شكّلت الثورة السورية فرصة تاريخية فريدة لانبثاق بعض المكونات العرقية إلى المشهد السياسي السوري، بعد تغييب ممنهج اعتمده حزب البعث منذ وصوله إلى السلطة بحقّ مختلف مكونات المجتمع السوري، فكانت الثورة منعطفًا فارقًا استثمرت فيه تلك المكونات للتعبير عن نفسها ووجودها السياسي والتنظيمي، مستغلة ضعف مركزية الدولة وحالة الفوضى العارمة التي صبغت الساحة السورية، وهو ما ظهر تباعًا على شكل حركات ومشاريع وأحزاب سياسية ناجزة ملأت الحيز السياسي السوري، وزادته تشعُّبًا وتعقيدًا ضمن إطاره المحلي والإقليمي والدولي.
وتُعتبر تجربة التنظيمات السياسية الكردية المنبثقة قبل الثورة السورية، أو التي تشكّلت بناء على متطلبات مرحلة الثورة ونتيجة تفاعل عوامل محلية وإقليمية، جديرة بالاهتمام والمتابعة نظرًا إلى أهمية القضية الكردية وعمق تأثيرها على الإطار الوطني السوري الجامع، وعلى حركية ومسار الحل السياسي السوري.
في ظل تشابك الملف الكردي وارتباطه بملفات أخرى متعلقة بتفاعل العلاقة بين القوى الدولية والإقليمية المنخرطة في الشأن السوري، يتصدّر ملف الحوار الكردي-الكردي قطبا المعادلة الكردية: الحزب الديمقراطي الكردستاني (PYD) والمجلس الوطني الكردي (ENKS)، ما يزيد من تعقيدات المشهد السوري العام.
حيث يحظى هذا الملف بأهمية معتبرة لدى مختلف الفواعل المحلية (نظام الأسد/ قوى الثورة والمعارضة) والدولية/ الإقليمية (الولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا)، نظرًا إلى اختلاف الأهداف الخاصة لكل طرف من الأطراف وتباعُد مصالحها ومقارباتها تجاه الملف السوري عمومًا، والملف الكردي ومناطق شرق الفرات على وجه الخصوص، ما يشكّل عاملًا حاسمًا في سير المحادثات الكردية سلبًا أو إيجابًا.
طغت الخلافات على مسيرة الحركة السياسية الكردية منذ تشكيل أول حزب كردي، الحزب الديمقراطي الكردستاني، عام 1957
تأتي هذه المادة كمحاولة للوقوف على مسار العلاقة بين الأحزاب الكردية وإبراز أهم نقاط الخلاف بينها، والتي تشكّل عائقًا أمام دخولها أي محادثات مستقبلية تنهي حالة التشرذم والتفرُّق الكردي، على أن نكمل الحديث في مادة لاحقة عن مستقبل المحادثات الكردية-الكردية في ظل تطورات الوضع في سوريا والمنطقة، وظهور مؤشرات تغيُّر محتمَل لقواعد لعبة الاشتباك بين الفواعل الدولية والإقليمية المنخرطة، ما سيكون له أصداء محتملة على ملف الحوار الكردي-الكردي.
الخلافات ديدن الأحزاب الكردية
طغت الخلافات على مسيرة الحركة السياسية الكردية منذ تشكيل أول حزب كردي، الحزب الديمقراطي الكردستاني، عام 1957، الذي وضع تحرير وتوحيد كردستان في سُلّم أولوياته الاستراتيجية، ليبدأ مسلسل الانشقاقات مع ظهور بعض الخلافات حول أهداف الحزب وشعاراته، بين من تمسّكَ بهدف تحرير وتوحيد كردستان، ومن تراجع عن هذا الهدف مكتفيًا بالمطالبة ببعض الحقوق الثقافية والسياسية للأكراد السوريين، والتأكيد على الصبغة الوطنية السورية للحزب الكردي.
وألقت حالة التجاذبات السياسية بين مختلف الأطراف الدولية والإقليمية بظلالها على المشهد الكردي، وعمّقت الخلافات بين مختلف الأحزاب الكردية، ووُظِّفت المسألة الكردية كأداة سياسية بيد تلك الأطراف وحساباتها الخاصة، إذ توسّعت هوّة الانقسامات في صفوف الحركة السياسية الكردية مع جنوح بعض المكونات الكردية إلى تمتين العلاقة والتقارُب مع حزب العمال الكردستاني بعد تأسيسه عام 1978، ودخوله في حرب مفتوحة ضد تركيا عام 1984، فيما أبقت بعض المكونات الأخرى ارتباطها العضوي بالحزب الديمقراطي الكردستاني الذي كان يرأسه مسعود بارزاني المقرّب من أنقرة.
ومع وصول شرارة الثورة السورية عام 2011 إلى الشوارع الكردية، شهد الحراك السياسي الكردي محاولات تشكيل تمثيل سياسي جامع للكرد في سوريا، ينهي حالة التشرذم الممتد منذ ستينيات القرن الماضي، ويجمع الأطراف الكردية في مساحة سياسية مشتركة، تستطيع من خلالها الدخول في مفاوضات مع نظام الأسد أو مع قوى الثورة والمعارضة حول شكل الحكم وموقع المسألة الكردية في سوريا المستقبل.
وتوِّجت هذه الجهود مع الإعلان عن “مبادرة أحزاب الحركة الوطنية الكردية” التي ضمّت معظم الأحزاب الكردية، وانطلقت أساسًا من مطالب تمحورت حول “ضرورة استخدام لغة الحوار، وإزالة المشاريع العنصرية المطبّقة من قبل البعث سابقًا”، ونادت بـ”حل القضية القومية للشعب الكردي حلًّا ديمقراطيًّا عادلًا في إطار وحدة البلاد، بالاعتراف الدستوري بوجوده القومي كمكوّن رئيسي في البلاد”.
لم يدُم هذا التوافق المرحلي طويلًا، حيث بدأت الانقسامات تطال صفوف الحركة الكردية مجددًا، وفرزت واقعًا سياسيًّا هندسَ الواقع السياسي الكردي، وتمَّ اختزال المشهد العام بثنائية حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، الذي شكّل امتدادًا تنظيميًّا وسياسيًّا لحزب العمال الكردستاني (PKK) في سوريا، والمجلس الوطني الكردي، التيار المقرَّب من حكومة إقليم كردستان في العراق ومشروعها، والذي ضمَّ عددًا من الأحزاب الكردية إلى جانب الحراك الشبابي الثوري الكردي من تنسيقيات ومجتمع مدني وشخصيات عامة وفعاليات اجتماعية ومدنية، وانحصر الصراع الكردي-الكردي في سوريا ضمن إطار خلافاتهما وتفاعلات العلاقات بينهما.
تأزّمت الخلافات وازداد التوتر تدريجيًّا مع شروع PYD بإخضاع الشارع الكردي ومحاولة الاستفراد به سياسيًّا وعسكريًّا، وإعادة بناء علاقته مع نظام الأسد عبر نسج خيوط تفاهمات أمنية واتفاقات غير معلَنة، وقمع أحزاب المجلس الوطني الكردي وإضعافها، وإعادة تشكيل المشهد السياسي الكردي المضطرب لتحقيق مقاربته ومشروعه الخاص.
ليعلَن بعد هذا عن مشروع حكم ذاتي في مناطق شمال شرق سوريا، بعد عدة خطوات عملية بدأها بتشكيل مجلس غرب كردستان، مرورًا بالإدارة الذاتية ومن ثم إعلان الفدرالية من طرف واحد معتمدًا نظرية زعيم PKK، عبد الله أوجلان، حول بناء “الأمة الديمقراطية” على شكل الإدارة الذاتية الديمقراطية كنموذج حوكمي وإداري، والابتعاد عن سطوة الدولة القومية والمركزية في عملية الإدارة والدفاع والحكم.
يكمن جوهر الخلاف مع حزب الاتحاد الديمقراطي الذي عمل على تثبيت سلطة الأمر الواقع واستمراره في تطبيق مشروعه السياسي الأيديولوجي عبر الإدارة الذاتية
رغم ازدياد الهوّة السياسية بين الطرفَين، إلا أنهما دخلا في سلسلة من مفاوضات مباشرة، فوقّع الطرفان عدة تفاهمات (هولير 1، هولير 2، دهوك) كان مصيرها جميعًا الفشل، وهو ما يعود في مجمله إلى عدد من الأسباب التي يبدو أنها لا تزال حاضرة في المعادلة الكردية، وقادرة في الوقت نفسه على إفشال أي جهود لتحقيق تفاهُم أو اتفاق مستدام بين الطرفَين مستقبلًا.
ويبدو أن اختلاف الرؤى والأهداف السياسية ودخول الجانبَين ضمن مشاريع سياسية متضاربة، وقف عائقًا أمام الوصول إلى اتفاق شامل مستدام يجمع الفرقاء الأكراد وينهي حالة التفرق والعداء، إذ يمكن القول إن مجمل الخلافات السابقة تمحورت بشكل أساسي حول كيفية تقاسم السلطة وإدارة المناطق الكردية محليًّا.
فمن خلال قراءة مجمَلة للخطاب السياسي للمجلس الوطني الكردي، ومقارنته بالخطاب العام لحزب الاتحاد الديمقراطي ورؤيته السياسية للدولة، نلحظ أن المجلس منذ تأسيسه سارع في المطالبة بـ”اللامركزية السياسية”، التي تعني حكمًا ذاتيًّا رسميًّا في سياق وحدة الأراضي السورية، مناديًا بـ”بناء الدولة الفدرالية ذات النظام الديمقراطي البرلماني التعددي”، منطلقًا من ضرورة بناء توافق وطني مع المعارضة السورية عند اتخاذ أي خطوات إدارية أم سياسية.
وهنا يكمن جوهر الخلاف مع حزب الاتحاد الديمقراطي الذي عمل على تثبيت سلطة الأمر الواقع واستمراره في تطبيق مشروعه السياسي الأيديولوجي عبر الإدارة الذاتية، مع ذهابه بعيدًا في إقصاء المنافسين ورفضه أي تشاركية حقيقية للسلطة، وفرض سيطرته الأمنية والعسكرية على أحزاب المجلس الوطني الكردي وعلى مفاصل الحياة الاجتماعية الكردية، معتمدًا سياسة الاعتقالات والتخوين.
فقد تمَّ نفي الكثير من قادة تلك الأحزاب، والذي كان منهم رئيس المجلس الوطني الكردي إبراهيم برو، عام 2016، ما أدّى إلى إيقاف شبه كامل لنشاط المجلس في سوريا، وذلك بالتوازي مع حالة تشرذم حزبي شلّت قدرة المجلس الوطني الكردي على مجاراة حزب الاتحاد الديمقراطي عسكريًّا وسياسيًّا وتنظيميًّا، في الوقت الذي شهدت الحركية السياسية لحزب الاتحاد الديمقراطي استمرارية وثباتًا وقدرة على تحشيد الأنصار والأتباع وتطوير الوسائل الإدارية والتنظيمية في المؤسسات التي تقبع تحت سيطرته المباشرة.
خاتمة
يرتبط الملف الكردي عمومًا بتغيُّرات خارطة الصراع في سوريا، وتموضُع الفاعلين وحجم تأثيرهم الذي تنامى مع الانخراط المباشر لقوى إقليمية ودولية متعددة عقّدت المشهد السوري العام، وانعكس تأثيرها تدريجيًّا على معادلات المستقبل السياسي والأمني لمنطقة شرق سوريا، التي تحظى بأهمية بالغة على الصعيد الجيوسياسي من حيث غناها بالثروات الباطنية والزراعية وموقعها الجغرافي المحاذي للحدود التركية والعراقية.
وقد جعل هذا من تلك المنطقة ساحة اشتباك للمصالح بين مختلف الفاعلين الدوليين والإقليميين المنخرطين في الشأن السوري، وزاد في الوقت نفسه من أهمية مسار المفاوضات الكردية الذي يحتلّ حيزًا جيدًا ضمن أجندات مختلف الفاعلين المحليين والإقليميين، لما قد تؤثر نتائجه على تموضع تلك الفواعل.
في الوقت ذاته، يعتري مسار الحوار الكردي جملة من الصعوبات التي قد تنسف المسار برمّته، وتعيد العجلة إلى الوراء في تكرار لسيناريوهات ليست ببعيدة، فلا تزال الاصطفافات الإقليمية والتحالفات الخارجية الكردية “المتضادة” تلقي بظلالها على مسار العلاقة بين الطرفَين الكرديَّين في سوريا.
حيث يأتي من جهة تحالف المجلس الوطني الكردي مع حكومة إقليم كردستان العراق، وارتباط PYD بحزب الاتحاد الوطني الكردستاني الذي يتزعّمه جلال طالباني، المنافس لحكومة بارزاني في العراق، ومن جهة أخرى توغُّل حزب العمال الكردستاني أيضًا داخل أروقة مؤسسات “الإدارة الذاتية” وتأثيره المباشر على قراراته الداخلية والخارجية، ومحاولة PKK ربط أي تحرك ميداني وسياسي في سوريا بمشروعه الإقليمي الأوسع وبتفاعلات علاقاته مع المحيط الإقليمي في العراق وتركيا، ما يشكل عائقًا أمام تحقيق تقدُّم ملحوظ في المحادثات الكردية، من حيث معارضة قوى إقليمية مؤثّرة لهذا الارتباط.
ويضع هذا الأمر المسار بأكمله فوق طاولة السجالات والمناكفات السياسية الخارجية وحسابات القوى الدولية (تركيا، روسيا والولايات المتحدة) الخاصة، الأمر الذي لمسناه فعليًّا في تزامن عملية “المخلب التركي” شمالي العراق ضد حزب العمال الكردستاني، مع تنديد “قسد” للعملية التركية ومهاجمتها مكاتب ومقرّات المجلس الوطني الكردي في الوقت التي كانت تبدي فيه مختلف الأطراف استعدادها للدخول في جولة جديدة من المفاوضات، ما يدلُّ على ترابُط الساحتَين العراقية والسورية بالنسبة إلى حزب الاتحاد الديمقراطي ومن خلفه الـ PKK.
إضافة إلى كل ما سبق، يرتبط مستقبل ملف الحوار الكردي-الكردي بتعقيدات العلاقة بين القوى الدولية والإقليمية الفاعلة، وبمدى تأثير هذه القوى على الأطراف الكردية وعلى المشهد السوري العام، وهو ما سنناقشه بشيء من التفصيل في مادة لاحقة.