تشهد البيئة السياسية في منطقة شرق الفرات حالة من الاستقطاب والتوتر نتيجة تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا، حيث تبدو الحسابات هناك أكثر تعقيدًا، مع محاولة الفواعل المنخرطة استغلال ما يجري في أوكرانيا لإعادة تموضعها في المنطقة والحصول على مكاسب إضافية.
إذ وسّعت تركيا ضرباتها الاستنزافية ضد “قسد”، لتعلن مؤخرًا عن عزمها تنفيذ عملية عسكرية برّية شاملة بهدف انتزاع مناطق جديدة من “قسد” وإقامة “منطقة آمنة” على الحدود السورية، وهو ما لاقى -إلى الآن- رفضًا أمريكيًّا روسيًّا، ترافق مع زيادة الولايات المتحدة تعزيز قواتها في مناطق شرق الفرات بهدف تعزيز أوراق القوّة لديها لمواجهة النفوذ الروسي في سوريا.
هذا إلى جانب دخول روسيا في عملية ابتزاز لـ”قسد”، لدفعها نحو تقديم تنازلات لنظام الأسد مقابل حمايتها من الهجوم التركي المحتمَل، الأمر الذي فرض جملة من التحديات على مسار المحادثات الكردية-الكردية، المجمّدة أساسًا نتيجة جملة من العوامل الذاتية والموضوعية.
مكاسب الدخول في المحادثات
تبدو ضرورة فكّ العزلة السياسية عن “الإدارة الذاتية”، وتحسين تموضعها السياسي والعسكري ضمن خارطة المعادلة المحلية والإقليمية، والحصول على الشرعية السياسية اللازمة للمشاركة في العملية السياسية واللجنة الدستورية، عاملًا جاذبًا لـ PYD للخوض في غمار المسار التفاوضي مع المجلس الوطني الكردي، خاصة مع حالة الرفض الإقليمي والتوظيف الدولي للملفّ الكردي، وتزايُد خطر العمليات العسكرية التركية التي تشكّل تهديدًا مباشرًا وجوديًّا للحزب في ظل تراجع الولايات المتحدة عن التزاماتها تجاه حليفها الكردي، وإعلانها المتكرر عن نية انسحابها من سوريا، مع استمرار الجهود الروسية الحثيثة للتوغُّل في مناطق شرق الفرات وتوسيع نفوذها ومزاحمة النفوذ الأمريكي.
كل هذه المتغيرات والضغوط الدولية والمحلية تربك فيما يبدو الحسابات الاستراتيجية للحزب، وتدفعه لإبداء جهوزيته للانفتاح على الحوار والتفاهم مع القوى الكردية المنافسة، حيث تغلب النظرة البراغماتية على حسابات PYD ورؤيته للحوار مع المجلس الوطني الكردي.
يبدو موقف نظام الأسد وإيران وروسيا متشابهًا إلى حدٍّ ما، من حيث رفضهم الضمني لمسار الحوار الكردي-الكردي لما في نجاحه من تهديد مباشر للنظام من حيث احتمالية فقدانه التأثير على توجهات الإدارة الكردية وحرمانه إمدادات النفط
إذ لا ينطلق من ضرورة إنجاز توافق كردي مستدام وتوسيع المشاركة الفاعلة لمختلف المكونات الكردية، بل كرضوخ، كما يبدو، لضرورات مرحلية متغيّرة وضغوط محلية ودولية تضطره في بعض الأحيان للدخول في مفاوضات “شكلية” مع القوى الكردية، واستخدام المفاوضات كأداة سياسية “التفافية” لا تجبره على تقديم أية تنازلات حقيقية على صعيد بعض القضايا الإشكالية الكبيرة، كالعلاقة مع PKK والتجنيد الإجباري والمشاركة العسكرية والسياسية للقوى الكردية الأخرى ضمن منظومة “الإدارة الذاتية”، وانتظار بعض المستجدّات في البيئة الدولية والإقليمية.
ويفتقر المجلس الوطني الكردي الوجود الميداني في المناطق الكردية، بعد هيمنة PYD العسكرية والأمنية وطرده “بيشمركة روج”، ذراع المجلس العسكري في المنطقة والمقرَّبة من إقليم كردستان العراق، فضلًا عن إغلاق PYD مكاتب المجلس بشكل قسري واعتقال قيادات وأعضاء من الأحزاب المنخرطة في المجلس.
وعليه، يسعى المجلس عبر دخوله في المفاوضات المباشرة إعادة تفعيل دوره السياسي والعسكري في إدارة المناطق الكردية شرقي سوريا، وهو الأمر الذي يلقى دعمًا من حكومة إقليم كردستان التي تمارس بدورها ضغوطًا مختلفة لإنجاح الحوار الكردي السوري، نظرًا إلى المكاسب السياسية والاقتصادية المحتمَلة التي قد يجنيها الإقليم في حال تمَّ إشراك حليفه السوري المجلس الوطني الكردي في عملية إدارة المنطقة الكردية، والمشاركة في رسم مستقبل المنطقة.
مصالح القوى الإقليمية والدولية وتأثيرها على الحوار
يشكّل الحضور الأمريكي العامل الأكثر أهمية في مسار العملية التفاوضية، نظرًا إلى ثقل الوزن الأمريكي وتأثيره على توجهات وقرارات PYD، ويبدو الموقف الأمريكي ضبابيًّا ويشوبه بعض التناقض من جهة رعايتها المباشرة للمفاوضات ودفعها تجاه إنجاح الحوار بين القوى الكردية، طمعًا في الوصول لصيغة توافقية تؤدّي إلى إدارة سياسية مشتركة بين الفرقاء الأكراد، وتوسيع مشاركة المكونات المحلية في سبيل تحقيق استقرار مقبول في شرق الفرات، في الوقت الذي تغيب فيه الإرادة السياسية الحقيقية لدى الجانب الأمريكي للضغط على حليفها الكردي “قسد” لتقديم بعض التنازلات، واكتفائها باحتضان المفاوضات والدعوة إلى الحوار والاتفاق.
ويعزو الباحث في الشأن الكردي، بدر ملا رشيد، خلال حديثه لـ”نون بوست”، طبيعة الموقف الأمريكي إلى أن “الولايات المتحدة تحاول الوصول إلى صيغة توافقية بين الطرفَين، بحيث تصل إلى شكل من أشكال الإدارة المحلية مع امتناعها عن إضفاء أي صفة سياسية حقيقية على هذا الاتفاق في المرحلة الحالية، مع عملها على إعادة التموضع والانتشار والنفوذ مع التحالف الدولي في مناطق شرق الفرت التي انسحبت منها سابقًا”.
تستثمر روسيا في تخوفات “قسد” وتحفّظاتها تجاه حدوث انسحاب أمريكي محتمَل من سوريا، وتستغل تخوفها أيضًا من الهجمات التركية المتكررة
ويبدو أنَّ تصاعد التوتر العالمي بين الولايات المتحدة وروسيا إثر الحرب الروسية على أوكرانيا قد انعكس على حسابات الولايات المتحدة في سوريا، لتتخذ خطوات تدلُّ على عودة أمريكية متدرّجة للانخراط الفاعل في الملف السوري، بعد مرحلة من التراجع النسبي والتسليم للدور الروسي في سوريا، ترجمته الولايات المتحدة بتثبيت حضورها في مناطق شرق سوريا، وإعادة قواتها إلى مواقع انسحبت منها سابقًا.
وبعدها تمَّ استثناء مناطق في شرق وشمال سوريا من عقوبات قيصر، والسماح بتدفق الأموال والاستثمارات، ورفضها التسليم للعملية التركية المحتمَلة في سوريا ضد حليفتها “قسد” وتأكيدها على الوقوف إلى جانبها ودعمها، الأمر الذي يدلُّ ربما على توجّه أمريكي يقضي بتدعيم سيطرة “قسد” على مناطق شرق الفرات عبر ترسيخ أدوات سلطتها وتحقيق نوع من الاستقرار الاقتصادي، ما يعني إخراج ملف حوار “قسد” مع المجلس الوطني الكردي من دائرة الاهتمام الأمريكي، ما يضيف عائقًا جديدًا أمام مسار المحادثات، نظرًا إلى التأثير الأمريكي على قرارات “قسد” وتوجهاتها السياسية والميدانية.
من جهتها تستثمر روسيا في تخوفات “قسد” وتحفّظاتها تجاه حدوث انسحاب أمريكي محتمَل من سوريا، وتستغل تخوفها أيضًا من الهجمات التركية المتكررة على مناطقها للدفع تجاه رعاية مسار تفاوضي بين “قسد” والنظام ينهي احتكار المجلس الوطني الكردي لملف تمثيل الأكراد في المحافل الدولية.
كما تسعى لتعزيز دورها السياسي ووجودها العسكري في مناطق شرق الفرات، لا سيما عقب الانسحاب الأمريكي الجزئي، وشنّ تركيا لعملية “نبع السلام” ضد وحدات “قسد” عام 2019، حيث عزّزت روسيا فعليًّا وجودها العسكري في شرق الفرات ووسّعت من مساحة سيطرتها عن طريق إنشاء سلسلة من القواعد العسكرية، معتمدة بصورة متزايدة على نسج خيوط تفاهمات مع أطراف الصراع هناك، ولعب دور الوساطة بينها.
قد ترغب تركيا في المدى البعيد بإفساح المجال أمام القوى الكردية المنضوية تحت مظلة الائتلاف السوري المعارض لإبرام اتفاق مع PYD ينهي تفرُّده في إدارة مناطق شرق الفرات
ويبدو موقف نظام الأسد وإيران وروسيا متشابهًا إلى حدٍّ ما، من حيث رفضهم الضمني لمسار الحوار الكردي-الكردي لما في نجاحه من تهديد مباشر للنظام من حيث احتمالية فقدانه التأثير على توجهات الإدارة الكردية وحرمانه إمدادات النفط، في حال تمَّ إشراك أطراف محلية (كردية وعربية) لا ترغب بإقامة علاقة مع النظام، فضلًا عن رفض النظام القطعي لمحاولات تشكيل إدارات منفصلة عن حكمه قد تؤثر على صيغة الحل النهائي السياسي السوري.
يبقى الموقف التركي هو الأهم ضمن خارطة تفاعلات القوى الإقليمية والدولية وتأثيرها على مجريات الحوار الكردي-الكردي، فرغم عدم اتخاذ تركيا موقفًا صريحًا، سلبًا أو إيجابًا، تجاه المفاوضات، إلا أنّ الثابت هو رفضها القطعي لأي عملية شرعنة لدور PYD الذي يشكّل مصدر قلق وتهديد مستمر للأمن القومي التركي، أو تمكينه سياسيًّا وعسكريًّا ضمن الإطار الوطني السوري.
ويؤكّد الباحث بدر ملا رشيد على أن “مصير أية عملية تفاوضية يتوقف على مدى إمكانية إقناع الولايات المتحدة لتركيا بجدواها، خصوصًا في ظل هشاشة اتفاقيات أنقرة-موسكو”، معتبرًا أن “هناك “قبولًا مترددًا” من تركيا لهذه الحوارات، بناءً على التأثير التي تملكه أنقرة على المجلس الوطني الكردي الذي يقوم بإجراء زيارات متكررة لأنقرة والتنسيق معها، ومن ثم تمسّكه بالحوار مع “الإدارة الذاتية” بهدف إنشاء إدارة محلية مقبولة”.
يبقى مستقبل الحوار الكردي مرهونًا بالإرادة السياسية الدولية وحدوث توافق دولي يتبعه ضغوط إقليمية ودولية حقيقية على أطراف الحوار
ويرتبط توجُّس أنقرة إلى حدٍّ ما بتطورات الوضع الداخلي التركي، وقرب موعد الانتخابات الرئاسية لعام 2023، حيث يأخذ الوجود السوري في تركيا حيّزًا واسعًا ضمن التجاذبات السياسية للأحزاب التركية، فقد ترغب تركيا في المدى البعيد بإفساح المجال أمام القوى الكردية المنضوية تحت مظلة الائتلاف السوري المعارض لإبرام اتفاق مع PYD ينهي تفرّده في إدارة مناطق شرق الفرات، الأمر الذي قد يؤدي إلى استقرارٍ طويل الأمد نسبيًّا يمكّن الحكومة التركية من حسم بعض الملفات الأكثر أهمية وحساسية بالنسبة لها.
ويبدو خيار دعم تركيا مسار الحوار الكردي معقولًا استراتيجيًّا، نظرًا إلى محدودية خياراتها وحساباتها الاستراتيجية شرق الفرات، في الوقت التي تمسك فيه الولايات المتحدة وروسيا أطراف المعادلة هناك وتهيمن على مسار العلاقات وتوجُّهات اللاعبين المحليين.
خاتمة
تبدو المعادلة غير المتوازنة التي تصف المشهد العام شرقي الفرات، حيث يهيمن حزب الاتحاد الديمقراطي على المنطقة ميدانيًّا وعسكريًّا، في الوقت الذي تغيب فيه القدرة الحقيقية والأدوات الملموسة لأحزاب المجلس الوطني الكردي للضغط على PYD، أحد أهم العوامل في عدم التوصُّل إلى تقارب أو تفاهم معيّن بين الطرفَين.
فقد جعل التفوق العسكري الميداني PYD في موقف متقدّم على القوى الكردية الأخرى، مستغنيًا عن التقارب مع القوى الفاعلة الأخرى أو تقديم تنازلات حقيقية، أو أخذ خطوات جدّية حول الملفات الخلافية العالقة، كملفّ التجنيد الإجباري، والمناهج التعليمية، وفكّ ارتباط حزب الاتحاد الديمقراطي بحزب العمال الكردستاني، وتعديل العقد الاجتماعي، وإفساح المجال أمام المجلس الوطني الكردي للمشاركة في الترتيبات السياسية والعسكرية، بما في ذلك تشريع وجود قوات البيشمركة التابعة له.
ويبقى مستقبل الحوار الكردي مرهونًا بالإرادة السياسية الدولية وحدوث توافق دولي يتبعه ضغوط إقليمية ودولية حقيقية على أطراف الحوار، ومرتبطًا بمدى قدرة الأطراف الفاعلة، الولايات المتحدة وروسيا وتركيا، على التوصُّل إلى تفاهم يسمح بتحقيق نوعٍ من الاستقرار شرق الفرات يضمن مصالح القوى الثلاثة.
ولا يبدو أن ذلك ممكن في المدى القريب والمتوسط، نظرًا إلى عدم وجود رغبة أمريكية حقيقية في إحداث تغييرات شاملة ضمن منظومة “الإدارة الذاتية”، مع انفتاحها نسبيًّا على تخوفات أنقرة وتوجُّسها من تحركات PYD على حدودها الجنوبية بإفساح المجال لها بضرب أهدافٍ ومواقع كردية تابعة لـ PYD.
يتمّ هذا في الوقت الذي ترتسم فيه بوادر انهيار المسار التفاهمي الأمريكي الروسي في سوريا، إثر تطور الصراع في أوكرانيا وتعقُّد مسارات حلّه، ليبقى سيناريو استمرار المناوشات والمناكفات بين القوى المحلية والإقليمية شرقي الفرات، مع بقاء ملف المحادثات بين القوى الكردية معلّقًا بين أخذ وردّ، هو المرجّح ضمن معطيات المرحلة الحالية.