ترجمة وتحرير: نون بوست
عندما اعتقل طالب دكتوراه من جامعة واشنطن في القاهرة أثناء إجراء بحث حول القضاء المصري، وعندما طلب من النيابة العامة معرفة التهم الموجهة إليه قيل له إنه متهم بالانتماء إلى جماعة إرهابية ونشر أخبار كاذبة.
في هذا السياق؛ صرح وليد سالم، طالب الدكتوراه البالغ من العمر 42 سنة: “لقد سررتُ للحظة، لأن هذه التهم سخيفة للغاية، ولا يوجد أي دليل على الإطلاق يدينني، ومن السهل جدًا دحضها”، ولكنه اكتشف فيما بعد أنه “بمجرد أن تُنسب إليك هذه التهم، تدخل الصندوق الأسود”، فقد كان سالم محتجزا على الرغم أنه لم يحاكم قط أو يوجه إليه اتهام رسمي بارتكاب جريمة. وبدلًا من ذلك، في كل مرة بلغ فيها الحد الأقصى لفترة الاحتجاز القانوني، مدد المدعي العام سجنه في جلسة استماع استمرت عادةً حوالي 90 ثانية.
في هذا الإطار أوضح سالم: “في الأشهر الخمسة الأولى، تحاول إقناع نفسك بأنها مجرد خمسة أشهر وستمر؛ ولكن بعد كل خمسة أشهر تمر تبدأ في الخوف من الأسوأ الذي ينتظرك”.
كان لقاء الرئيس بايدن مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان يوم الجمعة بمثابة تحول واضح للرئيس، الذي تعهد ذات مرة بنبذ الأمير بسبب فظائع حقوق الإنسان، لكن بايدن سيلتقي مع زعيم عربي آخر في جدة يوم السبت لطالما ندد بسجله في مجال حقوق الإنسان وهو الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
ووفقًا لجماعات حقوقية وباحثين، تحتجز مصر عشرات الآلاف من السجناء السياسيين الذين تضخمت أعدادهم بسبب حملة السيسي الساحقة ضد المعارضة، وعلى الرغم من أن أسلاف السيسي سجنوا الكثير من منتقدي سياساتهم، إلا أنه حملة السيسي اتخذت أبعادًا واسعة النطاق إلى حد كبير من خلال تحويل الإجراء الإداري الروتيني المتمثل في الاحتجاز السابق للمحاكمة إلى المحرك الرئيسي لحملات القمع الجماعي في مصر.
وتعتقل قوات الأمن الأشخاص من الشارع أو من منازلهم، وتخفيهم دون إخطار العائلات أو المحامين، وعندما يظهر المعتقلون في الحجز، يتهمهم الادعاء بنشاط إرهابي ويحتجزونهم لشهور أو سنوات دون الحاجة إلى إثبات التهم الموجهة إليهم في المحكمة.
أدت حملة القمع التي أسفرت عن احتجاز سالم في سنة 2018 إلى القبض على المصريين من العديد من الفئات، واعتبارهم أعداء للدولة حتى لأبسط انتقادات يقدمونها؛ حيث تتعلق إحدى القضايا باعتقال سياسي يفكر في الترشح ضد السيسي؛ ناهيك عن امرأتان في مترو أنفاق القاهرة تشتكيان من ارتفاع الأسعار، ومجند شاب أخر نشر تصميمًا ساخرًا على فيس بوك للسيسي بأذني ميكي ماوس، كما خضع بعض السجناء السياسيين لمحاكمات، وإن كانت روتينية، وفُرضت عليهم عقوبات قاسية.
لكن المحتجزين قبل المحاكمة لا يحصلون على مثل هذه العدالة السريعة؛ ففي محاكم الإرهاب الخاصة؛ حيث تقوم حكومة السيسي بتحويل المعارضين السياسيين، لا توجه السلطات اتهامات رسمية أو تقدم أدلة، وفي كثير من الحالات لا يُسمح للمحتجزين بالدفاع عن أنفسهم قبل حبسهم.
لا توجد سجلات عامة لعدد الأشخاص المحتجزين على ذمة المحاكمة، لكن التحليل الذي أجرته صحيفة نيويورك تايمز لسجلات المحكمة المكتوبة بخط اليد، والتي يحتفظ بها محامو الدفاع المتطوعون بشق الأنفس، يُظهر لأول مرة عدد الأفراد المحتجزين دون محاكمة ويكشف العملية القانونية الدورية التي يمكن أن تبقيهم في براثن السجون إلى أجل غير مسمى.
لتقدير عدد الأشخاص المسجونين، قامت صحيفة نيويورك تايمز بمطابقة الأسماء المكتوبة بخط اليد وأرقام القضايا للأشخاص الذين مثلوا عدة مرات أمام المحكمة، وغالبًا ما استخدمت أسماء بديلة وأرقام حالة مكررة، مما يجعل من المستحيل توثيق سجل مثالي. لكننا استخدمنا برامج مخصصة لفحصها وتدقيق بعناية كل سجل لحساب الأسماء المماثلة.
“كيف يتم احتساب المعتقلين: في الرابط التالي يظهر كيف تم إنشاء أول سجل عام لنظام الاحتجاز السابق للمحاكمة في مصر”.
من المحتمل أن يكون الرقم الإجمالي الحقيقي أكبر من تقديرنا، وهو مجرد لقطة جزئية للنظام؛ حيث تُستبعد تقديرات المحتجزين الذين تم اعتقالهم وإطلاق سراحهم قبل مرور خمسة أشهر، أي المرة الأولى التي ينبغي عليهم المثول فيها أمام المحكمة، كما أنها لا تشمل المصريين الذين حوكموا خارج العاصمة، علاوة على ذلك، لا توجد محاسبة علنية للسجناء الذين وُجدت أسمائهم في دفاتر مراكز الشرطة والمعسكرات أو أولئك الذين اختفوا ببساطة.
في هذا السياق؛ أوضح المحامي الحقوقي خالد علي: “تم اعتقال المزيد والمزيد من الناس العاديين”، مشيرًا إلى أن “السجن السابق للاحتجاز من المفترض أن يمنح السلطات وقتًا للتحقيق في القضايا، ولكن في الواقع، يتم استخدامه كعقاب”.
وحسب تقديرات جماعات حقوق الإنسان، تحتجز مصر 60 ألف سجين سياسي، وهو رقم يشمل معتقلين على ذمة المحاكمة بالإضافة إلى من حوكموا وأدينوا، ومشتبهين بقضايا الإرهاب، بالإضافة إلى متهمين ببساطة بسبب آرائهم السياسية الناقدة. في المقابل، نفت مصر منذ فترة طويلة احتجاز أي محتجزين سياسيين لكن الكثير من المسؤولين أعربوا أن الأشخاص الذين اعتقلوا بتهمة انتقاد السلطات يهددون النظام العام.
في هذا الشأن، أوضح صلاح سلام، العضو السابق في المجلس القومي لحقوق الإنسان المعين من قبل الحكومة المصرية، في مقابلة أنه “حتى الاحتجاج؛ هناك قانون ضده”؛ ويضيف:”لا يمكنني تسمية شخص تآمر على الدولة بأنه سجين سياسي”.
لكن في الأسابيع القليلة الماضية، بدأ بعض المسؤولين في الاعتراف بسجن الأشخاص بسبب آرائهم السياسية، قائلين إنه هذ الإجراء كان ضروريًا لاستعادة الاستقرار بعد اضطرابات ثورة الربيع العربي في مصر سنة 2011.
من جانبه؛ أوضح طارق الخولي، عضو البرلمان، في مقابلة أجريت معه مؤخرًا “هناك أوقات تمر فيها البلاد بفترات عصيبة، مثل فترة الهجمات الإرهابية أو الإصلاحات الاقتصادية، حيث يتعين اتخاذ المزيد من الإجراءات المناسبة”.
في السجن والمحكمة، لم يكن هناك أي ادعاء حول طبيعة الجريمة. وحسب معتقلين سابقين ومحامين، فإن الحراس والقضاة يشيرون بشكل صريح إلى أن المحتجزين غير المرتبطين بجرائم العنف على أنهم سجناء “سياسيون”.
في المقابل؛ يُتهم معظم المعتقلين على ذمة المحاكمة – رسميًّا – بالانضمام إلى الجماعات الإرهابية سواء ارتكبوا جرائم عنف أم لا، مما يسمح للسلطات باعتقال المعارضين المتصورين بذريعة الحفاظ على الأمن العام. في الواقع؛ لا تفرق الحكومة بين متشدد يزرع قنابل ومستخدم فيس بوك يتذمر من ارتفاع الأسعار؛ فكلاهما يوصف بالإرهابي.
ةتوصل فريق بحث مصري يقوم بتعقب نظام العدالة إلى أن حوالي 11700 شخص قد اتُهموا بارتكاب جرائم إرهابية من 2013 إلى 2020، وتقول جماعات حقوقية إن غالبية الاتهامات لم ترتبط بالتطرف العنيف.
قال المدير التنفيذي للمفوضية المصرية للحقوق والحريات التي تمثل السجناء السياسيين، محمد لطفي: “إن هذه الأرقام تبين كيفية فقدان تهمة الإرهاب هذه لأي معنى. الأمر الذي يعد سخيفا وغير منطقي”.
دورة الاعتقال
يضفي الإطار القانوني للحبس الاحتياطي مظهرًا خادعًا للإجراءات القانونية الواجبة؛ حيث تصور المقابلات مع عشرات الأشخاص – بمن فيهم المحتجزون والمعتقلون السابقون وأهاليهم ومحامون ونشطاء وباحثون – نظامًا يقوم فيه المدعون العامون والقضاة بشكل روتيني بتقليل أو تجاهل أي حقوق للمعتقلين.
على أساس الاتهامات الموجهة من قبل النيابة، وخلال الأشهر الخمسة الأولى من الاعتقال، يمكن احتجاز المعتقلين بشكل قانوني لمدة أسبوعين قابلين للتمديد إذا ما قام المدعون بطلب مزيد من الوقت للتحقيق، وهو بالضبط ما يفعله المدعون بالنسبة لمعظم المحتجزين؛ حيث يجددون احتجازهم كل 15 يومًا دون توجيه اتهامات رسمية أو تقديم أدلة.
وبعد خمسة أشهر؛ يحصل المعتقل على جلسة استماع أمام قاضي محكمة الإرهاب، الذي يمكنه تجديد الاحتجاز لمدة 45 يومًا في المرة الواحدة. ومن الناحية النظرية؛ تمنح جلسات الاستماع هذه المعتقلين فرصة أخرى للطعن في احتجازهم. وفي الواقع؛ قال محتجزون ومحامون سابقون إن محاميِّ الدفاع نادرًا ما يحضرون وأن الأدلة لا تُعرض أبدًا.
عادة ما تكون جلسات الاستماع مغلقة أمام الجمهور، حتى بالنسبة لأهالي المعتقلين، ويظهر فيها المدعى عليهم في أقفاص زجاجية مكتظة وعازلة للصوت تحول دون سماع أصواتهم أو سماعهم للأحكام التي تُطلق عليهم.
بعد خمسة أشهر من الإيقاف على ذمة المحكمة، تقدم طالب الدراسات العليا السيد سالم، إلى محكمة الإرهاب؛ حيث انتظر في قفص عازل للصوت مع عشرات المتهمين الآخرين. وعندما نُودي باسمه، ضغط القاضي على زر يسمح بنفاذ الصوت من القفص تاركا له المجال للتحدث، حيث قال: ” سيدي القاضي، أنا مجرد أكاديمي مثلك، ولدي ابنة، من فضلك ضع هذا الأمر في عين الاعتبار”.
وعندما قال محام يمثل السيد سالم وستة متهمين آخرين إن المدعين لم يظهروا أي دليل، وأن الاتهامات واهية ولا أساس لها، قام القاضي بتمديد حبس السيد سالم 45 يومًا أخرى.
إثر حوالي سبعة أشهر من اعتقاله، أُطلق سراحه في كانون الأول/ ديسمبر 2018. ولكنه لا يزال ممنوعًا من السفر، وهو ما يمنعه من رؤية ابنته البالغة من العمر 13 سنة التي تعيش في بولندا مع والدتها؛ حيث قال السيد سالم: “كنت أعرف ما ينتظرني، لكن الأمل كان دائمًا موجودًا”.
لقد ساهم فيروس كورونا في تباعد المسافة بين المحتجزين وفي توفر عدد من جلسات الاستماع العادلة، ويقول المحامون إنه منذ السنة الماضية؛ لجأ المسؤولون إلى نقل بعض المحتجزين إلى غرف أسفل قاعات المحكمة دون تقديمهم أمام قاض، وهي طريقة للوفاء بالمتطلبات الإجرائية لنقلهم إلى المحكمة مع منعهم من تقديم التماس إلى القاضي، ومع توفير بعض الوقت قبل المحاكمة.
وقد وضعت السلطات تدابير مثل احتياطات كوفيد، مستشهدة بأقفاص قاعة المحكمة، وهو ما يقول محامون وجماعات حقوقية أنه هذا التفسير قد يكون أكثر مصداقية لو لم تكن السجون مكتظة بالزنازين، ولو لم تتقاعس السلطات عن توفير معدات الحماية للمحتجزين، ولو لم تمنع العائلات من توفيرها لهم.
ولا تتعدى معظم الجلسات سوى بضع دقائق قبل أن يوقع القاضي على أوامر التجديد. وفي هذا السياق، قال خالد البلشي، رئيس تحرير إحدى وسائل الإعلام التي لا تلتزم بالخط الحكومي “درب”: “لا يمت هذا الأمر برمته للعدالة بصلة. وجميعنا نلعب دورًا في هذه التمثيلية”.
يمكن تجديد فترات 45 يومًا بشكل متكرر لمدة تصل إلى سنتين. وبعد ذلك، يشترط القانون إطلاق سراح المعتقل، رغم أنه أمر نادر الحدوث؛ ففي كثير من الحالات، يرفع المدعون قضية جديدة للبدء بالعمل بمؤقت السنتين من جديد.
ووفقا لمركز الشفافية المصري للأبحاث والتوثيق وإدارة البيانات، فقد تم تحويل ما لا يقل عن 1764 محتجزًا إلى قضايا جديدة من كانون الثاني/ يناير 2018 إلى كانوت الأول/ ديسمبر 2021؛ حيث وجد المركز أنه بالنسبة لأكثر من الربع، كانت هذه المرة الثانية على الأقل التي يُحولون فيها إلى قضايا جديدة، أما بالنسبة للبعض، فقد وصل الأمر إلى سبع مرات.
أثناء قضاء إجازة عائلية على الساحل الشمالي لمصر في سنة 2017، قُبض على عُلا القرضاوي، 56 سنة، وزوجها حسام خلف، 59 سنة. واتُهم الزوجان اللذان يحملان إقامة دائمة في الولايات المتحدة، بالتورط مع جماعة إرهابية، ولكن يبدو أن الجريمة الحقيقية هي صلتهم بأحد المنتقدين البارزين للانقلاب العسكري الذي أوصل السيسي إلى السلطة في سنة 2013.
وبعد سنتين في السجن- السجن الانفرادي بالنسبة للسيدة القرضاوي- صدرت أوامر بالإفراج عنهما. ولكن عوضًا عن إعادتهم إلى الوطن، نُقلوا إلى النيابة العامة التي اتهمتهم بارتكاب جرائم جديدة أثناء وجودهم في السجن.
وقالت ابنتهما المواطنة الأمريكية، آية خلف: “كنا نخطط لحفل خروجهما. ولكن يبدو الأمر كما لو أن كل ما مرت به قد ذهب هباء. والآن لديهم الحق في احتجازهما مرة أخرى لمدة سنتين متتاليتين”.
وقد اُطلق سراح السيدة القرضاوي أخيرًا في كانون الأول/ ديسمبر 2021 بعد أربع سنوات من الاحتجاز، في حين لا يزال زوجها في السجن، وعلى الرغم من وجود اختلاف بين عقوبة السجن والإيقاف على ذمة المحكمة، إلا أن هذا الأخير غالبًا ما يرقى إلى عقوبة قاسية.
تُسلط شتى أنواع التعذيب الشائعة على السجناء الذين يُحتجزون في سجون مكتظة وقذرة لمدة تصل أحيانًا لسنوات. وغالبا ما يُحرمون من الزوار والفراش والطعام والعلاج الطبي، وتقول جماعات حقوقية إن مئات الأشخاص قد لقوا حتفهم في الحجز في مصر على مدى السنوات الخمس الماضية بسبب الظروف المزرية والانتهاكات والنقص في الرعاية الصحية.
شبكة آخذة في الاتساع
وتقول الحكومة إن أحد أسباب إيقاف الأشخاص لفترات طويلة دون محاكمة هو وجود عدد القضايا الكبير في نظام العدالة، ولا يمكن للمدعين العامين والمحاكم مواكبة هذا العدد الهائل من الأشخاص المُعتقلين، وهو عبء ساهم في ازدياده توسيع مصر لحملتها الأمنية ضد المعارضة.
وقد وعد السيسي، بعد توليه زمام الأمور وبعد أن أطاح الجيش بأول رئيس منتخب ديمقراطيًّا لمصر، بالأمن والازدهار، وهو ما أراده الكثير من المصريين بعد سنوات من الثورة والفوضى والصراع الأهلي، ولكنه استخدم سعيه لتحقيق الاستقرار لتبرير تعميق الاستبداد.
أولًا؛ اعتقلت حكومته أعضاء من جماعة الإخوان المسلمين، الحركة الإسلامية التي تولت الرئاسة قبل أن يتولى السيسي السلطة، محملة إياها مسؤولية هجمات المتشددين التي عصفت بالبلاد. وباعتبارها تشكل تهديدًا سياسيًّا، واستهدفت السلطات أي شخص يشتبه في انتمائه للإخوان وأي شخص شارك في المظاهرات التي يقودونها
بعد ذلك؛ ازداد عدد السياسيين والنشطاء والصحفيين والأكاديميين المعارضين في زنازين الاعتقال؛ حيث قالت جماعة مراقبة النظام القضائي إن قرابة 110 ناشطا و733 إعلاميًّا و453 أكاديميًّا اعتقلوا من 2013 إلى 2020؛ وفي نهاية المطاف، أدى القمع إلى بعثرة المتظاهرين والمواطنين العاديين.
وبحسب تقديرات جماعات حقوقية ومحامين؛ فقد اعتُقل ما لا يقل عن 4 آلاف شخص من بينهم أشخاص فقط لمرورهم عندما اندلعت سلسلة نادرة من المظاهرات والاحتجاجات المناهضة للحكومة في سنة 2019.
وكانت تلك الاعتقالات حجر الأساس لحملة قمع أوسع نطاقًا، سعت فيها السلطات آخذة بعين الاعتبار انتفاضة الربيع العربي التي أطاحت برئيس سابق في سنة 2011، إلى تفادي المزيد من الاضطرابات من خلال اعتقال الأشخاص الذين اعتقدت أنهم قد يكون لديهم أفكار تخريبية.
ففي ميدان التحرير بوسط القاهرة؛ حيث ساعد فيس بوك وتويتر في حشد مئات الآلاف من المتظاهرين سنة 2011، بدأ ضباط الأمن في اعتقال المارة بعد إيقافهم عشوائيًا والبحث في هواتفهم وحساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي عن محتوى سياسي؛ حيث قالت جماعات حقوقية ومحامون إن وحدة مخصصة في وزارة الداخلية كانت تنقّب في وسائل التواصل الاجتماعي بحثًا عن منشورات تنتقد الحكومة، وتحتجز بعض المستخدمين لمجرد الإعجاب بمنشورات الآخرين ونشرها.
كما كانت تقوم الشرطة خلال احتفالات الذكرى السنوية الحساسة سياسيًا مثل تلك التي تحيي ذكرى ثورة 2011، بمداهمات وكمائن لالتقاط الشباب الذي يسير بالقرب من مناطق الاحتجاج الساخنة.
فوفقًا لمركز الشفافية المصري، هناك أكثر من 16 ألف شخص تم احتجازهم أو اعتقالهم أو استدعاؤهم من قبل الأجهزة الأمنية لأسباب سياسية من 2020 إلى 2021، وهو رقم لا يشمل الاعتقالات في شمال سيناء؛ حيث تقاتل الحكومة تمردًا إسلاميًا لا تتاح عنه الكثير من المعلومات.
وعلى الرغم من أن معظمهم ذهب مباشرة إلى الحبس الاحتياطي، إلا أن غالبيتهم لا يظهرون في تقديرات التايمز؛ حيث تم الإفراج عن العديد منهم قبل مرور خمسة أشهر؛ حيث بدأت بياناتنا.
وقد أدت زيادة عدد القضايا إلى زيادة التشويش الذي يواجهه النظام، كما أدت إلى زيادة الدعم المقدم للمحاكم وارتفاع أعداد المسجونين، فعادة ما يعاني قضاة محاكم الإرهاب لإنهاء جدول الأعمال؛ حيث قال محامون إنهم شاهدوا جلسات ظل فيها ما يصل إلى 800 متهم مكدسين في أقفاص زجاجية إلى ما بعد منتصف الليل.
وقال اللواء خالد عكاشة، رئيس المركز المصري للدراسات الإستراتيجية، وهو معهد أبحاث متحالف مع الحكومة، إن التكدس يجعل فترات الانتظار الطويلة قبل المحاكمة “حتمية”.
كما أدت أيضًا إلى موجة بناء للسجون؛ حيث شيدت مصر 60 سجنًا جديدًا منذ ثورة 2011، جميعها تقريبًا في عهد السيسي، وذلك وفقًا لتقارير إخبارية وللشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان ومقرها القاهرة، والتي تم حلّها مؤخرًا بإجبار من المضايقات الحكومية المستمرة.
المفقودين
عندما يختفي الناس في مصر – حيث يأخذهم مسلحون من منازلهم في منتصف الليل، ويتم اعتقالهم من الشارع أثناء سيرهم في وسط القاهرة – لا يتم تخصيص أي مكالمة هاتفية لهم؛ حيث قد تنتظر العائلات شهورًا قبل أن تعلم أن أحبائهم قد دخلوا في مأزق الحبس الاحتياطي، والبعض لا يصلهم أي خبر؛ حيث يذهب الآباء والأشقاء إلى مراكز الشرطة ومكاتب الأمن الوطني، وفي كثير من الأحيان يقوم المسؤولون بإنكار احتجاز أقاربهم ببساطة؛ حيث يقول محامون إن الأمر قد يستغرق أسبوعًا أو أسبوعين حتى يتم نقل المشتبه بهم إلى النيابة في القاهرة لاستجوابهم.
في بعض الأحيان ينتظر المحامون الذين تنبههم العائلات التي تفترض أن أبناءهم قد قبض عليهم؛ وقد طور محامو حقوق الإنسان طريقة بسيطة للتحقق من وجودهم؛ حيث يحملون ورقة بيضاء في جلسات الاستماع مكتوبًا عليها اسم المعتقل بخط اليد، على أمل أن يلوّح أحدهم لمحاميه من قفص المتهمين.
كما يتدخل محامو الدفاع المتطوعون الذين يأتون إلى المحكمة كل يوم لتمثيل محتجزين جدد؛ حيث إن هذه هي الطريقة الوحيدة التي يستطيع بها البعض إخبار عائلاتهم بمكان وجودهم، فقد قال السيد علي، المحامي الحقوقي: “لقد أُلقيت العائلات في حلقة مفرغة من عدم اليقين، لأن أقاربهم ربما يكونون قد ماتوا”، وأضاف قائلًا: “في بعض الأحيان يرغبون في أن يظهروا في النيابة، لأنهم على الأقل سيعرفون بعد ذلك أنهم على قيد الحياة”.
الرد المصري
بعد تعرضها لانتقادات دولية بسبب انتهاكاتها لحقوق الإنسان، وحرصها على استرضاء الرئيس الأمريكي الجديد الذي تعهد “بعدم وجود مزيد من الشيكات على بياض” للسيسي خلال حملته الانتخابية، كشفت الحكومة المصرية عن “الإستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان” في الخريف الماضي، وفي هذه السنة، ومع تصاعد الضغط الاقتصادي في الداخل، أطلق السيد السيسي “حوارًا وطنيًا”؛ والذي على حد قوله؛ هو فرصة للمعارضة للعودة إلى الحظيرة السياسية والضغط من أجل الإصلاحات.
كما بدأت لجنة رئاسية في إصدار قرارات عفو عن عشرات المعتقلين السياسيين، وناقشت الشخصيات الموالية للحكومة علانية الحد من طول فترة الاحتجاز السابق للمحاكمة، مما يشير إلى أنه يمكن تخفيف مثل هذه الإجراءات الآن بعد أن قامت الحكومة بقمع الإرهاب إلى حد كبير واستعادة الاستقرار.
وقال السيد الخولي، عضو لجنة العفو، في مهاتفة تلفزيونية الشهر الماضي، إن قرارات العفو عكست “حرص الحكومة على الانفتاح على جميع القوى السياسية واستعدادها لخلق إرادة حقيقية للانخراط في الحوار الوطني الذي دعا إليه الرئيس”.
ولكن حتى مع إطلاق سراح بعض المعارضين السياسيين، حُكم على آخرين بالسجن، بما في ذلك اعتقال مرشح رئاسي سابق بعد انتقاده للسيسي في أيار/مايو الماضي، كما استمرت الاعتقالات ذات الدوافع السياسية على قدم وساق؛ حيث يقول أهالي المعتقلين إن التجاوزات في السجون لم تتوقف.
وقد رفض معظم المسؤولين المصريين الذين سُئِلُوا عن نظام الحبس الاحتياطي التعليق على هذا المقال، كما لم يتم تلقي أي رد حكومي على الطلبات التي تم إرسالها إلى مكتب المدعي العام ومسؤولي السجون والرئاسة.
واعترف السيد سلّام عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان بوجود بعض “التجاوزات” في نظام العدالة، لكنه قال إن مجموعات حقوقية أجنبية وجواسيس بالغوا في مثل هذه المشاكل لإضعاف الحكومة.
وفي كانون الثاني/ يناير الماضي، قررت إدارة بايدن حجب 130 مليون دولار من أصل 1.3 مليار دولار من المساعدات العسكرية التي تقدمها الولايات المتحدة لمصر كل عام كإرث من معاهدة السلام المصرية عام 1979 مع إسرائيل، قائلة إن إصلاحاتها في مجال حقوق الإنسان لم تحقق ما كانت تأمل الإدارة فيه.
لكن الإدارة أفرجت عن 170 مليون دولار أخرى كان من المفترض أن تكون متوقفة على الإصلاح أيضًا، كما كانت هناك جائزة ترضية بصفقة أسلحة قيمتها 2.5 مليار دولار، وتم الكشف عنها قبل أيام فقط من خفض المساعدات.
بحث عن الابن المفقود
في بعض الأحيان؛ يختفي المعتقلون ببساطة في قلب النظام، ولا يتم العثور عليهم أبدًا مرة أخرى.
عبده عبد العزيز، البالغ من العمر 82 سنةً، تاجر سمك مملح، حيث تمتلئ شقته الصغيرة ذات الجدران الخرسانية في مدينة أسوان الجنوبية برائحة بضاعته النفاذة، أمضى الأيام القليلة الأولى بعد اعتقال ضباط الأمن ابنه في تشرين الأول/ أكتوبر سنة 2018 منتظرًا في مركز الشرطة.
وكان متأكداً من أن ابنه جعفر سيخرج قريبًا، فحسب قوله، كان جعفر سائقاً وأبًا لأربعة أطفال، وليس لديه وقت للسياسة؛ حيث قال: “عندما كنت أسمع عن اعتقال شخص ما، كنت أعتقد أنه لا بد من أنه ارتكب خطأ ما”، وأضاف قائلًا: “لكن لأنني أعلم أننا لسنا سياسيين ولا متطرفين، فقد تصورت أنهم سيسمحون له بالرحيل”.
وعندما قالوا إن جعفر لم يكن هناك، ذهب إلى المحكمة؛ حيث قال محامو الدفاع إنه من غير الآمن لهم مساعدته، بعد ذلك تواصل مع النيابة العامة في مصر، وعندما لم يأت أي رد، ذهب لأول مرة في حياته إلى القاهرة على متن قطار مدته 15 ساعة، مصممًا على العثور على ابنه.
وفي محاولة لإبعاده، تم نقله إلى وكيل نيابة بأسوان، الذي سأله عن سبب إثارته المتاعب وطرده؛ حيث قال:”اعتقدت أن القانون يُحترم، وأن الدستور يُحترم، ولهذا السبب ذهبت، ولم أجد شيئًا من ذلك”؛ ولم يرد أي من المكتبين على الطلبات التي أرسلت لهم التعليق.
واستغل محامون عديمو الضمير يأس الرجل، قائلين له إن جعفر متهم بالانضمام إلى جماعة إرهابية، كما أخبروه أن بإمكانهم العثور على جعفر – وربما حتى مساعدة السيد عبد العزيز على رؤيته – مقابل 640 دولارًا تقريبًا، فدفع الرجل، وعاد إلى القاهرة مستغرقًا 15 ساعة أخرى ف القطار، لكنه لم ير ابنه قط.
وعندما لم ينجح أي شيء، حاول اتباع نهج جديد؛ حيث ذهب إلى كل جناح في سجن طرة سيئ السمعة في القاهرة، وأخبر الحراس أنه كان هناك لزيارة ابنه آملًا في احتمال ضئيل بأن يأكدوا وجود جعفر هناك، راجع الحراس سجلاتهم، قالوا إن جعفر ليس مُدرجًا في القائمة، وعاد السيد عبد العزيز إلى أسوان فاقد الحيلة.
وبعد أكثر من ثلاث سنوات، شعر بشيء من الأمل عندما تم انتخاب السيد بايدن؛
حيث قال السيد عبد العزيز:”مع بايدن، ربما يكون للحرية بعض القيمة”؛ فبعد الانتخابات الأمريكية، أطلقت مصر سراح أكثر من 200 سجين، فيما فسره البعض على أنه بادرة حسن نية تجاه الرئيس الأمريكي القادم، وقال محامون حقوقيون إنه بعد فترة وجيزة، تم إعادة تدوير 140 منهم على الأقل في قضايا جديدة.
المصدر: نيويورك تايمز