ترجمة وتحرير نون بوست
تحذير: سأقوم هنا بإلقاء حجر على البيوت الزجاجية التي يعيش فيها الكثير من الناس.
يمتاز مصطلح “باريس على النيل” بشعبية كبيرة لدى أصحاب النوستالجيا تجاه تاريخ القاهرة والمستشرقين على حد سواء، واكتسب المزيد من الشعبية مؤخرًا لدى الطبقة البرجوازية التي ترى القاهرة بغير عين الرضا، وتبحث عن شظايا وقطع متبقية من التاريخ المتخيل للمدينة، آملين الهروب إليه وما يحمله من شبه بباريس “عاصمة الحداثة”. ويستخدم المستشرقون المعاصرون هذا المصطلح في الأغلب للتأكيد على أن أوروبا وتحديدًا باريس قد احتكرت فكرة الحداثة العمرانية بشكل كامل في القرن التاسع عشر، وبذلك تصبح أي جادة عريضة مستقيمة هي اختراع باريسي، وعندما يتم استخدام مثل هذا الاختراع في القاهرة أو في أي مدينة غير أوروبية فهذا بفضلك سيدي البارون هاوسمان وبفضلك سيدتي باريس .. لا نعلم ماذا كانت مدننا لتصبح لولاكما؟!
تدعي العديد من الكتب والمقالات أن قاهرة القرن التاسع عشر لم تكن إلا محاولة محاكاة (رديئة في الأغلب) لباريس، وغالبًا ما يوصف جهد الخديوي إسماعيل في بنائها بالمتسرع أو الأخرق، ولكن في حقيقة الأمر أبدًا لم تُطل باريس على النيل، ولم تكن النوايا والتصميمات ولا السياقات الاجتماعية والعمرانية في القرن التاسع عشر قريبة حتى من باريس، ولم يكن عليها أن تصبح كذلك من الأساس. وهاكم بعض الأسباب لعدم إطلال باريس على النيل في أي وقت:
1- العلاقة بين المدينة التاريخية وامتداداتها التي بُنيت في القرن التاسع عشر تختلف تمامًا من باريس إلى القاهرة، ففي باريس تم إزالة المدينة القديمة تمامًا ماعدا عدد محدود من المباني التذكارية المختارة بعناية لتصبح شاهدًا على ماضي المدينة، أما في القاهرة فقد بقيت المدينة القديمة غير ممسوسة، فقط تم قطع عدد من الشوارع الحديثة في النسيج العمراني المزدحم كشارع كلوت بيك أو شارع محمد علي، أما الشوارع التي حُفرت تدريجيًا في قلب المدينة فقد تم إنشاؤها ببطء واستغرقت قرابة الأربعين عامًا، وكانت هذه الشوارع من الأساس جزءًا من سياسة عمرانية وُضعت بالفعل في قوانين “التنظيم” التي أصدرها محمد علي للتحديث العمراني؛ وبذلك تصبح خطط الخديوي إسماعيل مجرد امتداد لسياسات سبقت رؤيته للتوسع العمراني بعقود.
2- ليس من الممكن مقارنة الطراز المعماري للمدينتين، أكدت خطة البارون هاوسمان لباريس على نظام موحد للبناء حدد الطرز المعمارية للمباني وارتفاعاتها وحتى مقاساتها بما في ذلك نوافذها وارتفاع طوابقها؛ وقد خلق هذا نوعًا من الوحدة لا مقابل له في القاهرة، فقد وضع علي باشا مبارك في مخطط توسع القاهرة عددًا من شروط البناء مثل التكلفة الدنيا للبناء رغبة منه في ضمان مستوى معين من الجودة، إلا أنه لم يحدد أي نوع من الشروط على الطرز المعمارية المستخدمة؛ وقد سمح هذا للمطورين العقاريين والسماسرة الكبار بتعيين المعماريين وفقًا لذوقهم (وكان هؤلاء المعماريون يأتون من كافة أنحاء دول المتوسط، وفرنسا وإيطاليا تحديدًا حيث كانت صناعة العمارة على قدر من النضج)، وكان هؤلاء المعماريون يبنون المباني السكنية مستخدمين العديد من الطرز المعمارية ومحاولين إضفاء لمسة محلية عليها أيضًا، وكانت النتيجة شديدة التنوع على عكس الحال في الوحدة الفاشية للطرز المعمارية في شوارع باريس البارون هاوسمان، ويضاف إلى ذلك أن أغلب مساحة الخطة العمرانية للخديوي لم تكن قد امتلأت بعد بالمباني بحلول موعد وصول ضيوف حفل افتتاح قناة السويس، فقد تم بناء معظم مباني النسيج العمراني للخطة أثناء فترة للتوسع العمراني في بداية القرن العشرين بين 1897 و1907، وفترتان أخريتان في العشرينات والأربعينات، بل إن حتى فترة الخمسينات قد تركت بصمتها المعمارية على الخطة.
3- بُنيت خطة هاوسمان العمرانية للإمبراطور نابليون الثالث بالأساس للسماح للجيش الفرنسي بالسيطرة على باريس في أسرع وقت، في حال ثار الشعب الفرنسي مرة أخرى، كان البعد السياسي للخطة محوريُا في تصميم باريس بشكل لا يسمح بغض النظر عن غياب مثل هذا البعد في تخطيط القاهرة، كان النظام السياسي للإمبراطور نابليون الثالث سلطويًا واستخدم المدينة كنظام ضبط اجتماعي لإجبار سكانها على نظام حياة رأسمالي، وبحيث يعلي النسيج العمراني للمدينة ذاته من أساليب معينة للملابس والسلوك العام والاستهلاك. لم تكن مثل هذه النزعة السلطوية واضحة في قاهرة الخيدوي إسماعيل؛ إذ سمح للجمال بالحركة بحرية في المساحات الجديدة، واستمرت الحياة التجارية على طبيعتها في المدينة، بالإضافة فقط إلى سلاسل المحلات الجديدة التي انتشرت حول العالم (بدون أن تستبدل شبكات وطرق التجارة الموجودة بالفعل)، أما بالنسبة لعلي مبارك والخديوي إسماعيل، لم تحمل الخطة الباريسية معانٍ أكثر من كونها حل لعدد من المشاكل في كل المدن حول العالم مثل المساحات غير الصحية والازدحام ومشاكل الصرف الصحي ونقص المساحات المفتوحة .. إلخ. وبينما يمكن الزعم أن هذه الأسباب المبينة أعلاه كانت سببًا للثورات العمرانية في العالم أجمع وليس في باريس ومن حاكاها، إلا أن الحلول لم تختلف كثيرًا في حقيقة الأمر، فإذا كانت المشكلة على سبيل المثال هي الحاجة إلى شوارع مناسبة لنقل البضائع عبر المدينة، فبأي شكل يمكن أن يختلف الحل في باريس عن القاهرة أو لندن أو ميكسيكو سيتي؟ هل لأن المشرق يفضل الحواري المغلقة والأزقة الغامضة على شوارع الغرب البرجماتي المستقيمة؟ هذا هو الوضع في حقيقة الأمر، إيمان بأن الحداثة أوروبية بطبعها واستخدام متبادل لمصطلحي التحديث والتغريب، وكأنهما يحملان نفس المعنى. ويفرض هذا أن لباريس الحق في احتكار الحداثة العمرانية تمامًا كما العمران الأوروبي.
هرب كل من إدوارد لين وستانلي بول من أوروبا في وقت تحولات عظيمة، لكنهما أصيبا بخيبة أمل كبيرة إذ شاهدا عملية تغيير شبيهة في القاهرة، فقد عنى لهما الهروب إلى مصر الهروب من الحداثة لما افترضاه كمستشرقين من تعلق القاهرة في العصور الماضية وعدم تغيرها، وكان اختلاط العناصر “الشرقية” مع العناصر التي استطاعا التعرف عليها بسهولة لكونها أوروبية مصدرًا للإزعاج، فقد كانا يظنان أن هذين العالمين غير قابلين للاندماج بهذه الطريقة، وقد كانت هذه هي الفترة التي بدأت المدينة القديمة فيها باكتساب اسم “القاهرة الإسلامية” على سبيل التضاد مع القاهرة الحديثة “غير الإسلامية”، فقد تمثل الإسلام في مساحات العصور الوسطى وكان نقيضه التام هو الحداثة الأوروبية، ولذلك تصبح المقارنة بين الأنماط العمرانية لكل من القاهرة القديمة وباريس القديمة مثيرة للاهتمام لما بين الاثنين من تقارب أكبر بكثير مما أخبرونا عنه.
سيصر البعض على أن الخديوي إسماعيل قد أراد “أن تصبح مصر قطعة من أوروبا”، أو أنه قد بدأ في مشاريعه التحديثية فقط بعد أن عاد من زيارته لمعرض العالم في باريس، أو أنه قد أراد أن يعمرها لتلقى إعجاب ضيوفه الأوروبيين، قد يكون كل ما سبق صحيحًا إلا أن كل هذه المقولات لا تكفي لغض النظر عن العملية التي استمرت لقرابة القرن في تشكيل ما نعرفه اليوم بالقاهرة الخديوية، ولا تعطي التقدير الكافي للأطراف المحلية والمعماريين ورواد الأعمال الذين حققوا رؤية إسماعيل.
تحتل مركز القلب من سردية “باريس على النيل” نظرة لكل من الباريس والقاهرة على أنهم جزيئات في فراغ، وتفتقد هذه السردية إلى أخذ علاقة القاهرة بواحدة من أهم المدن في الاعتبار، هذه المدينة هي إسطنبول، ففي حقيقة الأمر فإن مجموعة كبيرة من المدن قد مرت بتغيرات مشابهة حول العالم من قبل أنظمة عدة وبطرق مختلفة ولأسباب تتفاوت، مرت مدن مثل فيينا وبرلين وميكسيكو سيتي (الاستعمارية) وبيونس آيريس بتجارب تحديث عمرانية عدة تم التغاضي عنها لاحقًا وأصبحت حكرًا على باريس هاوسمان، خلقت هذه المدن وغيرها تطورات على امتداد ما يسميه الألمان “بالتزايتجايست” أو روح الزمن في عالم يصبح أكثر اتصالاً يومًا بعد يوم، وقامت مدن مثل تورينو (المحاربة)، وبرشلونة (المتوسعة)، وسانت بيترسبورج (الإمبريالية) بتجربة الكثير من النظم العمرانية التي اصطلح على تسميتها بالباريسية لاحقًا، إن بزوغ نجم باريس كالمدينة الحديثة الوحيدة والمتفردة جاء لأسباب سياسية تتعلق بالهيمنة الثقافية، وقد حان الوقت للتخلي عن هذه التصورات الثابتة.
كانت القاهرة .. وستبقى القاهرة فحسب، فالذي يصطلح على تسميته بالمدينة ليس بالمباني أو أنماط الشوارع، وإنما البشر الذين يقومون بالبناء والذين يسكنون ويتنقلون في المدينة، هؤلاء هم من يهمون بالفعل، ولطالما كان هؤلاء قاهريين، ولم يكونوا أبدًا باريسيين، وبالفعل قد أدى الإيمان بأن وسط البلد أو ما يعرف بالقاهرة الخديوية أقل مصرية من باقي المدينة لما تعاني منه المنطقة من إهمال، فأين يجب علينا أن نرسم الخط؟ هل مازالت العمارة المملوكية أكثر مصرية من العمارة العثمانية أو العمارة الهجينة لوسط البلد؟ تكمن عبقرية مصر في أنها لا تحتاج إلى أن تختار فترة محددة من ماضيها وتنحتها كتمثال أصم، إن قاهرة القرن التاسع عشر مصرية كأي جزء آخر، وأبدًا لم تطل باريس على النيل، ولا بأس في ذلك.
المصدر: مُشاهد القاهرة