تعمل فرنسا جاهدة على صياغة إستراتيجية جديدة لإعادة الانتشار العسكري في منطقة الساحل والصحراء بعد قرار انسحابها من مالي وتراجع تحالفاتها في مستعمراتها السابقة في تلك المنطقة المشتعلة، وسترتكز باريس هذه المرة على النيجر بعد أن فتح الرئيس محمد بازوم أبواب بلاده للجنود الفرنسيين رغم الانتهاكات الكثيرة المرتكبة بحق بلاده وشعبه.
لكن ما الذي دفع بازوم لاتخاذ هذا القرار، خاصة أن دوار الجوار في الفترة الأخيرة تحاول النأي بنفسها عن فرنسا وتسعى إلى إقامة جدار فصل بينها وبين باريس؟ وهل يأمن بازوم المظاهرات المرتقبة ضد الوجود الفرنسي في النيجر؟
انتهاكات متكررة
في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بينما تجمع المتظاهرون في بلدة تيرا في منطقة تيلابيري بالنيجر، أقاموا حواجز في محاولة لعرقلة قافلة عسكرية من 90 شاحنة كانت تهدف إلى إمداد القواعد الفرنسية في الساحل، قتل الجيش الفرنسي 3 أشخاص وجرح أكثر من 10 آخرين بينهم إصابات خطيرة.
إلى الآن لم تُعلن فرنسا مسؤوليتها عن الحادثة ولم تعتذر للضحايا رغم أن كل الأدلة تشير إلى تورطها في قتل هؤلاء المتظاهرين الذين خرجوا للشارع احتجاجًا على الوجود العسكري الفرنسي ببلادهم.
عملية نهب مستمرة منذ نصف قرن لليورانيوم في النيجر جعلت فرنسا ثالث قوة نووية عالمية، ورفض متواصل من الحكومات الفرنسية المتعاقبة لمراجعة الاتفاقيات التي تمنحها يورانيوم النيجر بأقل من عشر قيمته pic.twitter.com/1m6uOf1q72
— مجلة ميم (@MeemMagazine) January 11, 2021
جريمة قتل هؤلاء المدنيين لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة في سجل انتهاكات فرنسا بحق النيجر وشعبها، إذ يُتهم الجنود الفرنسيون أيضًا بنقل أسلحة إلى جماعات جهادية تزرع الرعب منذ سنوات في البلاد رغم ادعاء خوض حرب ضدّها.
تعد هذه الجريمة قطرة في بحر جرائم فرنسا بحق النيجر، فقد رعت باريس انقلابًا عسكريًا ضد الرئيس النيجري الأسبق حماني ديوري في أبريل/نيسان 1974 قاده الجنرال سيني كونتشي بعد أيام قليلة من مطالبة ديوري بزيادة حصة دولة النيجر من عائدات اليورانيوم التي تستخرجها الشركات الفرنسية من بلاده.
رغم كل هذه الانتهاكات، قرر رئيس النيجر محمد بازوم فتح أبواب بلاده للجنود الفرنسيين، لتصبح النيجر بذلك مركزًا للقوات الفرنسية في منطقة الساحل
لم تنته مكائد فرنسا عند هذا الحد، إذ دبّرت انقلابًا عسكريًا في فبراير/شباط 2010 أطاح بالرئيس ممادو طانجا الذي تجرّأ على إعادة التفاوض مع “أريفا” بشأن اليورانيوم، وفتح الاستثمار فيه أمام الشركات الأجنبية ومنح عدة تراخيص لشركات صينية وهندية وكندية.
بعد الإطاحة بطانجا وطموحاته التحررية، نصّبت باريس محله صديقها الوفي محمد إيسوفو المهندس والإطار السابق في “أريفا النيجر”، حتى يحمي مصالح الشركة الأم ومن خلفها فرنسا، ويضع حدًا للتغلغل الصيني في هذا البلد الإفريقي الغني بالثروات.
خروج مظاهرات ضد التواجد الفرسي وعملية برخان ، والحكومة المدعومة من فرنسا ، مشيرين إلى أن المذبحة الأخيرة في حدود بين نيجر و مالي هم المتسببون فيها. pic.twitter.com/jnNGg6xjW3
— ابوبكر كوكوني B.KOKONE (@bakre_kokone) December 16, 2019
قتلت المدنيين وسلحت المتمردين وأطاحت بالرؤساء وعينت أصدقاءها، ونهبت أيضًا ثروات البلاد، حيث تستحوذ شركة “أريفا” الفرنسية على مدخرات النيجر من اليورانيوم ولا تدفع للدولة النيجرية إلا 150 مليون يورو، بالإضافة إلى 100 مليون يورو على شكل ضرائب، وهو ما يمثل نسبة 5.5% فقط من اليورانيوم المنتج.
وتحتل النيجر المركز الثاني عالميًا بعد كازاخستان في إنتاج اليورانيوم، ومع ذلك فهي الدولة الأفقر والأكثر هشاشة على المستوى العالمي وفق معايير الأمم المتحدة، ما يعني وجود خلل كبير بين الإنتاج والبيع والجهات المستفيدة من الثروة.
كما تنهب فرنسا ثروات النيجر من النفط، حيث تمتلك نيامي آبارًا ضخمةً من النفط، والذهب الذي يعد أحد المواد المعدنية الموجودة بكثافة في النيجر، إلى جانب الأحجار الكريمة، وهو ما ساهم في إفقار الشعب وتهميش الدولة.
بازوم يفتح أبواب بلاده للجنود الفرنسيين رغم الانتهاكات
رغم كل هذه الانتهاكات، قرّر رئيس النيجر محمد بازوم فتح أبواب بلاده للجنود الفرنسيين، لتصبح النيجر بذلك مركزًا للقوات الفرنسية في منطقة الساحل وذلك بعد أن قررت باريس الانسحاب من باماكو نتيجة تنامي مظاهر العداء تجاهها.
ومن المرتقب أن تدعم باريس، في ظل إستراتيجية جديدة يتم صياغتها حاليًّا، وجودها العسكري في النيجر، ويتمركز حاليًّا قرابة ألف جندي في العاصمة نيامي مع ثلاث مقاتلات وست طائرات مسيرة ومروحيات.
وقبل أيام قليلة، قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وهو يخاطب القوات الفرنسية بمناسبة اليوم الوطني: “أريد إعادة التفكير في جميع أوضاعنا العسكرية في القارة الإفريقية”، داعيًا وزراءه وقادة الجيش للعمل على ذلك.
قال ماكرون: “طلبت من الوزراء ورئيس أركان الدفاع إعادة التفكير في جميع ترتيباتنا بشأن القارة الإفريقية بحلول الخريف”، وأضاف: “إنها ضرورة إستراتيجية لأنه يجب أن يكون لدينا قوات أقوى وأقل تعرضًا للخطر، وأن ننجح في بناء علاقة جيدة أقوى مع الجيوش الإفريقية على الأمد الطويل”.
لا يُعدّ هذا الاستياء ضد القوة الاستعمارية السابقة جديدًا، إذ سبق أن شهدت نيامي عاصمة النيجر مظاهرات طالبت برحيل فرنسا من البلاد
ضمن هذه الإستراتيجية، توجه مسؤولون فرنسيون إلى النيجر الجمعة الماضية، وأكد وزيرا الخارجية والدفاع الفرنسيان رغبتهما في تعميق شراكة باريس الرئيسية مع النيجر على المستويين الاقتصادي والعسكري.
من المرتقب أن تصبح النيجر الشريك المركزي لباريس في منطقة الساحل، وذلك بعد أن تراجع حضور فرنسا في باقي دول الساحل على غرار مالي وتشاد وبوركينافاسو حيث تنامت مظاهر رفض الوجود الفرنسي هناك.
بازوم يبحث عن ضمان البقاء في السلطة
يقول مسؤولو النيجر إن الهدف من وراء فتح أبواب بلادهم للجنود الفرنسيين الذين تم طردهم من مالي، هو التوقي من الإرهاب واستباق عمليات إرهابية مرتقبة تستهدف البلاد، إذ لا يستطيع جيش النيجر التصدي لهذه الجماعات المسلحة بمفرده.
وغالبًا ما تتعرض النيجر إلى هجمات إرهابية، راح ضحيتها المئات، كما أدت هذه الهجمات الإرهابية المتواصلة إلى نزوح 313 ألف شخص خلال السنوات الثلاثة الماضية وفق الأمم المتحدة، كما اضطر 235 ألف إلى اللجوء لدول الجوار، وأغلقت أكثر من 300 مدرسة بسبب الهجمات.
?️فرنسا واستراتيجيتها الجديدة في الساحل.
بعد فشل عملية برخان …
كل ما اغلقت قاعدة عسكرية في مالي أعادت غرسها بنفس الطريقة في النيجر….
النيجر سيصبح في الأيام القادمة مخبر فرنسا البرخاني الجديد…يجب ضربه قبل سقيه مادامت عملية الغرس قد نجحت إلى حدا ما حسب تقاريرهم….#الجزائر
— ?Zahra Yassamine? (@YassamineZahra) July 17, 2022
لكن ليس هذا السبب الوحيد لاستقدام الفرنسيين، فالسبب الأبرز لمحمد بازوم هو المحافظة على السلطة، فهو يرى ضرورة أن تدعمه فرنسا حتى يبقى في السلطة لأطول وقت ممكن، ذلك أن باريس تتحكم في رؤساء النيجر منذ الاستقلال في ستينيات القرن الماضي.
وغالبا ما يُعبر بازوم الذي تقلد مفاتيح الحكم في أبريل/نيسان 2021 كأول رئيس عربي للنيجر، عن امتنانه لفرنسا وشكره لها على ما “قدمته لمنطقة الساحل”، ودائمًا ما يبرّر سياسات باريس في المنطقة وهو ما أثار حفيظة العديد من سكان النيجر.
مظاهرات مرتقبة
في حال ضاعفت فرنسا وجودها العسكري في النيجر، فإن هذه الأخيرة ستشهد مظاهرات واحتجاجات مناهضة لفرنسا كتلك التي عرفتها مالي وتشاد وبوركينافوسو في وقت سابق، ذلك أن فرنسا لم يعد مرغوبًا فيها بدول الساحل.
لا يُعدّ هذا الاستياء ضد القوة الاستعمارية السابقة جديدًا، فقد سبق أن شهدت نيامي عاصمة النيجر مظاهرات طالبت برحيل فرنسا من البلاد ومنطقة الساحل ككل، حيث انتشرت موجة من الاستياء ضد فرنسا في دول المنطقة، في ظل تنامي خطر الإرهاب ومواصلة باريس نهب الثروات وخروج مناطق بأكملها عن سلطة الدولة.
ما حدث في العديد من الدول الافريقية و خاصة دول الساحل انتقل الى دولة #النيجر الشقيقة و بدأت مظاهرات لطرد #فرنسا …
لحقهم الموس للعظم ?
— إسكندر ?? (@Iskander21358) November 27, 2021
سئم الأهالي في منطقة الساحل فرنسا، ذلك أنها لم تفِ بوعودها، فمنذ سنة 2013 ولم تتمكن بعد من القضاء على مجموعات صغيرة من المسلحين، بل العكس ما حصل، فقد ازداد انتشار تلك الجماعات وازداد عددها أكثر فأكثر.
يذكر أن الوجود العسكري الفرنسي في النيجر ليس حديثًا، بل يمتد لعقود طويلة، لكن إعادة باريس نشر قواتها المنسحبة من مالي، إلى مناطق مختلفة بينها النيجر، من شأنه أن يلفت انتباه السكان المحليين، ويزيد درجة العداء لفرنسا.
مع ذلك، يأمل محمد بازوم وحلفاؤه الفرنسيين في احتواء هذه المظاهرات، لكن من الصعب عليهم ذلك، فالشعوب الإفريقية تعرف حراكًا كبيرًا، كما أن العديد من الدول الإقليمية تعمل على تأجيج هذا الرفض حتى تحلّ محل القوات الفرنسية هناك.