ليس هناك من أدنى شك في أن السلطات الانقلابية في السودان لجأت إلى استخدام سياسة “الأرض المحروقة” كخيار أخير بعد أن جربت كل أنواع القمع بحق المتظاهرين السلميين من قتلٍ واغتصابٍ وتعذيبٍ ودهسٍ بالسيارات، وقد فشلت بعد كل ذلك في كسر إرادة الشباب المناهضين للانقلاب المدعوم من دول المحور الإقليمي المعادي للثورات.
سياسة “الأرض المحروقة”، هي إستراتيجية عسكرية يتم فيها “حرق” أي شيء قد يستفيد منه العدو عند التقدم أو التراجع في منطقة ما، في الأصل كان المصطلح يشير إلى حرق المحاصيل الفلاحية لعدم استعمالها من طرف العدو كمؤونة، أما في الحالة السودانية فنقصد به إشعال المجلس العسكري للصراعات القبلية في أطراف البلاد: دارفور، كردفان، بورتسودان، كسلا، النيل الأزرق، هذا بالإضافة إلى الخطابات العنصرية البغيضة التي تكررت مؤخرًا من قائد الانقلاب عبد الفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو “حميدتي”.
النيل الأزرق: قتل على أساس العرق
التحق إقليم النيل الأزرق “جنوب شرق” السودان، بالولايات التي تشهد تفلتات أمنية وأهلية واسعة النطاق في البلاد، وارتفعت حصيلة ضحايا العنف القبلي في محليات الإقليم بين قبائل الفونج والهوسا إلى 65 قتيلًا و200 مصاب، فضلًا عن إتلاف ونهب العديد من المحلات التجارية.
قال مسؤول صحي لصحيفة السوداني: “الوضع الصحي بمستشفى الدمازين التعليمي مُزرٍ، حيث يتراكم عدد من جثامين أطراف النزاع لم يتم التعرُّف عليها (مجهولة الهوية) حتى الآن، في ظل امتلاء مشرحة المستشفى بالجثامين، ما أسفر عن انبعاث روائح كريهة يصعب للكوادر الطبية بالمستشفى ممارسة عملها”.
ما يجرى حاليًّا الآن في إقليم النيل الأزرق يعد امتدادًا لظاهرة النزاعات القبلية التي يُتهم قادة الانقلاب بالتورط فيها أو على الأقل غض الطرف عنها. أخذت هذه النزاعات منحىً خطيرًا بتحولها من نزاعات محدودة على المراعي ومصادر المياه إلى حروب أهلية وصراعات متتالية يسقط ضحيتها آلاف القتلى، في حين أن الآلة العسكرية الضخمة التي يُسلطها قادة الانقلاب لقمع المتظاهرين السلميين حتى داخل الأحياء السكنية، تقف متفرجة ـ في الوقت نفسه ـ على جرائم القتل والتشريد والتطهير العرقي في الأقاليم المذكورة.
خطاب عنصري لقائد الانقلاب
قائد الانقلاب الجنرال عبد الفتاح البرهان ألقى خطابًا صادمًا، خلال عطلة عيد الأضحى، استنكرته العديد من الأحزاب السياسية والمنظمات والمراقبين، واعتبروه حديثًا عنصريًا جهويًا يروج لخطاب الكراهية الذي استفحل بشدة في أعقاب انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول.
فالجنرال البرهان الذي منح نفسه منصب “رئيس المجلس السيادي” والقائد العام للقوات المسلحة التي يُفترض أن تكون قومية محايدة بحيث تمثل كل مواطني السودان من دون ولاء لعرق أو طائفة أو مجموعة سكانية، يتحدث بكل عنصرية أنهم هم الذين يقاتلون في القوات المسلحة والشرطة وأي مكان آخر، وهم الأحق بالقيادة.. هذا بالفعل حديث مَن يُفترض أنه قائد الجيش!
بل إن قائد الانقلاب تجاوز كل الحدود، عندما قال عن أبناء القوميات السودانية الأخرى: “ما بشبهونا، ولا يجب أن نسمح لهم بالحديث نيابة عنا وتمثيلنا”!
وأضاف: “التاريخ حق السودان كله مارق من هنا ده، من البجراوية ومن كبوشية ومن مروي والبركل ولغاية مملكة سوبا وعلوة، كله، جزء كبير من تاريخ السودان، أنحنا بنفتكر إنه ناسنا ديل عندهم مساهمات كبيرة جدًا في بنيان السودان”.
رصاص العسكر حصد أرواح من يدعي البرهان تمثيلهم
ربما فات على قائد الانقلاب أن القوات والمليشيات المدججة بالسلاح الثقيل التي يرسلها لقمع المتظاهرين المناهضين لحكمه الدموي لا تفرق على الإطلاق بين الشباب العزل، بدليل أن هناك عددًا من شهداء انقلاب 25 أكتوبر ينحدرون من ذات المنطقة التي يدعي البرهان أنه يمثلها، فمدينة شندي احتسبت ابنها الطبيب الخلوق محمد عبد الرحيم “السعودي” الذي سقط برصاص العسكر في أول يوم للانقلاب، كما ودّعت منطقة المغاوير في مطلع يناير/كانون الثاني الماضي ابنها الصبي “ساري مأمون أحمد يوسف” صاحب الـ17 عامًا الذي قنصه رصاص عسكر البرهان في الرأس، ولعل البرهان نسي أيضًا أن الزعيم الروحي للسجادة القادرية في كدباس، الشيخ محمد حاج حمد الجعلي، حملّه كامل المسؤولية عن مقتل ابن عائلته محمد يوسف إسماعيل الذي كان أحد ضحايا مليونية 30 يناير/كانون الثاني في الخرطوم.
كانت تلك مجرد أمثلة فقط لضحايا الحملة العنيفة التي يشنها قادة الانقلاب على المتظاهرين بلا استثناء، فرصاص العسكر لا يفرق بين الثوار على أساس عرقي أو مناطقي، كما يحاول البرهان وحميدتي تصدير خطاب العنصرية والجهوية وإغراق البلاد في حمام دم وصولًا إلى سياسة الأرض المحروقة من أجل الإفلات من المحاسبة.
مدرعات حمديتي في دارفور!
قبل أيام قليلة نفّذ قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) زيارة إلى قاعدة عسكرية لقواته في منطقة الزرق التي تقع جغرافيًا بولاية شمال دارفور.
حمديتي الذي أقام لأكثر من شهر في دارفور، أثار الجدل بإعلانه من القاعدة عن امتلاكه “سلاح مدرعات” وأن قائد المدرعات في الجيش السوداني يتبع للدعم السريع، القوات التي تأتمر بأمر حمديتي وعائلته.
أثارت تلك التصريحات سيلًا من التكهنات عن نوايا الرجل الثاني في الانقلاب الذي بقي في دارفور منذ منتصف يونيو/ حزيران الماضي، وادعى من قبل أنه سيبقى فيها لثلاثة أشهر لبسط الأمن، بينما هدفه الحقيقي هو تحقيق المخطط المتفق عليه مع قادة الحركات المسلحة بجعل دارفور قاعدة شعبية له وصولًا إلى تحريض أهلها على التمرد في حال سقوط الانقلاب.
مقطع الفيديو الذي تم تداوله لتصريحات حمديتي الأخيرة يمكن ملاحظة أنه يتكون من جزئين: مخاطبة حميدتي + صور للطابور وللآليات العسكرية، بهدف الإشارة إلى أنها تتبع لسلاح المدرعات بالقوات المسلحة، انتهى بها المطاف إلى منطقة الزرق عام 2017 على خلفية حملة لجمع السلاح وتقنيين السيارات الواردة عبر الحدود البرية، وكانت الحملة قد استندت إلى قرار من الرئيس المخلوع عمر البشير، ومنذ ذلك التاريخ لم تقم قوات حمديتي بإعادة المدرعات إلى القوات المسلحة السودانية، وفق ما ذكرت منصة “مونتي كاروو” السودانية المتخصصة في التسريبات العسكرية.
تحالفات تحسبًا لمواجهة مرتقبة
يرى الكاتب محمد بدوي أن التسريبات التى نشرها عمدًا من زيارة حميدتى لقاعدة الزرق وملكية قواته للمدرعات العسكرية لا تخرج من سياق الصراع بين المكون العسكري الذي يسيطر على السلطة في الفترة الانتقالية، ويضيف الكاتب أن الاستعراض العسكري في أثناء الزيارة قصد به إرسال رسالة على غرار استعراض القوة العسكرية كما فعلت الحركات المسلحة عقب التوقيع على اتفاق جوبا، وأن ذلك يلفت الانتباه إلى التحالفات التي تسند أطراف الصراع، والسيناريوهات المحتملة في حال وصول الأمر إلى مرحلة المواجهة.
فعلى الرغم من التصريحات المتتالية التي تصدر عن قائد الانقلاب عبد الفتاح البرهان بأن العلاقة بين الجيش والدعم السريع “سمن على عسل”، فإن مساعدة وزير الخارجية الأمريكية للشؤون الإفريقية مولي في، تحدثت خلال زيارتها للسودان في يونيو/حزيران الماضي، عن قلق بلادها من انشقاق وشيك بين الجيش السوداني والدعم السريع، قد ينتج عنه انفجار الأوضاع في البلاد.
منذ انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول كان البرهان يدعي أنه “رئيس مجلس السيادة” لكل الشعب السوداني، فإذا به يتحدث خلال عطلة العيد وكأنه مجرد ناظر قبيلة يخاطب أهله وعشيرته ليُحيي فيهم روح العصبية والجهوية، بينما كان شريكه في الانقلاب حميدتي، يزعم أن قائد سلاح المدرعات في عموم البلاد يتبع لقوات الدعم السريع المملوكة لعائلة حمديتي.
إنها إذًا سياسة الأرض المحروقة: إشعال الحرب الأهلية وتأجيج خطاب الكراهية، وقد يكون هناك مخطط لقادة الانقلاب “البرهان وحمديتي وعناصر نظام البشير والحركات المسلحة” لفصل أطراف السودان مثل دارفور والنيل الأزرق والبحر الأحمر إذا ما سقط الانقلاب، لأجل الإفلات من العقاب جراء الجرائم المروعة التي ارتكبت قبل وبعد انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول.
ما العمل؟
قد يكون السؤال الذي يتبادر إلى الذهن: ما العمل لتجنب هذا السيناريو الوشيك؟ كثُر الحديث في الآونة الأخيرة عن “وحدة قوى الثورة السودانية” من دون تحقيق تقدم واضح، ذلك أن القوى المدنية المناهضة للانقلاب تتكون من تكتلين أساسيين: الأول هدفه التغيير الجذري الذي ينادي بحزمة إجراءات من بينها إلغاء اتفاق سلام جوبا، وتفكيك التمكين و”الإسقاط الكامل للانقلاب”، هذه الرؤية تتبناها لجان المقاومة وتجمع المهنيين بالإضافة إلى الحزب الشيوعي السوداني.
التكتل الثاني: يتكون من تحالف قوى الحرية والتغيير، يتبنى رؤية ناعمة تقوم على “إنهاء الانقلاب” بدل إسقاطه، وليس لديه مانع من الوصول إلى توافق مع قادة الحركات المسلحة التي دعمت الانقلاب، كما فعل حزب الأمة القومي باجتماعه مع قيادات الجبهة الثورية، الخطوة التي عرّضت الحزب لانتقادات لاذعة.
لكن كلا التكتلين رفض بشدة الخطاب الذي أدلى به قائد الانقلاب في مطلع الشهر الحاليّ، الذي أعلن فيه عن انسحاب الجيش من المشهد السياسي، وتشكيل ما أسماه “المجلس الأعلى للقوات المسلحة”، وهو ما عدته القوى المناهضة للانقلاب مجرد مناورة من البرهان يسعى فيها إلى تمكين مجلسه العسكري من حكم البلاد، مع حكومة صورية تكون مجرد واجهة للجنرالات الخمس.
الرفض الكامل لبيان البرهان يمكن أن يشكل بالفعل نقطة تفاهم والتقاء بين القوى الثورية المناهضة للانقلاب، فمن الواضح أنه لا يوجد خلاف كبير بين التكتلين على الأهداف الأساسية المتمثلة في تحقيق حكومة مدنية خالصة، وإبعاد العسكر عن المشهد السياسي تمامًا، إلى جانب محاسبة المتورطين في الانتهاكات والجرائم، وإبعاد عناصر نظام البشير الذين أعادهم البرهان مرة أخرى بعد الانقلاب.
الحل يمكن أن يكون فيما تبقى من فترة انتقالية لا تتجاوز مدتها السنتين، تقودها حكومة مكوّنة من كفاءات وطنية مشهود لها بالأمانة والنزاهة وعدم الارتهان لدول الجوار والأحزاب والحركات، ولم يثبت أن شغل أحدها منصبًا في عهد البشير، وأن يكون رئيس وزرائها ذا شخصية قوية، يتمتع بصلاحيات تنفيذية كاملة على كل الوزارات والهيئات والمفوضيات والأجهزة الأمنية والشرطية والعسكرية.
الصراعات القبلية الجارية في مناطق السودان المختلفة، مجرد انعكاس للخلافات والفتن التي يشعلها ويؤججها قادة الانقلاب، ويُخشى أن يتفكك السودان، إذا لم تتوحد القوى المناهضة للحكم العسكري
تشكيل الجيش الوطني الموحد سيظل العقبة الرئيسية التي تواجه القوى الثورية المناهضة للانقلاب مع قادة الحركات المسلحة الذين أطلقوا على أنفسهم اسم “التوافق الوطني”، وقد هددوا بالفعل بإشعال الحروب في حال تم استبعادهم من المناصب التي وصلوا إليها بفضل ثورة ديسمبر/كانون الأول السلمية ضد نظام البشير، إذ كانوا يقاتلون النظام لأكثر من 20 عامًا من دون أن يحققوا أي هدف.
أما قوات الدعم السريع المملوكة لمحمد حمدان دقلو فقد ضاق الخناق عليها داخليًا، وسيضيق خارجيًا بشكل أكبر في الفترة المقبلة، إذ مرر مجلس النواب الأمريكي مؤخرًا مشروع “قانون مكافحة الأنشطة الروسية الخبيثة في إفريقيا” بأغلبية كبيرة من الحزبين 419 مقابل 9، ومن المقرر أن يوافق عليه مجلس الشيوخ ليصبح قانونًا قريبًا.
يُوجه القانون الحكومة الأمريكية بمحاسبة الحكومات والكيانات الإفريقية والمسؤولين الأفارقة المتواطئين في مساعدة “الأنشطة الروسية الخبيثة”، وهو ما يشمل قوات الدعم السريع المرتبطة بمرتزقة فاغنر، حيث زار حمديتي موسكو في مارس/آذار الماضي ومكث فيها عدة أيام.
أخيرًا، إن الصراعات القبلية الجارية في مناطق السودان المختلفة، لهي مجرد انعكاس للخلافات والفتن التي يشعلها ويؤججها قادة الانقلاب، ويُخشى أن يتفكك السودان، إذا لم تتوحد القوى المناهضة للحكم العسكري، حتى لا تضيع الثورة التي شهد العالم كله بسلمية شبابها وتضحياتهم وتصميمهم على أهدافهم رغم كل أنواع القمع التي مارستها عليهم الطغمة الحاكمة.