كانت السينما العربية والمصرية بالأخص في بدايتها تقدم أنماطًا جاهزة عن النساء، مثل الراقصة اللعوب في الملاهي أو الزوجة الخائنة أو القوادة، واتّسمت أفلام الأربعينيات بالطابع الميلودرامي الذي تظهر فيه النساء مستضعفات أو مهمشات.
وحين نفتّش عن الصوت النسوي في السينما العربية في القرن العشرين، فإننا نصطدم ببعض القضايا والأفلام، ولكنها لا تشكّل اتجاهًا سينمائيًّا واضحًا يعبّر عن نفسه، ولم يكن هناك مخرجين أصحاب مشروع نسوي واضح إلا فيما ندر، وربما كانت تجارب قليلة جدًّا ولم تَنَل حظها من الشهرة أو التقدير.
ولكن لا تخلو السينما العربية في ذلك الوقت من التعرض لقضايا المرأة، أو تقديم أنموذجات لشخصيات نسوية كفاحية، خصوصًا في الفترة التي تزامنت مع مرحلة ما بعد الاستعمار ومحاولة النهوض والتحرر والتحديث الليبرالي للمجتمعات العربية، خاصة مصر وتونس، والذي لم يخلُ من حوار فيما يتعلق بقضية المرأة.
بعيون الرجال
ربما ما يميز المرحلة الأولى ممّا يمكن أن نطلق عليها سينما تعالج قضايا نسوية، أن الرجال هم الذين كانوا يتبنّون تلك القضايا، حيث لم يكن للمرأة حضور قوي في مجال الإخراج، وإن كان هناك حضور لافت في مجال الإنتاج السينمائي تزعّمته مثلًا آسيا داغر.
ولكن ظهرت في بدايات السينما معالجات لقضايا تبدو تقدمية جدًّا حتى في السينما العربية حاليًّا، على سبيل المثال فيلم “دعاء الكروان” لمخرجه هنري بركات عام 1959، كان يتمركز حول المرأة ويقدم نقدًا صريحًا للبنى الأبوية، في شكل دراما الانتقام الذي يأخذه الفيلم في إحدى قرى الصعيد الذي يتواجد به أسياد وما يشبهون العبيد.
وفي عام 1963 قدّم هنري بركات أيضًا فيلم “الباب المفتوح” عن رواية الكاتبة لطيفة الزيات، وهو الفيلم الذي بحث دور المرأة كفاعل سياسي في المجتمع من خلال نظرتها إلى دورها، وليس من خلال نظرة الرجال إليها.
وبعد سنتَين عاد بركات مرة أخرى إلى معالجة قضية المرأة المصرية في ريف مصر من خلال فيلم “الحرام” عام 1965، والذي يتشابه كثيرًا مع فيلم “دعاء الكروان” في نقده لنفس الأنساق والهياكل الاجتماعية التي تعرّض لها.
وحضرت القضية النسوية في السينما المصرية في بدايتها أيضًا من خلال أعمال المؤلف الروائي وكاتب السيناريو إحسان عبد القدوس، خاصة في أعماله الأولى التي تحوّلت إلى السينما، ومنها “أنا حرة” و”الطريق المسدود” و”لا تطفئ الشمس”، وهي الأفلام التي كانت تبحث قضية المرأة في سياق اجتماعي متفاعل مع الحدث السياسي الأوسع في المجتمع المصري.
وكان لمحمد خان أيضًا حضور خاصّ في السينما من خلال تبنّيه قضايا نسوية يعكسها بعدسته في أفلام مثل “أحلام هند وكاميليا”، والتي يبدو فيها الرجل هامشيًّا في حياة المرأة قياسًا إلى علاقات النساء ببعضهن.
ولكن حين نبحث عن مشروع نسوي واضح ممتد، فإننا نقف عند تجربة المخرجة نادية حمزة، والتي قدّمت أفلامًا بلغت 23 فيلمًا بحثت كثيرًا في العديد من القضايا وموقع المرأة منها في المجتمع، ونظرة واحدة على عناوين تلك الأفلام تمكّننا من الالتفات إلى اهتمام تلك المخرجة بالقضية النسوية ومحاولة أن تقدم إسهامًا معيّنًا في السينما المصرية، ولكن كانت مشكلة أفلام المخرجة نادية حمزة أنها أفلام يطغى عليها الجانب التجاري والكوميدي في بعض الأحيان، ما كان ينزع جدّية المعالجة للقضية التي تهتم بعرضها.
بعيدًا عن مصر
يتقدم ميشيل خليفي بصفته المخرج الفلسطيني الذي أحدث تغييرًا كبيرًا وعميقًا فتحَ الباب للتجديد في عرض القضية الفلسطينية على السينما، ولتتبوّأ مكانتها في المهرجانات العالمية سنويًّا، فبعدما كانت السينما الفلسطينية تعتمد في عرض نفسها على أفلام الكفاح والنضال، رأى ميشيل خليفي أن يعرضها من خلال عرض اليومي الذي يواجه الإنسان الفلسطيني تحت الاحتلال.
وكان فيلمه الأول “الذاكرة الخصبة” عام 1981 يظهر من خلاله التأثير الخانق للاحتلال على النساء الفلسطينيات، والمساحة التي يخلقنها معًا للتأقلم والمقاومة، من خلال بطلتَي الفيلم رومية الأرملة العجوز التي تقطن ضواحي الناصر، وسحر الكاتبة الشابة من رام الله.
يروي الفيلم قصة أوسع من منظور جديد لفلسطين، وتعطي تلك القصة مساحة التفاصيل الممتصّة لحياة هؤلاء النساء، ومأساتهن حيث لا يعترف بهنّ الاحتلال والمجتمع كفلسطينيات، ولا يعطيهن حقوقهن كنساء.
قدم خليفي أفلامًا أخرى تتعرض لقضية المرأة ومعاناتها، سواء تحت احتلال الكيان الصهيوني أو قهرها من خلال الأنظمة الأبوية الراسخة في المجتمع الفلسطيني، كفيلم “عرس الجليل” عام 1987.
في تونس، ظهرت قضايا المرأة من خلال أعمال المخرجات التونسيات، فنقف على فيلم المخرجة نجية بن مبروك “سما” عام 1988، وهو فيلمها الروائي الطويل الأول والتي تعرض فيه المجتمعات التي يسيطر عليها الذكور في موضع تساؤل، من خلال عيون بطلة الفيلم صبرا التي ترفض الالتزام بالتقاليد في متابعة دراستها.
وفيلم “صمت القصر” عام 1994 لمخرجته مفيدة التلاتلي، الذي تقوم هند صبري في مراهقتها ببطولته، هو فيلم نسوي متعدد الجوانب يفحص قصص أبطاله بعدسة الطبقة والدين والجنس من خلال قصة “علياء” التي تعمل خادمة في منزل مع أمها خديجة، وتتحوّل للغناء في ملهى ليلي، ومن خلال ذكريات علياء نجد حياة والدتها التي تعرضت للكثير من الاضطهاد الاقتصادي والجنسي في ظل الأرستقراطية التونسية، بالإضافة إلى أسئلة خاصة بالهوية تعكس قصة الصراع التونسي الأوسع في السياق ما بعد الاستعماري.
في عام 1989 قدّمت المخرجة المغربية فريد بليزيد فيلمها “باب السما مفتوح”، والذي يتتبّع قصة مهاجرة مغربية شابة بعد عودتها من باريس إلى مدينة فاس المغربية حيث تلتقي بشابّة أخرى، ويحكي الفيلم قصة صداقتهما القوية حيث توحّدهما إدارة ملجأ للنساء في مدينة فاس، وهو فيلم لا يقدم نقدًا لاذعًا للمجتمع، ولكنه يعرض قدرة المرأة على إدارة الأعمال والعالم الخاص بها.
تجارب في السينما التسجيلية
لا يمكن التغافل عن تجارب السينما الوثائقية التي أفادت كثيرًا في عرض قضايا المرأة، وهنا يجب أن نعرّج على تجربة المخرجة اللبنانية هايني سرور وما قدمته في فيلمها “ساعة التحرير دقت” عام 1974، وهو الفيلم الذي عُرض في مهرجان كان السينمائي كأول فيلم لامرأة عربية واستطاع المنافسة على جائزة السعفة الذهبية، حيث يتتبّع الفيلم حركة حرب العصابات التي تحاول أن تقيم مدينة فاضلة ديمقراطية ومتحررة ونسوية خالية من الاضطهاد الأبوي والاستعماري، خلال ثورة ظفار ضد سلطنة عمان المدعومة من بريطانيا.
تظهر النساء في فيلم “ساعة التحرير دقت” بصفتهن قادرات على القيام بأشياء قيل عنها منذ زمن طويل إنها مستحيلة وقاصرة على الرجال، مثل إطعام الفقراء وتعطيل الإمبريالية ومعاملة كل شخص بكرامة إنسانية كاملة دون سلطات ووصايا أبوية.
وحين نتحدث عن السينما التسجيلية في الوطن العربي وعلاقتها بقضية المرأة، فلا يمكننا إلا أن نقف عند تجربة رائدة للمخرجة عطيات الأبنودي، التي كانت منذ فيلمها التسجيلي الأول “حصان الطين” عام 1971 تحاول أن تعرض وضع المرأة في المجتمعات النائية داخل المجتمع المصري.
كانت السينما التسجيلية المصرية حتى آواخر الستينيات من القرن العشرين تقدّم أفلامًا تقتصر على الأحداث الهامة والاحتفالات الدينية والوطنية والشعبية، وتقديم الشخصيات القيادية وملاحقة الإنجازات الحكومية.
لقد اهتمّت سينما عطيات الأبنودي بالفقراء والنساء الفقيرات، وقد ظهر ذلك جليًّا في فيلم “الأحلام الممكنة” عام 1982، والذي تظهر فيه شخصية أم سعيد تحمل على كتفَيها أعباء البيت لتساعد ابنتها لتلحق بركب التعليم رغم اعتراض الأب.
وقدمت عطيات أيضًا فيلم “نساء مسؤولات” عام 1994، والذي تدافع فيه عن حقوق المرأة من خلال شخصيات، مثل سناء التي تعمل في مصنع لمشغولات نسائية والمطلّقة مرتَين، وصابرين الكوافيرة التي تعمل لتعيل أبيها المريض وأختها المطلّقة بأولادها، وأم أشرف عاملة الكراج التي هجرها زوجها وتركها وحدها لأطفالها، وتبع هذا الفيلم فيلم “راوية” عام 1995 عن الفتاة التي برعت في صناعة الخزف حتى وصلت إلى معارض دولية، وفيلم “بطلات مصرية” عام 1997 لبنات ونساء في القرى الريفية النائية اللواتي تغلّبن على الأمّية.