لم يدر بمخيلة “علي” الشاب القاهري الذي ذهب لقضاء إجازة عيد الأضحى مع أهله في إحدى قرى مركز السنبلاوين بمحافظة الدقهلية (شرق مصر) أنه وعقب عودته لبيت العيلة رفقة زوجته وولديه، لن يجد مياهًا للاغتسال من تراب الطريق بعد أن قطع مسافة أكثر من 180 كيلومترًا تخللتها أتربة ورياح وأدخنة وزحام متعارف عليه في مثل هذا التوقيت من كل عام، حيث الأعياد والتكدس المعروف.
توقع الشباب البالغ من العمر 45 عامًا أن هذا الانقطاع للمياه في هذا الظرف الحساس من العام، لن يخرج عن الأسباب التقليدية المعتادة في مثل تلك المواقف، كانقطاع عمومي أو كسر في المواسير أو إصلاح في الطرق، لكنه فوجئ هذه المرة بإجابة صادمة ومستغربة بالنسبة له جاءت على لسان والده: “لسة دور المياه الخاص بقريتنا لم يأت بعد!!”.
وهنا طرح “علي” تساؤلًا ساخرًا أكثر منه استفهاميًا: يعني إيه دور المياه؟ ليتلقى الإجابة التي ما سمعها منذ أن كان طفلًا في العاشرة من عمره: “اليومين دول عاملين دور للمياه لكل بلد، يعني كل قرية تأخذ المياه لمدة يومين فقط في الأسبوع، ثم تنقطع بقية الأيام وتذهب لبلدان أخرى وهكذا”، وهنا وقف الابن مهمهمًا بأحرف غير مفهومة، منهيًا حديثه مع والده قائلًا: “إحنا وصلنا للدرجة دي؟”.
قبل أكثر من ثلاثة عقود تقريبًا، وقبل تدشين البنية التحتية للمياه في معظم قرى مصر، كان النظام المتعارف عليه تقسيم المياه بين القرى بما يسمى “الدور” وكان نصيب كل قرية يوم أو يومين أسبوعيًا، وكان الأهالي يعتمدون على صهاريج المياه، الخاصة أو المدعومة من الوحدات المحلية، في ملء بعض الجالونات لتخزينها حتى يأتي موعد دور قريتهم، غير أن هذا النظام تلاشى تمامًا بعد التطورات التي شهدتها بنية القرى التحتية بما يسمح بوجود المياه طيلة الوقت إلا لأسباب قاهرة وطارئة.
وبعد عشرات السنين من الاستمرارية والانتظام المائي للمصريين أصحاب أطول أنهار العالم وأكثرها عذوبة، تعود عجلة الوراء للخلف مرة أخرى، ليجد أبناء النيل أنفسهم على أبواب أزمة خانقة، أزمة لا تهدد مستقبلهم قدر ما تهدد بقاءهم وقدرتهم على الحياة، وسط موجات تهديد لم تشهدها البلاد من قبل، حيث سد النهضة الذي يؤكد جميع الخبراء أن تداعياته على الأمن المائي المصري ستكون كارثية رغم تقليل التصريحات الرسمية من ذلك.. فهل يعود المصريون مرة أخرى لعصر الصهاريج والدور؟
أوضاع غير إنسانية
“الأمور أصعب من أن توصف في كلمات عابرة، فحين لا تجد المياه لأكثر أيام الأسبوع، وتتحسس يدك وأنت تتعامل مع قطرات المياه فيما أشبه بأجواء الدول الحبيسة التي لا تملك أي موارد مائية ولا نوافذ بحرية، فهنا يكون الوضع كارثيًا وغير إنساني بالمرة”، بهذه الكلمات استهل الخبير بوزارة التربية والتعليم (إسماعيل) حديثه عن الوضعية الجديدة التي فرضت نفسها على سكان ريف مصر تحديدًا خلال العام الأخير.
ويقول الخمسيني المصري في حديثه لـ”نون بوست” إن صعوبة الأمر تتعلق في عدم اعتياده، إذ كانت الأمور تسير بشكل سلسل وطبيعي، المياه متوافرة طيلة أيام العام ولا مشكلة في ذلك إلا نادرًا، وما كان الناس بحاجة إلى خزانات في منازلها لتخزين المياه إلا بعض الجالونات المعدودة من باب التأمين حال وجود عطل مفاجئ يتسبب في قطعها، لكن الأشهر الأخيرة تفاقمت الأزمة بصورة فقدت معها الكثير من معايير ومقومات الإنسانية.
وتتعاظم المشكلة خلال فصل الصيف تحديدًا، هكذا يقول “أشرف” الذي يعمل مهندسًا في إحدى شركات المقاولات بمحافظة القاهرة، لافتًا إلى أنه قلل من ذهابه لزيارة والدته القابعة في إحدى قرى محافظة الشرقية (شرق) بسبب انقطاع المياه المتكرر، وكذلك الكهرباء، مضيفًا “الوضع أصبح غاية في الصعوبة، قد نتحمل نسبيًا انقطاع الكهرباء لكن المياه وفي الصيف فالأمور تزداد مأساوية.. نحن لم نعد على أبواب العطش كما يقولون، بل دخلنا البيت خلاص” على حد قوله.
“اشترينا خلال الشهرين الماضيين أكثر من 15 جالونًا لتخزين المياه تحسبًا لأي مشاكل، من الواضح أن الأمور ستستمر على هذا المنوال لفترات طويلة وربما إلى أجل غير محدود”.. مواطن مصري
الأزمة زادت من ضغوط الحياة على محدودي الدخل من سكان القرى، ممن وجدوا أنفسهم بين مطرقة تحمل انقطاع المياه نصف أيام الأسبوع على الأقل وفق سياسة “الدور” وسندان شراء خزانات لتخزين المياه فيها رغم غلو ثمنها وعدم قدرتهم على تحمل أعباء أكثر من المأكل والمشرب.
وتختلف أسعار الخزانات وفقًا لحجمها والمواد المصنوعة منها، لكنها تتأرجح بين 2000 – 5000 جنيه، وهذا المبلغ مرتفع بالنسبة لمعظم الأسر في الريف التي ما عادت تستطيع تحمل أعباء جديدة فوق أسعار الكهرباء والمياه وأنابيب الغاز والخبز والسلع والملابس والخدمات الصحية التي باتت فلكية في غضون سنوات معدودات.
أسباب عدة
الحديث عن أزمة المياه في مصر ليس جديدًا، فالقضية مطروحة للنقاش منذ عشرات السنين، لكن استقرار الأوضاع نسبيًا طيلة الفترات الماضية وضعها في ثلاجة التجاهل مؤقتًا قبل أن يصل المصريون إلى هذه النقطة المفصلية التي تضع مستقبلهم المائي على المحك، بعدما بات شريانهم الوحيد مهددًا، وحصتهم المائية منه التي تمثل أكثر من 97% من المياه المستخدمة محل تشكيك من دول النيل.
كان الانفجار السكاني السبب الأبرز والأكثر حضورًا عند طرح هذا الملف للمناقشة بين الحين والآخر، فقد ارتفع سكان مصر من 27 مليون نسمة في 1960 إلى 105.7 مليون في 2022، بزيادة تقدر سنويًا بنحو 2%، وهو ما تسبب بشكل كبير في تفاقم الأزمة في ظل تضاعف الاحتياجات والاستخدامات مع بقاء الحصة ذاتها المقدرة بـ55.5 مليار متر مكعب سنويًا.
تحميل الزيادة السكانية وحدها مسؤولية تفاقم الأزمة حديث يفتقد للموضوعية، فهناك حزمة أخرى من الأسباب معظمها يتعلق بسوء السياسات وغياب الرؤى وجهل المواطنين وقلة الوعي وندرة الرقابة، ومن أبرزها تدهور وتلوث مياه النيل نتيجة إلقاء المخلفات الصلبة والسائلة به، فضلًا عن مياه الصرف الصحي والزراعي، التي حولت النهر العذب إلى “مصرف كبير” يحتاج إلى جهد وميزانية كبيرة لتنقيته من الشوائب، ما يتسبب في هدر كميات كبيرة من المياه فضلًا عن المخاطر الصحية الناجمة عن ذلك، ورغم الجهود المبذولة للتقليل قدر الإمكان من هذا المعول، فإن معظمها باءت بالفشل في ظل إصرار واضح على الاستمرار في هذا النهج، رافق ذلك “ميوعة الرقابة” وتفشي “الفساد”.
أساليب الري هي الأخرى لعبت دورًا محوريًا في تعميق الأزمة، حيث يعتمد المصريون منذ عشرات السنين على نظام الري بـ”الغمر” ويعني غمر المزروعات بالمياه، ما يتسبب في كثير من الهدر، فيما لجأ البعض مؤخرًا إلى اتباع إستراتيجيات أخرى أكثر وفرة كنظام الري بـ”التنقيط” لكنه لم يعمم على جميع المدن المصرية حتى اليوم.
يتزامن ذلك مع بنى تحتية متهالكة لشبكات المياه، حيث تعاني نسبة كبيرة من مواسير نقل المياه من التلف والتلوث، ما ينجم عنه الكثير من الفقد، هذا بخلاف الفاقد من الترع والقنوات الرئيسية البالغ طولها نحو 30 ألف كيلومتر وتهدر سنويًا ما يقارب 8 مليارات متر مكعب بسبب التسرب والرشح بحسب مركز المعلومات التابع لمجلس الوزراء المصري، الذي كشف أن حجم المهدر من مياه الشرب يبلغ 3.7 مليار متر مكعب سنويًا بما نسبته 33% من استهلاك المياه في القطاع المنزلي.
وكان الجهاز المركزي المصري للتعبئة العامة والإحصاء (حكومي) قد أصدر تقريرًا بمناسبة اليوم العالمي للمياه، كشف من خلاله أن نسبة المهدر من المياه النقية المستخدمة عبر الشبكات بلغت 37.6% من إجمالي كمية المياه المنتجة على مستوى الجمهورية للعام 2015/2016.
ثم تأتي التغيرات المناخية لتزيد الطين بلة، حيث تسببت في فقدان مصر للكثير من أراضيها الزراعية التي باتت خارج نطاق الخدمة بسبب الاحترار والجفاف، ففي تصريح لوزير الري المصري محمد عبد العاطي، في أكتوبر/تشرين الأول 2021، قال”: “أكثر من ثلث دلتا نهر النيل في مصر (تحتضن أكثر من 35 مليون شخص وتوفر 63% من الإنتاج الزراعي للبلاد) معرض للغرق، بسبب التغيرات المناخية التي ارتفعت وتيرتها في الآونة الأخيرة”.
لا يمكن الحديث عن إعادة سياسة “الدور” لمياه القرى والريف بعيدًا عن تداعيات “سد النهضة” الإثيوبي
تراجع نصيب الفرد من المياه
في فبراير/شباط 2019 وخلال كلمته على هامش المؤتمر الدولي الثالث لتحلية المياه في مصر والشرق الأوسط الذي نظمه مركز بحوث الصحراء بالقاهرة قال وزير الزراعة واستصلاح الأراضي المصري السابق عز الدين أبو ستيت: “نصيب الفرد من المياه انخفض لأقل من 600 متر مكعب من المياه، ما يعني أننا وصلنا بسلامة الله إلى منطقة الفقر المائي، وسينخفض إلى أقل من 400 متر مكعب من المياه بحلول 2050”.
وتشير التقارير الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء ووزارة الري المصرية إلى تراجع نصيب المواطن المصري من موارد البلاد خلال العقود السبع الماضية بصورة كارثية، من 2526 مترًا مكعب للفرد عام 1947 إلى أقل من 700 متر مكعب عام 2013، وصولًا إلى 500 مكعب العام الحاليّ، مع توقع بتراجعه إلى 350 مترًا بحلول 2050، مع الوضع في الاعتبار أن الحد الأدنى لمتوسط الفرد سنويًا وفق الأمم المتحدة يبلغ 1000 متر مكعب، وهو ما يعني رسميًا دخول مصر حاجز الفقر المائي بحسب تصريحات الحكومة.
وكانت تقرير سابقة لـ”نون بوست” قد تحدث عن فقدان مصر لكثير من حقوقها المائية بسبب السياسات الخاطئة المتبعة، حيث فقدت خلال العقود الثلاث الأخيرة أكثر من 20 مليار متر مكعب حصلت عليها دولة الاحتلال عبر السحب الجائر من الخزان الجوفي لسيناء، فبينما لم تمتلك مصر خزانات معدة لتخزين مياه السيول حفرت “إسرائيل” أكثر من 80 بئرًا بعمق 800 متر بصحراء النقب لسحب تلك المياه وتخزينها لديها، وهو ما أفقد المصريين جزءًا ليس بالقليل من المياه التي كان يمكنها أن تساهم ولو قليلًا في حل الأزمة.
سد النهضة.. الطامة الكبرى
لا يمكن الحديث عن إعادة سياسة “الدور” لمياه القرى والريف بعيدًا عن تداعيات “سد النهضة” الإثيوبي، وهو ما أكده خبير الموارد المائية بمركز البحوث الزراعية المصري، أحمد سليمان، الذي كشف عن كوارث متوقعة حال اكتمال بناء السد الذي تشير أديس أبابا إلى أنها أكملت المرحلة الثالثة من ملء خزانه، ما يعني تقليص حصة مصر من مياه النيل التي ما عادت قادرة على الوفاء باحتياجات المواطنين المتصاعدة.
الخبير المائي في حديثه لـ”نون بوست” أوضح أن مشكلة السد ستتضح بشكل محوري خلال الأعوام القادمة، بعد انتهاء الكميات المخزنة في أسوان، وبدء تلقي المواسم الجديدة بكمياتها المتراجعة بطبيعة الحال بسبب تخزين جزء كبير منها لصالح السد الإثيوبي، وهو ما بدأت إرهاصاته تلوح في الأفق خلال الفترات الماضية.
ويكشف سليمان أن هناك توجهات، رسمية وغير رسمية، بعدم زراعة الكثير من المحاصيل التي تستهلك كميات كبيرة من المياه، وعلى رأسها الأرز، بل هناك عقوبات تفرض على من يخالف تلك التعليمات، دون إبداء أي أسباب أو مبررات للمزاراعين، لافتًا إلى تبوير آلاف الأفدنة خلال العامين الماضيين بسبب ندرة المياه، ولجوء البعض الآخر إلى عدم زراعة أرضه بسبب عدم ضمان استمرار عملية الري وتحمله أعباء وكلفة إعداد الأراضي من سماد وأيدي عاملة بأسعار زادت في كثير من الأحيان بنسب تخطت حاجز الـ200%.
وكانت صحيفة “الأمة” المصرية قد نشرت تحقيقًا بشأن تداعيات ندرة المياه على الزراعة، كشفت فيه على لسان أحد أبناء قرية أبو يحيى بمركز شبراخيت “البحيرة” قوله إن أكثر من 300 فدان بالقرية مهددة بالبوار بسبب عدم وجود مياه، الأمر الذي دفع الفلاحين لاستخدام مياه الصرف الصحي والزراعي في عملية الري، ما يتضمن الكثير من المخاطر الصحية للمواطنين، هذا بخلاف لجوء آخرين إلى المياه الجوفية عبر الماكينات الأرتوازية، غير أن ملوحة التربة كانت عائقًا دون تحقيق هذه الطريقة لأهدافها المنشودة.
الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي كان قد تحدث عن بدائل لمواجهة تداعيات سد النهضة وأزمة المياه تتمحور حول مسارين: الأول خاص بالتحلية وهو المسار المكلف جدًا الذي ربما لا تستطيع الدولة المصرية تحمل تبعاته كاملًا، أما المسار الثاني وهو الأقرب للتنفيذ فيتعلق بمعالجة مياه الصرف الصحي معالجة ثلاثية.
وهنا يحذر أستاذ الأمراض المهنية بكلية الطب ومؤسس المركز القومي للسموم الإكلينيكية، محمود عمرو، من هذا المسار لما يتضمنه من مخاطر كبيرة على صحة المصريين، وفي تصريحات صحفية له قال إن مياه الصرف تحتوي على النيتروجين الذائب الذي يتأكسد إلى نترات، إذ يصل أيون النترات والنتريت مع مياه الري أو الصرف وتختزنه بعض النباتات في أنسجتها بنسبة عالية مثل “الكرنب والسبانخ والفاصوليا والخيار والخس والجرجير والفجل والكرفس والبنجر والجزر”، ويسبب مشاكل صحية كبيرة.
هل يعود المصريون لعصر الصهاريج مرة أخرى؟
“اشترينا خلال الشهرين الماضيين أكثر من 15 جالونًا لتخزين المياه تحسبًا لأي مشاكل، من الواضح أن الأمور ستستمر على هذا المنوال لفترات طويلة وربما إلى أجل غير محدود”، بتلك الكلمات أكد “حسام” المحاسب بإحدى الوحدات المحلية بالغربية (غرب) حديثه معلقًا على قراءته للمشهد فيما يتعلق بمستقبل قرى المحافظة بالنسبة للمياه.
وألمح أن الوحدات التنفيذية القروية التابعة لوزارة التنمية المحلية لديها تعليمات بتوفير الصهاريج للقرى التي تعاني من انقطاع متكرر للمياه، وأن ذلك يأتي في إطار التخفيف على المواطنين، والتقليل من وقع الأزمة قدر المستطاع، مرجعًا ذلك إلى سياسة “الدور” التي بدأ تعميمها في كثير من المناطق، وفي حديثه لـ”نون بوست” أكد ما يثار بشأن ضرورة تقليل استخدامات المياه في ظل غموض المستقبل، وأن كل المؤشرات تذهب إلى أن هناك أزمة مياه كبيرة تتطلب التعاطي معها بشكل عملي بصرف النظر عن المتسبب الرئيسي فيها، قائلًا: “أزمة المياه ليست مصرية فقط بل هي أزمة عالمية والعالم على وشك الدخول في مرحلة جديدة من حروب المياه”.
الوضع المائي الصعب لن يكون استثنائيًا، فالجميع سيكتوي بناره، ريف وحضر، فيما سيتحمل المواطن وحيدًا تلك الكلفة الباهظة، إما تقليلًا في معدلات المياه التي يتم ضخها وإما زيادات هائلة في أسعار الفواتير
فيما تندر “معوض” (38 عامًا) ويعمل موظفًا بوزارة الصحة، من الوضع قائلًا: “يبدو أننا على موعد مع العودة لفترات الخمسينيات والسبعينيات مرة أخرى حيث الحصول على المياه من المدن أو القرى المجاورة عبر الحمير والبغال التي يوضع عليها الجالونات لملئها ثم العودة بها وتفريغها في خزانات وهكذا”.
وتابع في حديثه لـ”نون بوست”: “هذا الأمر لا يمكن أن يكون في المدن، بل إن الحكومة لا يمكنها ممارسة هذا النظام مع سكان القاهرة والجيزة لما يمكن أن يترتب عليه من غضب شعبي ربما لا تقدر على مقاومته، أما القرى وأهلها فهي تعلم جيدًا أنهم لن يعترضوا ولذا فهم أول ضحايا أي أزمة تواجهها البلاد”، على حد قوله.
وفي الجهة الأخرى يرى مدير إدارة الموارد المائية بأحد قطاعات شرق الدلتا، أحمد سالم، أن الوضع الحاليّ فيما يتعلق باللجوء إلى الصهاريج والغالونات والخزانات هو وضع مؤقت لحين الانتهاء من إستراتيجيات التعاطي مع الأزمة الحاليّة عبر إصلاح شبكة المواسير وأساليب الري وسياسات الزراعة، فضلًا عن ضخ كميات كبيرة من مياه الصرف الصحي المعالجة، وبعد ذلك ستعود الأمور إلى طبيعتها وحتى إن لم تكن كما كانت في السابق بشكل كامل.
وأوضح في حديثه لـ”نون بوست” أن الأمر ربما يأخذ وقتًا طويلًا في ظل كلفته المالية العالية، وعليه كان خيار الأجهزة المحلية هو مساعدة المتضررين من تلك المستجدات من خلال توفير البديل، حتى لو كان مكلفًا بعض الشيء، فيما يرى آخرون أن الوضع الحاليّ مستمر وربما يزداد تفاقمًا مع بداية التأثر المباشر بسد النهضة والزيادة السكانية المستمرة التي تقلل معها حصص الفرد من المياه مع الإبقاء على أسباب الفقد والهدر وسوء البنية التحتية كما هي.
لم يكن الأمر مقصورًا على الريف فقط كما يذهب البعض، فأهل المدن يتجرعون من نفس الكأس تقريبًا وإن كان بأسلوب آخر، هكذا يؤكد الصحفي المصري أحمد عبد العزيز، الذي يشير إلى أنه بات مضطرًا لتقليل استخدامه من المياه لمعدلات تتجاوز النصف تقريبًا، بعدما شهدت أسعار الفواتير زيادات بالجملة خلال السنوات الأخيرة، آخرها تلك الزيادة التي شهدتها في مايو/آيار الماضي حين ارتفع سعر مياه الشرب للشريحة الأولى (0-10 أمتار) من 65 قرشًا إلى 80 قرشًا، والثانية (11-20 مترًا) من 1.6 جنيه إلى جنيهين، أما الشريحة الثالثة (20- 30 مترًا) فارتفعت من 2.7 جنيه إلى 3.25 جنيه، بزيادة قدرت بنحو 40% مرة واحدة.
وأكد عبد العزيز أن الوضع المائي الصعب لن يكون استثنائيًا، فالجميع سيكتوي بناره، ريف وحضر، فيما سيتحمل المواطن وحيدًا تلك الكلفة الباهظة، إما تقليلًا في معدلات المياه التي يتم ضخها وإما زيادات هائلة في أسعار الفواتير، في الوقت الذي نجحت فيه أديس أبابا في بناء سدها عبر سياسة التسويف، مستغلة تراجع خبرة المفاوض المصري الذي منحها مشروعها القومي على طبق من ذهب بموافقته على اتفاقية إعلان المبادئ في 2015، لتبدأ مرحلة جديدة من تعطيش شعب النيل وإجباره على التقشف الإجباري والعودة لعهود الظلام الاولى فيما العالم على أبواب نهضة صناعية وتكنولوجية هائلة.