناسب، وحينما قررت التخلص من هذه العلاقة، أرسل الطرف الأول الصور للأب في محاولة منه لابتزاز العائلة لتزويجه الفتاة القاصر كزوجة ثانية.
أما هبة، لاجئة فلسطينية تقيم في أحد المخيمات وتبلغ من العمر (17 عامًا) وما زالت على مقاعد الدراسة في الصف الحادي عشر، فهي أيضًا ضحية للابتزاز الإلكتروني من شخص تعرفت عليه عبر “الفيسبوك”، استغل نقطة ضعفها وحصل على صور خاصة لها، لكن الجاني هذه المرة كان يريد المال فحسب، وهددها بنشر صورها في حال لم تؤمن له المبلغ.
في حالات أخرى، ليس دائمًا ما تأخذ جرائم الابتزاز شكلها التقليدي المعتاد، بل ومنذ توافد اللاجئين من سوريا وغالبيتهم من النساء الأرامل والقاصرات، نشطت في أروقة المخيمات مجموعات تعمل لصالح رجال أعمال ونافذين على شكل “مافيات وعصابات”، تغدق المحتاجين بالمال والمعونات، لتوقع نساءهن بفخ التزويج القسري.
اللاجئات أكثر هشاشة
على لسان إحدى الشاهدات على ذلك، تقول لـ”نون بوست”، إن أحد المخيمات استيقظ على صوت رصاص يخترق جسد شاب في عقده الثاني من مجهولين فروا هاربين بعدها، وعن سؤالنا ما علاقة هذا الحادث بقضايا الابتزاز، أجابت أنه حاول إسقاط فتاة وصديقاتها الأربعة من خلال تقديم المال والرحلات والملابس، مقابل تصويرهن عبر تطبيق “السكايب” مقاطع حميمية، لإنتاج فيلم “إباحي” وبيعه لأحد الرجال المرموقين الذي يتوافد على المخيم كثيرًا، قبل أن تبوح إحداهن بالسر لوالدها وتكتشف خطة المبتز ويُقتل، بينما حرمت الصغيرات من الرجوع لممارسة حياتهن بشكلها الطبيعي.
تعتبر جرائم الابتزاز الإلكتروني في لبنان من القضايا الشائعة والمنتشرة، ومسرحها الأول مواقع التواصل الاجتماعي، والإناث ضحاياها بنسبة أعلى بكثير من الذكور. والغايات من الابتزاز كثيرة، منها المادي ومنها الوصول لعلاقة جنسية مع الفتاة بعدما كانت تقتصر على المحادثات، وهناك حالات لا يكتفي المبتز فيها بالابتزاز الجنسي بمفرده، وإنما مع أصدقائه تحت التهديد بفضح الفتاة.
وتشير المنظمات الحقوقية والمعنية بأوضاع اللاجئات في لبنان، بأن ظروف الفقر والعوز التي تمر بها مخيمات اللاجئين فتحت باب الابتزاز على مصراعيه، فكانت النساء والقاصرات الحلقة الأكثر هشاشة والفئة المستضعفة والمستهدفة بشكل كبير في جرائم الابتزاز والتعنيف الجنسي والإلكتروني.
وفي سياق ذلك، قالت منظمة العفو الدولية في تقرير لها إن اللاجئات السوريات يتعرضن لشتى أنواع الاستغلال في لبنان وبينها التحرش الجنسي، وأضافت المنظمة “أوجه القصور في المساعدات الدولية والسياسات التمييزية التي تنتهجها السلطات اللبنانية، فقد خلقت ظروفًا تجعل من اليسير في ظلها تعرض اللاجئات في لبنان للاستغلال والإساءة”.
ويعيش نحو 70% من أسر اللاجئين السوريين في ظل مستويات تقل كثيرًا عن خط الفقر المعتمد رسميًا في لبنان، وفق الأمم المتحدة، ويستضيف البلد ذو الموارد المحدودة والتركيبة السياسية والطائفية الهشة، أكثر من مليون لاجئ سوري يعيش معظمهم في ظروف مأسوية.
تجد النساء اللاجئات في لبنان أنفسهن “عرضة لخطر الاستغلال من أصحاب النفوذ، بما في ذلك أصحاب العقارات وأرباب العمل، وحتى أفراد الشرطة”، وفق التقرير، وينقل عن لاجئات قولهن إنهن يعانين لتأمين التكاليف المعيشية المرتفعة في لبنان وشراء الطعام أو دفع الإيجار، ما جعلهن عرضة لخطر الاستغلال على نحو متزايد، وذكرت بعضهن أن رجالًا قاموا بمعاكستهن أو التصرف بطريقة غير لائقة معهن أو عرضوا توفير المساعدة المالية وغير ذلك من أشكال المساعدة لهن مقابل الجنس.
تقول الناشطة والصحافية اللاجئة لوجين العبسي: “نسبة انتشار جرائم الابتزاز الإلكتروني كبيرة عند اللاجئين، ولطالما كانت الإناث ضحية هذه الجرائم وبنسبة أعلى بكثير من الذكور، خصوصًا في ظل غياب الرقابة الذي يزيد الأمور تعقيدًا، فالفتيات التي تتراوح أعمارهن بين 12 و14عامًا أكثر عرضة للابتزاز الإلكتروني”.
وتستدرك في حديثها مع “نون بوست” قائلة: “في مخيمات اللاجئين لا يشتكي ضحايا الابتزاز، خوفًا من الفضيحة ولوم المجتمع، ويفضلون في أغلب الأحيان الرضوخ لعمليات الابتزاز ودفن سرهن معهن، كما أن هناك العديد من حالات الانتحار إلا أن بعض الأشخاص يفضلون عدم البوح بالمشكلة أو المسبب للانتحار”.
من جهتها، تقول لورا صفير رئيسة الهيئة اللبنانية لمناهضة العنف ضد المرأة، إن المخاطر التي تواجه الفتيات والنساء داخل المخيمات تتمثل في التحرش والاستغلال الجنسي وقلة وصولهن للخدمات الصحية والاجتماعية في حال كان المخيم بعيدًا عن وسط البلد، كذلك اضطرارهن لاستخدام الحمامات المشتركة، ما يعرضهن لخطر التحرش أيضًا بالإضافة للمشكلات الصحية.
مضيفةً في حديثها لـ”نون بوست” “في بعض المخيمات ينتشر العنف الأسري والعنف ضد الأطفال وإجبار الفتيات على العمل خاصة في مجال الزراعة، وعدم حصولهن دائمًا على الدعم المناسب والكافي لتأمين حاجاتهن النفسية والاجتماعية، وإجبار الفتيات على الزواج المبكر بسبب العادات والتقاليد السائدة في هذه المخيمات”.
وتوصف صفير قضايا الابتزاز الإلكتروني، بالجرائم التي تفتك بالشابات والشباب والأطفال، إلا أن الفتيات أكثر عرضة لها، ومن أسبابها: عدم توجيه الشابات والشباب إلى القيم الإنسانية واحترام خصوصية الآخرين، وقلة الوعي القانوني بعقوبة التهديد والابتزاز بشكل عام بالنسبة للمبتز، إلى جانب الهدف الجنسي من خلال إشباع الغريزة الجنسية التي يقع ضحيتها الشابات والأطفال، لافتةً إلى أن البطالة وسوء الحالة الاقتصادية والاجتماعية والحجر المنزلي والبقاء مع المبتز في مكان واحد واستغلال الظروف الاقتصادية والاجتماعية والضغط في تنفيذ طلب جنسي معين في مقابل مادي أو معنوي، كلها تقف وراء انتشار مثل هذه الجرائم.
وتبين بأن حالات الابتزاز الإلكتروني تتمثل في إرسال صور شخصية إلى شخص غير موثوق عبر التعارف الإلكتروني، وامتلاك المبتز لعدد من المحادثات الخاصة، فيبتز الضحية بأنها إذا لم تلب طلباته سينشر محادثاتها وصورها أو يرسلها إلى أهلها وأقاربها ومعارفها، كذلك، اختراق حسابات التواصل الاجتماعي بكل أشكالها وضعف الوعي بالأمن الإلكتروني، بالإضافة إلى عدم التأكد من حذف المعلومات والملفات الشخصية قبل بيع الجهاز النقال أو الحاسوب.
دور المنظمات وشوائب القوانين
تشير رئيسة الهيئة اللبنانية لمناهضة العنف إلى أهمية تأمين الحماية والسلامة لهذه الفئة المهمشة من اللاجئات من المنظمات المعنية باللاجئات، من خلال خدمة إدارة الحالة والخدمات المتخصصة (القانونية، النفسية)، وتوفير التوعية من خلال جلسات التوعية وجلسات الدعم النفسي الاجتماعي، والقيام بإحالات الأزمة للتصدي للمشكلات الإضافية مثل التحديات الصحية، والتنسيق والتشبيك مع كل الجمعيات المتاحة في المنطقة لتأمين المساندة والمساعدة.
مشددة على ضرورة الوقاية والتوعية والاتصال بخط التبليغ الخاص بقوى الأمن الداخلي عند التعرض للابتزاز أو التهديد، إلى جانب إقرار قوانين رادعة للمحاسبة في حالات الابتزاز الإلكتروني ونشر الوعي بوجود قانون التحرش الجنسي الذي صدر في ديسمبر/كانون الأول 2020 مع ضرورة تطبيقه وتنفيذ أحكامه من الجهات القانونية المختصة.
في 21 ديسمبر/كانون الأول 2020، صدر قانون تجريم التحرش الجنسي في لبنان أو القانون رقم 205/2020، للمرة الأولى بشكل منفصل ومفصل، بعد أعوام من المطالبات والصرخات، ومنذ ذلك اليوم بات بإمكان كل شخص يتعرض لفعل التحرش، التوجه إلى المسار القانوني لأخذ حقه ومحاسبة الفاعل.
يعرف القانون اللبناني التحرش الجنسي بأنه “أي سلوك سيئ ومتكرر، خارج عن المألوف، وغير مرغوب فيه من الضحية، وذي مدلول جنسي يشكل انتهاكًا للجسد، أو للخصوصية، أو للمشاعر”، كما يشير القانون إلى أن التحرش الجنسي قد يتم عبر أقوال وأفعال ووسائل إلكترونية، ويَعد القانون التحرش الجنسي “كل فعل أو مسعى، لو كان غير متكرر، يستخدم أي نوع من الضغط النفسي أو المعنوي أو المادي أو العنصري ويهدف فعليًا للحصول على منفعة ذات طبيعة جنسية”.
ورغم أن تعريف التحرش الجنسي وكيفية التعامل معه غير متفق عليهما بشكل كامل وواضح عالميًا، فإن الإجماع الأكبر يصب في عد كل تصرف أو كلام يراه المتلقي مسيئًا ويسبب أذيةً له، تحرشًا، والحل البديهي في أي بلد هو محاسبة المرتكبين.
تقول منظمة “هيومن رايتس واتش”، في تقرير لها صدر عام 2021، إن قانون التحرش الجنسي في لبنان لا يستوفي المعايير الدولية، لا سيما لجهة عدم مصادقته على “اتفاقية منظمة العمل الدولية بشأن القضاء على العنف والتحرش” وتطبيقها، كما ينقصه ذكر التدابير الوقائية وإصلاحات قانون العمل وسبل الانتصاف المدني.
ويصنف القانون اللبناني الابتزاز بالجريمة، إذ يتم من خلالها “التهديد بنشر صور أو فيديوهات خاصة بالضحية بهدف الحصول على مبالغ مالية، أو دفع الضحية للقيام بأعمال غير مشروعة”، وبحسب المادة 650 من قانون العقوبات “يُعاقب كل شخص يهدد شخصًا آخر بفضح أمر ينال من شرفه أو كرامته أو اعتباره، بالسجن من شهرين إلى سنتين، وبالغرامة المالية”.
يدعم القانون الضحية حال تقدمت بشكوى، لكن الضغط الاجتماعي الممارس عليها أكبر بكثير من القدرة على مواجهته وتجاوزه وأخذ حقها بالقانون، فالعنصر المشترك بين الضحايا هو “الخوف” من أن يصل بهم الحال إلى الفضيحة، وبالفعل الكثير من الشابات تعرضن للابتزاز أكثر من مرة بسبب الخوف من الأهل والمحيط والمجتمع، فهو خوف عمره مئات السنوات.
“الشاشة لا تحمي”
انطلاقًا من هذا الواقع الذي دفع أكثر من مئة امرأة وفتاة للتبليغ شهريًا عن تعرضهن للعنف الإلكتروني بكل أنواعه بحسب أرقام القوى الأمنية، انطلقت “منظمة في-مايل” في حملتها الوطنية تحت عنوان “الشاشة ما بتحمي” للتأكيد على أن النساء والفتيات في لبنان والعالم العربي لهن الحق في الوصول إلى الإنترنت واستخدامه بحرية وأمان من دون التعرض للعنف أو التنمر أو الابتزاز.
وفي هذا السياق قالت حياة مرشاد، المديرة التنفيذية بالشراكة في منظمة في-مايل، إن الحملة تهدف إلى إعلام النساء والفتيات بحقهن في استخدام الإنترنت، لكن في نفس الوقت اطلاعهن على جميع التهديدات والتحديات التي تترافق مع هذا الاستخدام، وتسليحهن ببعض التقنيات من أجل استخدام آمن للإنترنت وخاصةً مواقع التواصل الاجتماعي، كما تهدف الحملة أيضًا إلى إعلام الفتيات والنساء أن المعتدي لا يمكنه الهروب والإفلات من العقاب ولو أن الاعتداء تم على مواقع التواصل الاجتماعي فبإمكانهن محاسبته وفضحه والتبليغ عنه.
حصلت منظمة في-مايل على معطيات من المديرية العامة للأمن العام، تؤكد أن العام 2019 شهد انتحار فتاتين بسبب الابتزاز الإلكتروني ومحاولة انتحار لثالثة، وأشارت المديرية إلى أن أنواع الجرائم الإلكترونية التي تتعرض لها النساء والفتيات توزعت بين: التحرش والتعرض للآداب والأخلاق العامة والابتزاز الجنسي والابتزاز المادي والتهديد بالتشهير وقدح وذم وسرقة حساب إلكتروني وغيرها.
وكشفت الأرقام أنه يتم الإبلاغ عن نحو مئة جريمة إلكترونية ضد النساء والفتيات في لبنان شهريًا، علمًا بأن عددًا كبيرًا من الجرائم التي ترتكب بحقهن لا يتم التبليغ عنها لأسباب عدة مرتبطة بالنظام الأبوي القائم وعدم معرفة وثقة النساء بآليات الحماية الرسمية، خاصةً أن النسبة الكبرى من المبلغات عن عنف هن قاصرات، وفق قول حياة مرشاد، المديرة التنفيذية بالشراكة في منظمة في-مايل.
وتتابع مرشاد “ارتفاع نسب العنف والابتزاز الإلكتروني الممارس ضد النساء والفتيات وعدم وجود آليات كافية لمواجهته، ساعد على نمو الظاهرة وحولها إلى فعل يومي يُمارسه المعنف على اعتبار أنه “طبيعي نتعرض لتحرش على الأونلاين””.
وتلفت إلى أن عددًا كبيرًا من النساء والفتيات لا يمتلكن أدوات المواجهة، خاصة أنهن يعانين أصلًا من ارتفاع نسبة العنف الأسري ضدهن، أفكار وثقافة مجتمعية أبوية تقوم على لوم النساء والتمييز بحقهن، وضغوط معيشية نظرًا للأوضاع الاقتصادية الصعبة في البلاد، أُضيف إليها فيروس كورونا وإجراءات الحجر المنزلي التي حصرت النساء والفتيات في مساحة واحدة مع المعنفين أوفلاين وأونلاين.