شكّلت ألحان العود والقانون والمزمار والربابة جسرًا ثقافيًّا متينًا بين حضارات الشرق الأوسط، من بغداد إلى مصر ثم تركيا، حتى أضحت الموسيقى لغة الشعوب ولسانها في وقت السلم والحرب. وللعثمانيين كما العرب باع كبير في الموسيقى والفن، حيث تطورت الموسيقى واندمجت مع الزمن خاصة أثناء الحكمَين العثماني والعباسي، كما لعبت الموسيقى دورًا مهمًّا في علاقات المجتمعات كوسيلة للتفاعل الثقافي، ومن الممكن الحديث عن التفاعلات الموسيقية للثقافات المتقاربة، لا سيما العرب والأتراك، وفي عصر الإمبراطوريات التي حكمت مناطق جغرافية شاسعة كالحكم العثماني للمنطقة.
بدايات الموسيقى العثمانية
اقتبست الموسيقى العثمانية من موسيقى الإمبراطورية الفارسية والساسانية، ومن الثقافة الرومانية البيزنطية التي ازدهرت بين القرنَين الرابع والثاني عشر، وقد حُفظت أنماط تلك الأنواع الموسيقية بسبب كتابة بعض من نصوصها.
ولقد عُرفت الموسيقى خلال العهد العثماني بكونها فنًّا أنتجه كلّ من السلاطين والوزراء وعامّة الشعب، وقد استطاع السلاطين العثمانيون تأليف مقطوعات موسيقية رائعة مزجت بين الشرقي والغربي.
وفي القرنَين الحادي عشر والثاني عشر ظهرت شخصيات متصوفة تركت أثرها الجمالي والثقافي حتى اليوم، من بينها ابن الرومي، ومع نهاية القرن الثالث عشر وفي عصر عثمان الأول الذي وضع حجر الأساس في الخلافة العثمانية، كانت هناك إمبراطورية قريبة تعرف عصرها الذهبي في آسيا الوسطى هي المغولية، والتي كان لها كذلك أثر كبير في كل الفنون التي وصلت إلى إسطنبول.
في تلك الفترة عرفت الموسيقى العثمانية الكلاسيكية، والصوفية منها خاصة، أكثر من 600 مقام، 119 منها جرى التوقُّف عن استخدامها، ويشتهر منها اليوم 20 مقامًا فقط، وكل مقام يتّفق مع حالة صوفية بعينها.
ألّف عبد العزيز على مدار حياته بعضًا من المقطوعات الكلاسيكية جُمعت لاحقًا في ألبوم حمل اسم “الموسيقى الأوروبية في بلاط العثمانيين”
وكان من أبرز استخدامات الموسيقى في العصر العثماني العلاج من الأمراض النفسية، حيث كان هذا نتيجة الإيمان بأنّ كل مقامٍ من المقامات الموسيقية العثمانية يعمل كمرآة تعكس حالة نفسية ومزاجية محدّدة تختلف عن غيره من المقامات الأخرى.
ومن هنا كان العازفون يعزفون مقامات مختلفة حسب حالة كل مريض، فبعضهم كان يتأثّر بمقام الحجاز وآخر بمقام الكرد وغيره بالرست، كذلك تختلف الآلات نفسها بتأثيرها على الحالات النفسية، فكان يمكن للناي أن يحسّن من بعض الحالات النفسية، ووُجدت حالات تتأثّر بالقانون وغيرها بالعود وأخرى بالطبل، وهكذا دواليك.
تعددت أنواع الموسيقى في العصر العثماني، نذكر منها الموسيقى الكلاسيكية والشعبية والصوفية والعسكرية، وفي القرن السادس عشر بدأت الموسيقى العثمانية تصهر كل هذه التأثيرات مع الموسيقى الموجودة أساسًا، ولكنها ظلت موسيقى تتأثر بما حولها من الحضارات والثقافات، إلى أن قارب القرن الثامن عشر على نهايته حيث بدأت معالمها تصبح واضحة وتشكّل وحدة متكاملة معروفة أصولها وفضاءاتها ومبادئها إلى اليوم.
وكان ذلك في عصر سليم الثالث الذي كان هو نفسه يؤلف الموسيقى، بل ربما يكون أحد أشهر المؤلفين الموسيقيين في تلك الحقبة، وكل الرسومات تصوره محاطًا بمغنّي المتصوفة والعازفين، والذي سمح انفتاحه على أوروبا باستيعاب شيء من الموسيقى الأوروبية في تركيا.
كذلك السلطان عبد العزيز الذي عُرف بحبّه للموسيقى أيضًا، لكنه على عكس السلطان سليم الثالث كان ميّالًا إلى الموسيقى الغربية الكلاسيكية أكثر من العثمانية، فسعى إلى دراستها وتعلّمها، وأحبَّ البيانو أكثر من غيره من الآلات، لكنّه في الوقت نفسه كان عازفًا جيدًا للعود والناي.
ألّف عبد العزيز على مدار حياته بعضًا من المقطوعات الكلاسيكية جُمعت لاحقًا في ألبوم حمل اسم “الموسيقى الأوروبية في بلاط العثمانيين”، وقد لاقى قبولًا وإعجابًا واسعَين في كلٍّ من الدولة العثمانية وأوروبا على حد سواء.
التأثير الحاصل بين الموسيقى العربية والعثمانية
لم تبدأ العلاقات العربية-التركية منذ الدولة العثمانية، إذ عاش الأتراك لمئات السنين جيرانًا وأقاربَ مع العرب في الأناضول وكلّ شمال أفريقيا وفي العراق وسوريا وفلسطين ولبنان، وقد تأثَّر المجتمعان ببعضهما في الموسيقى وفي موضوعات أخرى.
نجحت الدولة العثمانية في بناء حضارتها الموسيقية في الشرق الأوسط من خلال التأثير والتأثُّر بالأمم التي وصلت إليها، ويمكننا أن نرى اليوم أيضًا الأمثلة الموسيقية المتبقية من تراكم الحضارة العربية والتركية.
يرجع الأمر إلى العهد العباسي، حينما قام العديد من العلماء والفلاسفة العرب والمسلمين بدراسة الموسيقى والعمل على تطويرها، مستندين بداية إلى النظرية الإغريقية القديمة، قبل أن يظهر فنّ المقامات الذي برعوا وتميّزوا به، وعملَ العثمانيون على إكمال ذلك الاهتمام وتطويره وإضفاء لمساتهم الخاصة.
مع إعلان الدولة التركية ونهاية العثمانية بدأت الموسيقى الكلاسيكية كما عرفها العثمانيون بالاختفاء، لولا بعض المؤلفين الموسيقيين الذين أصرّوا على الحفاظ عليها
ولا يُنسى ذكر تأثير الفنون الإسلامية التي وصلت إلى تركيا من بغداد، فبعد صعود الخلافة العباسية وتوسُّع الإسلام، عرفت المجالات الفنية الكثير من التوسع، مثل الكتابة والعمارة، وكذلك حصل مع الموسيقى التي عرفت فلاسفة اهتمّوا بالكتابة عنها وفيها وعلى رأسهم الفارابي.
لكنّ المختلف في الدول العثمانية أنّ الموسيقى كانت فنًّا أنتجته الدولة تمامًا كما أنتجه شعبها من جميع الأطياف والشرائح، من السلاطين والوزراء والحكّام وحتى عامة الناس والشعب، وما هو جدير بالذكر أيضًا أنّ الموسيقى لم تكن ترفًا أو فنًّا ثانويًّا عند السلاطين العثمانيين، بل كانت علمًا أساسيًّا ينبغي على الدولة الاهتمام به وتطويره.
بدأت الإمبراطورية العثمانية كما هو معروف تنهار مع بداية القرن التاسع عشر، وترافق ذلك مع الانفتاح أكثر وأكثر على الحداثة الأوروبية، وبدأت التقاليد الموسيقية تتغير وفقًا لما يقول المحاضر، فعرفت مجالس السلاطين دخول عازفي الكمان، الآلة التي لم تكن موجودة بشكلها الأوروبي في الموسيقى العثمانية من قبل.
ومع إعلان الدولة التركية ونهاية العثمانية بدأت الموسيقى الكلاسيكية كما عرفها العثمانيون بالاختفاء، لولا بعض المؤلفين الموسيقيين الذين أصرّوا على الحفاظ عليها، وعلى رأسهم الملحّن رؤوف يكته بيه، رغم ذلك تركت الموسيقى العثمانية تأثيرًا كبيرًا على الموسيقى العربية خصوصًا، وأثّرت في البلاد التي سيطرت عليها، وتلك القريبة منها مثلما تأثّرت بها من قبل.
التبادُل الفني بين العرب والأتراك في العصر الحديث
زيارات متعددة كان يتبادلها الفنانون العرب مع الأتراك، وكانت تُقام حفلات بين إسطنبول ودمشق ومصر، فمع دخول القرن التاسع عشر صارت الموسيقى التركية الكلاسيكية هي الذوق المشترَك للإمبراطورية العثمانية، وقُبلت في مدن كبيرة كان العرب يعيشون فيها كأغلبية.
ومن المعروف أن الموسيقى التركية كانت تحظى برواج كبير في مصر وسوريا في القرن التاسع عشر، وبسبب الولع بها كان حكّام مصر يأتون بفنانين من إسطنبول إلى مصر، ويصطحبون أيضًا مشاهير الموسيقيين المصريين إلى إسطنبول.
ولعبت هذه الدعوات دورًا مهمًّا في التفاعل الموسيقي، حيث هناك أيضًا بعض الموسيقيين الذين ذهبوا إلى مصر بدعوة من الخديوي إسماعيل نفسه، وكانت النتيجة المهمة لهذا التفاعل ظهور ما عُرف بـ”الأسلوب المصري” في الموسيقى بإسطنبول.
توجّه أيضًا موسيقيون من دمشق وحلب إلى إسطنبول وأقاموا فيها حفلاتهم، ومن بين هذه الأسماء عازف القانون المهمّ عمر أفندي، الذي ذهب من دمشق إلى إسطنبول في عهد السلطان محمود الثاني، وفي تلك المرحلة كان المعجبون بالقانون قلّة في إسطنبول، إلا أن عمر أفندي جعل القانون شائعًا مرة أخرى في إسطنبول.
كان مثقّفو القاهرة والإسكندرية وحلب ودمشق يتابعون الذوق الموسيقي في إسطنبول
كما أن المغني المصري الشهير يوسف المنيلاوي جاء إلى إسطنبول أيضًا وقدّم إحدى أغنياته أمام السلطان عبد الحميد، فمدحه السلطان ومنحه ميدالية، وجاء إلى إسطنبول كذلك المصري عبده الحامولي، صديق الخديوي إسماعيل، وغنّى أكثر من مرة أمام السلطان عبد الحميد، ويُذكر الحامولي في مصر من بين أسماء الذين جلبوا مقامات وأساليب تركية للموسيقى الكلاسيكية المصرية.
كذلك قدّم الملحّن وعازف الطنبور التركي رفيق فرسان ألحانه في بعض البلاد العربية، وأحيا حفلات موسيقية في مصر عام 1928 وفي العراق عام 1935، كما تلقّى دعوة رسمية من فخري البارودي، نائب دمشق في البرلمان السوري، لتأسيس مدرسة الموسيقى الشرقية في دمشق.
وهناك أيضًا اللبناني وديع صبرا الذي لحّن نشيدًا عثمانيًّا كتب كلماته الشاعرُ التركي توفيق فكرت، كما عمل مديرًا للمدرسة البحرية الموسيقية في إسطنبول، وكان صديقًا مقرّبًا للكاتبة والسياسية التركية خالدة أديب، الذي بدوره لحّن لها مسرحية كتبتها وجعلها أوبرا، وهي أول أوبرا مؤلَّفة من نصّ تركي.
في واقع الأمر، كان مثقّفو القاهرة والإسكندرية وحلب ودمشق يتابعون الذوق الموسيقي في إسطنبول، حتى في أكثر الأوقات السياسية الصعبة للدولة العثمانية، ويجب أن نتذكر في هذا السياق أهمية التكايا الصوفية التي انتشرت في الأراضي العثمانية وكانت مراكز للموسيقى الدينية وغير الدينية، وبالتأكيد سنجد علاقة الموسيقيين الأتراك والعرب بهذه التكايا في قصص حياتهم، وقد أخذت التكايا مكانها في المشهد التاريخي كمراكز مساهِمة في التفاعل الموسيقي.