كانت المتغيرات في القرن الواحد والعشرين كبيرة، وانعكست بدورها على صناعة السينما في الوطن العربي، والثقافة الجماهيرية التي تتلقي المضمون السينمائي كذلك، بضغط العولمة وانفتاح صناعة السينما العربية وجمهورها على ألوان مختلفة من السينما في الغرب، لذلك تشكّلت سينما نسوية جديدة بقضاياها ورموزها يمكننا أن نتتبّعها في بلاد الشام وعرب شمال أفريقيا، كما لا يمكن إغفال المجال السياسي الحر الذي أتاحته ثورات الربيع العربي عام 2011.
ففي دراسة أجرتها جامعة نورث وسترن، بتكليف من معهد الدوحة للأفلام في قطر، ثبت أن 26% من صانعي الأفلام العرب المستقلين هم من النساء، وفي المغرب وتونس ولبنان 25% من جميع المخرجين الجدد من النساء، وفي مصر أصبح مهرجان القاهرة السينمائي الدولي لعام 2019 أول مهرجان عربي يتعهّد بالتكافؤ بين الجنسَين بنسبة 50-50.
وفي عام 2020 ترشحت المخرجة السورية وعد الخطيب لجائزة الأوسكار عن فيلمها “من أجل سما”، واستطاعت المخرجة نادين لبكي أيضًا أن تترشح للأوسكار بفيلمها “كفرناحوم” عام 2019، وكل هذه الأحداث كان لها دلالتها على سينما القرن الواحد والعشرين العربية.
ومنذ عام 2010، قدّمت مؤسسة الدوحة للأفلام 48% من مِنَحها للنساء، وفي مهرجان أجيال السينمائي عام 2019 كان 56 من بين 97 فيلمًا تمَّ عرضها من قبل النساء، أي أكثر من نصف أفلام المهرجان.
إن تلك الثورة النسائية في السينما العربية قد ساعدتها اتجاهات الأنظمة الحاكمة لمنطقة الشرق الأوسط، في إطار برامجها المتعاونة مع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، والتي تهتم كثيرًا بدعم مجالات المرأة، فتحسّن وضع المرأة العربية إلى حد ما وانعكس ذلك على السينما أيضًا، وربما تدلّ على ذلك حالة النظام المصري الذي يقدّم نفسه كراعٍ للمرأة من خلال الكثير من الفاعليات، حيث الكثير من الأفلام والمسلسلات التي تنتج في عهده تناقش قضايا تمكين المرأة وقضايا التحرش والاغتصاب.
إن اختيارنا لأفلام وأسماء مخرجين ومخرجات بعينهم في هذه المادة لا يعني أن السينما النسوية في الوطن العربي تقتصر على تلك الأسماء والعناوين، ولكنه مجرد محاولة للقيام بمسح شامل قدر الإمكان لحال السينما العربية النسوية.
مصر: سينما نسوية يصنعها الرجال
ربما إلى حد اللحظة لا تعبّر المرأة المصرية عن نفسها وقضاياها في السينما من خلال عدستها كمخرجة إلا فيما ندر، إذ تعدّ أجود الأفلام التي تناولت قضايا المرأة المصرية وتحولات المجتمع والسياسة وانعكاساتها عليها مقدَّمة من خلال رجال، رغم دخول مُخرجات مصريات إلى الصناعة، وتبوُّئهن مكانة ناجحة ورفيعة، مثل المخرجة ساندرا نشأت التي تقدّم العديد من أفلام الحركة والدراما، والمخرجة كاملة أبو ذكري التي تمتلك ما يشبه المشروع النسوي الذي يبرز بوضوح في مسلسلات التليفزيون التي قدمتها، مثل “سجن النساء” و”ذات”.
كان من أبكر الأفلام التي تناولت قضية نسوية جديدة في مصر وجريئة للمرة الأولى، فيلم المخرج مجدي أحمد “أسرار البنات” عام 2001، والذي تناول قصة فتاة في الـ 16 من عمرها تورّطت في علاقة غير شرعية تسبّبت في حملها، ويُبرز الفيلم العلاقات الممزقة داخل الأسرة المصرية، والتي قد تؤدي إلى صناعة حادثة مأساوية مثل تلك الحادثة.
وفي الألفية الجديدة استمرَّ المخرج محمد خان في تبنّي قضايا المرأة من خلال عرض 3 أفلام على الترتيب، هي “بنات وسط البلد”، “في شقة مصر الجديدة” و”فتاة المصنع”، وهي الأفلام التي دائمًا ما تشتبك مع أحلام فتيات الطبقة الوسطى اللواتي يحاولن العيش باستقلالية ومطاردة أحلامهن المختلفة، وما يلاقينه خلال تلك الرحلة.
كان العام 2010 مرصّعًا بـ 3 أفلام مصرية ناقضت وضع المرأة المصرية في ذاك الوقت، وتقاطعات الواقع السياسي المتردي مع الوضع الاجتماعي الأكثر سوءًا، وهي أفلام “بنتين من مصر” للمخرج محمد أمين، “أسماء” لعمرو سلامة و”678″ لمخرجه محمد دياب، وهي أفلام احتلت فيها المرأة الصدارة.
ركزت العديد من الأفلام النسوية المصرية على قضايا العار والاغتصاب، واستطاعت أن تنجح وتمهّد الطريق لعرض أوسع لتلك القضايا في أعمال أخرى.
قدم المخرج عمرو سلامة واحدًا من أنجح أفلامه وهو فيلم “أسماء”، قامت ببطولته هند صبري حيث تقدّم شخصية امرأة تعيش مع والدها وابنتها في عائلة تعاني من الفقر، وتكتشف تلك المرأة أنها مصابة بالإيدز، وبينما تقرر عدم الاستسلام للمرض تجدُ أنها تواجه مجتمعًا ظالمًا وجاهلًا يصرُّ على تهميشها وإساءة معاملتها، والظن فيها أنها أصيبت بهذا المرض لأسباب جنسية.
وكان فيلم “بنتين من مصر” للمخرج محمد أمين يهتمّ بعرض حياة بنتَين من أبناء الطبقة الوسطى الذين يكدحون في المجتمع من أجل الحصول على لقمة عيش تؤمّن لهم استقلالًا إلى حد ما، ولكن لا تبدو حياة الرجل هامشية بالنسبة إلى المرأة في هذا الفيلم، فتتقاطع قصة البنتَين مع قصة شابَّين أحباهما، ويمكننا أن نرصد مصاعب مؤسسة الزواج وفشلها بسبب صعوبة الأوضاع الاقتصادية في عهد حسني مبارك.
أما فيلم “678” فكان اهتمامه ينصبّ على قضية تفجّرت في الرأي العام في ذلك الوقت، وهو عن معاناة المرأة المصرية يوميًّا داخل الأتوبيسات والمواصلات العامة، من خلال تصوير حياة 3 نساء مختلفات.
واحدة منهن موظفة حكومية منخفضة الدخل تتعرض لمضايقات في طريقها للعمل ما يؤثّر على حياتها الزوجية، وأخرى مصمّمة مجوهرات من الطبقة الوسطى تتعرض لمضايقات من مجموعة من الرجال، الأمر الذي يصل إلى زوجها ويجعله غير قادر على التعايش مع ما حدث لها، والأخيرة موظفة تتعرض لمضايقات لفظية يوميًّا وتكون أول مصرية توجّه بلاغًا ضد التحرش، ومن خلال قصتها نجدُ أن قهر صوت الاعتراض يأتي من رجال القانون أنفسهم الممثلين في الشرطة.
عاد المخرج محمد دياب عام 2016 ليقدّم فيلم “اشتباك”، وهو فيلم عن ثورة 25 يناير والاشتباكات اليومية بين المتظاهرين والشرطة، من خلال كفاح شخصية امرأة تقوم ببطولتها نيللي كريم، وتُوِّجت جهود السينما المصرية النسوية حتى الآن في النهاية من خلال فيلم “ريش” لمخرجه عمر الزهيري، وهو الفيلم الذي أثار ضجة كبيرة بداعي الإساءة إلى سمعة مصر، حيث يركّز على حياة امرأة ومعاناتها في أرياف مصر النائية، حين يتحول زوجها في حدث سوريالي إلى دجاجة.
ولكن لا يمكن تجاهل التجربة الهامة لعام 2021، حين ظهر فيلم “سعاد” لمخرجته أيتن أمين الذي يركز على حياة شقيقتَين مراهقتَين من الزقازيق، تنحدران من خلفية محافظة دينية تتناقض مع سعاد المغرمة بالسوشيال ميديا والذكور في مثل سنّها، وتتبع أيتن أمين الكثير من المعضلات الشخصية التي تواجه سعاد وتناقض عالمها اليومي، لتستكشف الصراع الذي يدور داخلها يوميًّا بحساسية كبيرة تعبّر عنها كمراهقة.
الشام والمغرب العربي: الطريق إلى أوسكار وكان
ما يجمع السينما النسوية في الشام وبلدان المغرب العربي أنها استطاعت الترشُّح والوصول إلى المحافل الدولية أكثر من مرة، وتحقيق إنجازات للمرة الأولى للمرأة العربية من خلال جيل رائد من المخرجات الشابات.
مي المصري ونادين لبكي ووعد الخطيب وكوثر بن هنية ومريم توزاني، أسماء عربية من سوريا ولبنان والمغرب وتونس استطاعت أن تتفوق على مخرجين عرب ذكور، والوصول بأفلامهن إلى الترشيحات النهائية للجوائز الأكاديمية.
تمتلك تونس حالة خاصة بالنسبة إلى السينما النسوية، فتلك السينما متمكّنة في المجتمع التونسي لاعتبارات تختلف عن بقية الوطن العربي، ولكن شهدت السينما التونسية ميلاد مخرجات بارعات في العهد الحالي لتلك السينما، بقضايا أكثر معاصرة.
قدّمت نادين لبكي نفسها كمخرجة تهتم بالقضايا النسوية من خلال فيلمها “كارميل” عام 2007، واهتمَّ بعرض حياة 5 نساء في بيروت تدور حياتهن حول صالون تجميل بعيدًا عن النظرات السياسية للواقع في لبنان، ولكن تقترب أكثر من الحياة المعاصرة في لبنان، وتصنع دراما ثرية من بطلاتها ومعضلاتهن الشخصية، وتبرز التضامن الأنثوي من خلال قوة رابطة الصداقة.
ولكن عادت لبكي في فيلمها “هلأ لوين” عام 2011 للاشتباك مع قضية حسّاسة في المجتمع العربي واللبناني، وهي مواقف النساء من الحرب الأهلية التي تدور رحاها ويروح ضحاياها أبناؤهم وأزواجهم بشكل يومي، وكيف تجمع رابطة رفض الحرب تلك النساء وتشكّل موقفهن من خلال ذلك العالم الذكوري الغاشم، واستطاعت لبكي أن تتوّج مسيرتها السينمائية بأن يُرشَّح فيلمها “كفرناحوم” لجائزة الأوسكار كأفضل فيلم أجنبي.
يغلب على السينما العربية النسوية في القرن الواحد والعشرين أنها تركّز على معالجة مواضيع جريئة، أغلبها تتعلق بالأمومة لطفل غير شرعي والاغتصاب
ولا تغيب القضية الفلسطينية عن السينما النسوية، ففي فيلم المخرجة الفلسطينية مي المصري “3000 ليلة” يتمّ تقديم نظرة ثاقبة لعالم السجن في فلسطين، ومحنة تجارب النساء التي غالبًا ما يتم تجاهلها في مناقشات أوسع حول العنف، من خلال قصة المعلمة التي تكتشف أنها حامل ومجبرة على تربية طفلها خلف القضبان الإسرائيلية.
يقدّم الفيلم منظورًا أنثويًّا فريدًا يتصارع مع موضوعات الأمومة والحبس والمهنة، وقد استطاع الفيلم تحقيق 22 جائزة أكاديمية في المهرجانات السينمائية حول العالم.
واستطاعت وعد الخطيب أن تركّز على انعكاسات الحرب الأهلية في سوريا على حياة اللاجئين، من خلال الفيلم الوثائقي “من أجل سما” الذي يعرض قصة صحفية وابنتها التي تحكي لها عن أهوال ما عانته في الحرب، من خلال منظور أمومي يركّز على البطلة المرأة بشقَّيها كامرأة عاملة وكأمّ، وترشّح الفيلم لجائزة الأوسكار.
أما في تونس، استطاعت المخرجة كوثر بن هنية من خلال فيلمها الروائي “على كف عفريت” أن تترشّح لجائزة السعفة الذهبية، من خلال تبنّيها لعرض قصة واقعية لشابة تعرّضت للاغتصاب على شاطئ البحر من طرف رجال الشرطة، تستعيد فيها جانبًا من التطورات التي عرفتها البلاد بعد ثورة الياسمين عام 2011.
ويشتبك الفيلم مع العديد من القضايا الأخلاقية أهمها الابتزاز، حيث يهدد رجال الشرطة المرأة بتهمة الخيانة الزوجية ومتابعتها بمخالفة قانون الأخلاق العامة بتونس، حيث وجودها مع رفيق لها في مكان خالٍ.
وقدمت مريم توزاني فيلمها المغربي “آدم” عام 2019 الذي ينتصر للمرأة وأوجاعها في المغرب، ويعرض لسلوك المجتمع الذي يتسبّب في تلك الأوجاع ويعيد خلقها باستمرار، من خلال تحكيمه لعادات وأعراف تنتصر للذكورية فقط، من خلال امرأة تسقط في الخطيئة التي يراها المجتمع وتنجب ابنًا غير شرعي تسمّيه آدم.
إذًا، يغلب على السينما العربية النسوية في القرن الواحد والعشرين التركيز على معالجة مواضيع جريئة أغلبها تتعلق بالأمومة لطفل غير شرعي والاغتصاب، وتتصدّى بشكل أقوى لأوجُه الكيانات السلطوية السياسية أو الذكورية الاجتماعية، وموقف المرأة من خلال الأحداث السياسية المتفجّرة لمنطقة الشرق الأوسط.