تستضيف طهران الثلاثاء 19 يوليو/تموز 2022 قمة روسية تركية إيرانية على مستوى الرؤساء لمناقشة العديد من الملفات في وقت تشهد فيه المنطقة سيولة سياسية غير مسبوقة، ما يضفي أهمية نوعية على تلك القمة وإن كانت تأتي في إطار مباحثات مسار أستانة، لبحث التطورات الحاليّة في سوريا.
وبناءً على دعوة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، توجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى العاصمة طهران في ثاني زيارة خارجية له خارج روسيا منذ بدء الحرب ضد أوكرانيا خلال فبراير/شباط الماضي، والأولى في عهد حكومة رئيسي، والخامسة من نوعها للدولة الإسلامية بشكل عام.
واستنادًا إلى الدعوة ذاتها من المقرر أن يرأس الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الإيراني الاجتماع السابع لمجلس التعاون التركي الإيراني رفيع المستوى، بمشاركة لفيف من الوزراء المعنيين، هذا بجانب مناقشة بعض الملفات الإقليمية قبل مشاركتهما بجانب نظيرهما الروسي في النسخة السابعة من القمة الثلاثية لمفاوضات أستانة بشأن الملف السوري.
تستقي القمة جزءًا كبيرًا من قيمتها وأهميتها من الظرف الإقليمي والدولي الحساس الذي تشهده الساحة العالمية، كما أنها تأتي بعد يومين فقط من جولة الرئيس الأمريكي جو بايدن من الشرق الأوسط، التي شملت “إسرائيل” وفلسطين والسعودية، وهي الزيارة التي فُسرت على أنها محاولة أمريكية لتجييش دول المنطقة ضد موسكو والعمل على تقليم أظافرها وتجريدها من أقوى أسلحتها وهو سلاح الطاقة.
سياقات مهمة
تأتي زيارة بوتين وأردوغان لطهران في وقت تشهد فيه الساحة موجة استقطابات قاسية، حيث يكرس المعسكر الغربي جهوده نحو توسيع دائرة حلفائه في الشرق الأوسط من جانب وتفريغ المعسكر الشرقي من نفوذه وتفتيت الجدران الصلبة مع بعض القوى الإقليمية من جانب آخر.
ورغم ميل البعض إلى أن الزيارة لم تكن ردة فعل لجولة بايدن الأخيرة في ضوء الترتيبات المسبقة وجدول الأعمال المحدد سلفًا في إطار استكمال مسار أستانة، فإن مخرجات زيارة الرئيس الأمريكي والملفات التي ضمتها حقيبته ستضفي أهمية أكبر على القمة الثلاثية واللقاءات الثنائية بين قادة الدول الثلاثة، لا سيما بعد الحديث عن ناتو عربي ضد تهديدات إيران والضغط على الرياض لزيادة إنتاجها من النفط لتعويض الإمدادات الروسية.
لا تريد السلطات التركية خوض عمليتها العسكرية في الشمال السوري دون الحصول على ضوء أخضر روسي إيراني نظرًا لتقاطع المصالح بين الأطراف الثلاث في هذا الملف
المستجدات الأخيرة التي فرضت نفسها على الساحة: الحرب الروسية الأوكرانية والعقوبات الغربية المفروضة على موسكو وطهران ومساعي تطويق التمدد الروسي الإيراني إقليميًا وتمدد الناتو شرق أوروبا والتحرشات الاقتصادية والسياسية بين الحين والآخر مع الصين، كل ذلك دفع قوى المعسكر الشرقي لتعزيز العلاقات وبناء لحمة قوية رغم تباين وجهات النظر والمواقف إزاء بعض الملفات.
ومن هنا يأتي هذا الحراك الدبلوماسي في سياق مضاد – سواء كان بقصد أم دون قصد – للتحركات الأمريكية الأوروبية، فيما يبدو وقد اتفق الأطراف المشكلة لهذا المحور (روسيا – الصين – إيران) على منافسة العسكر الغربي سياسيًا واقتصاديًا من خلال بعض الإستراتيجيات الخاصة بتوسيع دائرة التحالف أفقيًا مع تعزيز التعاون فيما بينها رأسيًا، بحانب استهداف مصادر قوة الغرب لا سيما على المستوى الاقتصادي من خلال تقزيم نفوذ الدولار عبر الاستعانة بسياسات مالية ونقدية أخرى، وتوظيف سلاح الطاقة قدر الإمكان.
العملية العسكرية شمال سوريا
تشكل العملية العسكرية التي تنتوي تركيا القيام بها في شمال سوريا، من الحدود التركية لتصل إلى منطقتي منبج وتل رفعت في ريف محافظة حلب، الملف الأبرز على جدول أعمال تلك الزيارة، وذلك بعد التأجيل المتكرر الذي شهدته تلك العملية وفق حسابات سياسية خاصة لأنقرة.
ومن ثم استغل الرئيس التركي الجولة السابعة من مسار أستانة وزيارة بوتين لطهران من أجل مناقشة هذا الملف الحساس خاصة وأن كل من موسكو وطهران كانتا قد تحفظتا قبل ذلك على شن تلك العملية بدعوى أنها ستزيد من التوتر وتزعزع أمن المنطقة وتضع القوتين في موقف حرج أمام حليفها بشار الأسد.
لا تريد السلطات التركية خوض تلك العملية دون الحصول على ضوء أخضر روسي إيراني نظرًا لتقاطع المصالح بين الأطراف الثلاث في هذا الملف، بحسب الباحث في الشؤون التركية في معهد كارنيغي- أوروبا سنان أولغن، الذي لفت إلى أن المنطقتين المستهدفتين تقعان تحت إشراف موسكو، بجانب محاولة أنقرة استخدام المجال الجوي وهو ما يتطلب التنسيق مع الجانب الروسي، هذا بخلاف حضور إيران القوي في مسرح العملية من خلال ميليشياتها المسلحة، ما يحتاج إلى رؤية ثلاثية مشتركة تجنبًا للدخول في صدام جديد بينهما.
إن كان التعاون بين روسيا وإيران ضرورة إستراتيجية خلال السنوات الماضية فإن المستجدات التي شهدتها الساحة خلال العامين الماضيين تحديدًا أعطت دوافع إضافية لتعميق هذا التعاون ليشمل المجالات كافة
ويتفق مع هذا الرأي الباحث في معهد “نيولاينز” نيكولاس هيراس، الذي يرى أن “إيران وروسيا لا تريدان عملية عسكرية تركية أخرى شمال سوريا”، مشيرًا في تصريحاته لوكالة الأنباء الفرنسية إلى “تجهيز إيران لحضور في حلب ومحيطها، ما يثير قلق تركيا، وروسيا (…) تتراجع في سوريا لصالح إيران”.
لا تريد تركيا في هذا التوقيت الصدام مع روسيا وإيران لتشابك الملفات بينهم، وفي المقابل فإن الأخيرتين تتجنبان قدر الإمكان خسارة الحليف التركي كونه حلقة الوصل الوحيدة حاليًا مع المعسكر الغربي، ما يعني ضرورة الإبقاء عليه كوسيط موثوق فيه، الأمر الذي يذهب إلى ترجيح التوصل إلى صيغة مقبولة تسمح لتركيا بالقيام بعمليتها في حدود معينة بما لا تهدد المصالح الروسية الإيرانية وبما لا يعرضها لموقف حرج أمام نظام الأسد.
التحايل على العقوبات الغربية
تشابه كبير بين الموقف الروسي والإيراني فيما يتعلق بالعقوبات المفروضة من المعسكر الغربي التي كان لها تأثيرها الكبير على اقتصاد الدولتين، حيث حاول الغرب طيلة السنوات الماضية تطويق القوتين بحزمة عقوبات مكبلة لأي مسارات تنموية في محاولة لكبح نفوذهما المتمادي في المنطقة.
وعليه فإن بناء موقف موحد ضد تلك العقوبات واستحداث إستراتيجيات وسياسات جديدة للتحايل عليها بما يُبقي على حالة العناد والندية في مواجهة المعسكر الغربي، هدف رئيسي من وراء هذا الحراك الدبلوماسي والزيارات المتبادلة مؤخرًا، وهو ما كشفه بشكل صريح المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف، في مقابلة له مع الإذاعة والتليفزيون الإيرانيين بثت في 18 يوليو/تموز 2022.
وكشف بيكسوف عن إمكانية كل من روسيا وإيران بناء تعاون قوي من أجل تقليل عواقب العقوبات، مضيفًا في مقابلته أن البلدين اعتادا تلك العقوبات منذ عقود، وأنهما كيفا أوضاعهما معها بشكل جيد لتطوير وتحسين رفاهية شعوبهما، مؤكدًا أنهما سيبتعدان بمرور الوقت عن التعامل بالدولار في إطار التعاون الثنائي بينهما.
وإن كان التعاون بين البلدين ضرورة إستراتيجية خلال السنوات الماضية فإن المستجدات التي شهدتها الساحة خلال العامين الماضيين تحديدًا أعطت دوافع إضافية لتعميق هذا التعاون ليشمل كل المجالات: السياسية والعسكرية والاقتصادية والدبلوماسية، بحسب المتحدث باسم الكرملين الذي أكد أن طهران شريك قوي لموسكو التي تعتز بعلاقتها الجيدة والمتطورة معها.
الأمن الغذائي والحرب الأوكرانية
الهزة التي أحدثتها العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا لا شك أنها ستفرض هذا الملف بكل تفاصيله على جدول أعمال الزيارة والقمة الثلاثية، كونها مرتبطة بشكل أو بآخر بالسياسة الغربية التصعيدية ضد موسكو وطهران تحديدًا وإن تباينت دوافع التصعيد بين هذا وذاك.
وعلى رأس التداعيات الكارثية لتلك الحرب تعريض الأمن الغذائي العالمي للخطر، حيث الارتفاع الجنوني في أسعار الحبوب والعجز الناجم عن وقف الإمدادات الروسية الأوكرانية التي تمثل قرابة ثلث إنتاج العالم من تلك السلعة الإستراتيجية، الذي يهدد بحدوث مجاعة لعشرات الملايين من سكان العالم في المقدمة منهم الأفارقة الذين يعتمدون بشكل كبير على إنتاج طرفي الحرب.
وقد لعبت تركيا دور الوسيط لتقليل تداعيات الحرب في هذا الملف الحساس من خلال العمل على الإفراج عن الحبوب الأوكرانية وتصديرها للخارج بعد سيطرة الروس على الموانئ التي كانت تعتمد عليها كييف لنقل إنتاجها الزراعي للخارج، حيث قطعت شوطًا كبيرًا في هذا المسار وسط تفاؤل بشأن الخروج بنتائج إيجابية تخفف نسبيًا من وطأة الأزمة.
قد لا يكون هناك تحالف إستراتيجي بالمعنى التقليدي بين روسيا وإيران، غير أن العقوبات الأمريكية المفروضة على البلدين عززت من حجم ومستوى العلاقات في ضوء لعبة المصالح المتوقع أن تطيل أمد هذا التحالف المؤقت
وكانت إسطنبول قد استضافت الأربعاء 13 يوليو/تموز 2022 جولة مباحثات جديدة شاركت فيها وفود عسكرية روسية أوكرانية مع ممثلين أتراك ومسؤولين من الأمم المتحدة، وسارت الأجواء نحو انفراجة قريبة في ضوء الاتفاق المبدئي الذي أبرمه الحضور على هامش اللقاء الذي عقد في “قصر قلندر”.
وتكثف أنقرة من مساعيها لتذليل العقبات التي تحول دون تنفيذ هذا الاتفاق، التي على رأسها مسألة الألغام البحرية في الموانئ الأوكرانية والتهديدات المتعلقة بالطرق البرية في ظل استمرار المواجهات المسلحة، فضلًا عن التحديات الفنية في مسألة نقل الحبوب عبر السكك الحديدية.
يذكر أن هناك أكثر من 20 مليون طن من الحبوب الأوكرانية عالقة في صوامع ميناء أوديسا من العام الماضي، فيما يتوقع أن يصل إجمالي محصول هذا العام إلى 50 مليون طن آخرين، ما يمثل تهديدًا مباشرًا لتلك الإمدادات الغذائية إذا لم يتم نقلها من مخازنها قبيل حصد المحصول الجديد.
التعاون الروسي الإيراني.. قلق أمريكي
قد لا يكون هناك تحالف إستراتيجي بالمعنى التقليدي بين روسيا وإيران في ظل الخلافات القوية بينهما لا سيما في الملف السوري، إذ صوتت روسيا قبل ذلك لصالح أربعة قرارات ضد إيران في مجلس الأمن الدولي، غير أن العقوبات الأمريكية المفروضة على البلدين عززت من حجم ومستوى العلاقات بين الطرفين في ضوء لعبة المصالح المتوقع أن تطيل أمد هذا التحالف المؤقت.
وعليه فإن منسوب التطور في العلاقات الروسية الإيرانية خلال السنوات الخمسة الماضية يتجاوز أضعاف ما كان عليه طيلة العقود الماضية، في ظل وجود عامل مشترك جديد يتعلق بالخصومة الأمريكية، ومن ثم شهدت العلاقات بين بوتين ورئيسي ومن قبله روحاني خطوات إيجابية نحو التقارب في ظل أجندة البلدين التي تتطلب تعميق وتقوية المعسكر الشرقي مع تنحية الخلافات جانبًا.
وقد ساهمت الحرب الروسية بالتوازي مع التعثر في مسار الاتفاق النووي ومعهما التصعيد الغربي ضد الطرفين في دفع موسكو وطهران لمزيد من التقارب على المسارات كافة، إذ شهدت الأشهر الماضية عشرات الاتفاقيات بين البلدين في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية.
ويثير هذا التقارب لا سيما على المستوى العسكري والحديث عن صفقة طائرات إيرانية مسيرة لموسكو لاستخدامها في الحرب ضد أوكرانيا، حفيظة الأمريكان، فقد عبر منسق الاتصالات الإستراتيجية في مجلس الأمن القومي الأمريكي جون كيربي عن قلقه إزاء التعاون العسكري بين البلدين مؤخرًا، واصفًا لجوء روسيا لإيران للحصول على أسلحة بأنه مؤشر على مدى عزلة البلدين، منوهًا أن إدارة بلاده ستعمل على مواصلة تقديم المساعدات الأمنية والعسكرية للجانب الأوكراني للدفاع عن نفسه في مواجهة التجييش الروسي الذي لا يتوقف منذ بداية الحرب.
وفي المجمل تبقى القمة الثلاثية المنعقدة اليوم في طهران حلقة في مسلسل الاستقطابات المخيم على الأجواء خلال الأشهر الأخيرة، فيما يسعى كل طرف لتحقيق أكبر قدر من المكاسب في ضوء تلك الضبابية والسيولة الإقليمية والدولية، وإن كان ذلك يتوقف على حجم التنازلات المحتمل أن تقدمها كل دولة للحفاظ على تماسك هذا التحالف في مواجهة التصعيد الغربي الذي يبدو أنه سيطول أمده.