تروي الحكايات القديمة في التراث الفلسطيني دور المرأة في مواجهة الأمم السابقة التي حكمتها، فهي كما الرجال قاتلت في الحروب، وكانت في الصفوف الأولى تضمّد الجراح وتصيب الهدف بسهامها أو بندقيتها لتحرير البلاد من الغزاة.
لم يقتصر حضورها يومًا على الأعمال البسيطة، بل أوجدت لنفسها مكانة قبل نكبة 1948، وكان لها حضورها الاجتماعي والسياسي وحتى العسكري.
في العقود الأخيرة كثيرًا ما تخطِّط وتنفِّذ الشابات عمليات فدائية خاصةً في الضفة والقدس المحتلتَين، ولا يزال البعض يستغرب من ذلك، لكن المفاجأة حين تفرّدن قبيل الاحتلال الإسرائيلي في تأسيس أول تنظيم عسكري نسائي اسمه “زهرة الأقحوان”، على يد شقيقَتين فلسطينيتَين في يافا، هما مهيبة وناريمان خورشيد.
وشارك في تشكيل تنظيم “زهرة الأقحوان” عدد من النساء الفلسطينيات، وبعض الرجال العرب والأجانب، ورغم قصر المدة التي عمل خلالها (1947-1948) إلّا أنه قامَ بدور عسكري سياسي متميز.
لماذا أُطلق على التنظيم العسكري “زهرة الأقحوان”؟ ذكرت مؤسِّسته مهيبة خورشيد في توثيقها الشفوي أن للأقحوان دلالة على الحياة والجمال والديمومة، واستوحت فكرته من الزهرة القرمزية في الثورة الفرنسية، علاوة على دلالاته المحلية، إذ تنتشر الزهرة بكثافة في ربوع فلسطين المحتلة.
رحلة توثيق “زهرة الأقحوان”
قبل سنوات تمكّنت الباحثة فيحاء عبد الهادي، وهي مؤسسة جمعية “الرواة للدراسات والأبحاث”، برفقة زميلتها آمال الأغا، من توثيق حكاية أول تنظيم عسكري نسائي، حين بحثتا عن الشقيقتَين خورشيد في مصر، وأنصتتا لتجربتهما التي توثّقها “نون بوست” عبر هذه السطور.
بدايةً، تقول الباحثة عبد الهادي إن خلال توثيقها لدور المرأة الفلسطينية في الدفاع عن حريتها ووطنها والهجمات الصهيونية والاستعمارية، ارتأت أن تبحث أكثر وتوثّق حكايات النساء اللواتي أثّرن في الأجيال لاقتحام المعترك العسكري وتنفيذ عمليات عسكرية.
واكتشفت عبد الهادي أن النساء الفلسطينيات كسرن القاعدة، حين قررن ألّا يقتصر عملهن في النضال على التمريض والأعمال الاجتماعية، بل أن يمتدَّ إلى العسكرية.
وترى الباحثة أن أهمية توثيق تاريخ “زهرة الأقحوان” يأتي ليقدّم نموذجًا أن النساء الفلسطينيات كنّ وما زلن قادرات على حمل البندقية، مستذكرة لـ”نون بوست” أول شهيدة فلسطينية، فاطمة غزال، التي استشهدت عام 1936 وهي تحمل سلاحها.
وأوضحت الفرق بين العمليات الفدائية التي كانت تقوم بها النساء و”زهرة الأقحوان”، بأن الأخير كان تنظيمًا مكوّنًا من مجموعة نساء وعملهن جماعي وليس فردي.
من تدريس الرياضيات إلى العمل المقاوم
بدأ النشاط خيريًّا، أقرب إلى النادي الاجتماعي، فعند التأسيس كانت جمعية نسائية اجتماعية الطابع، تهتم بالوحدة ما بين الأديان، ومساعدة الطَّلَبة الفقراء بشكل غير مباشر، ثم تحولت إلى عمل عسكري.
كانت تعمل مهيبة آنذاك معلمة رياضيات، فهي حاصلة على دبلوم المعلمين من القدس، وكانت أيضًا تنشط في مجال الرسم والنحت والعزف على الكمان.
بداية التحول حين كانت عائدة إلى منزلها من فصول التدريس في يافا، ورأت تلميذًا صغيرًا لا يتجاوز الـ 6 أعوام يمسك بيد أمه قبل أن تغتاله رصاصة صهيونية، سرعان ما انتفضت المعلمة، ولم تكمل رحلتها في التعليم، وكذلك لم تكمل شقيقتها عملها في إحدى الشركات الكيماوية، وبدأتا العمل للتصدي للعصابات الصهيونية المدعومة من المحتل البريطاني.
وعلّقت المؤسِّسة مهيبة: “بعد حادثة مقتل طفل فلسطيني بريء أمام عينَي يومها، عدت إلى البيت وقررت الانتقام”، وقالت: “منذ ذلك الحين بدأتُ مراسلات مع القائد الشيخ عبد القادر الحسيني الذي استشهد في معركة القسطل في أبريل/ نيسان 1948، وذلك لمساعدتهم في الدعم”.
ووفق ما وثّقته الباحثة عبد الهادي، فإن نصَّ القسم الذي كان يؤدّيه الرجال والنساء عند الانضمام للتنظيم العسكري هو “أقسم بشرفي وديني وملتي على موالاة مبدأي، وبذل الغالي والنفيس في سبيل الخير والمساعدة لكل محتاج وضعيف، أشهدت رب العالمين على ما ذكرت، كما أنني لا أبوح به حتى الموت”.
ومن أبرز النساء اللواتي أقسمن هنّ صبحية عوض وخديجة كيلاني ومديحة البطة ونجمة عكاشة وميسر ضاهر وسنية إيراني وفايزة شلون ومبرة خالد.
لم تكن المنتسبات إلى التنظيم سوى من آنسات الطبقة المستنيرة في يافا، كما انضمّت إليهن اثنتا عشرة فتاة عربية، بالإضافة إلى بعض مجاهدي سيناء.
وكان نشاط التنظيم متمركزًا في مدينة يافا، خاصة وقت الاشتباكات بين أهل يافا ومستوطني تل أبيب، وكان النشاط إما بمدّهم بالمقاومة المسلحة وإما جمع التبرعات.
كما تمكّنت مؤسِّسة التنظيم مهيبة أن تدرِّب الفتيات الأعضاء على استعمال السلاح، حتى بدأن بتنفيذ العمليات المسلحة جنبًا إلى جنب مع الرجال، بالإضافة إلى أعمال أخرى مثل المشاركة بالمظاهرات وجمع التبرُّعات لشراء الأسلحة وجمع المعلومات الاستخباراتية.
وكنّ في إطار عملهن السرّي يرتدين لباس الرجال ويضعن اللثام للتخفّي في هيئة رجال، ولا يزال السروال الذي ارتدته ناريمان خورشيد في عمليات المنظمة موجودًا لدى عائلتها في القاهرة، إلى جانب منظار عسكري استخدمته عضوات المنظمة في الرصد والمتابعة.
طبيعة النشاط العسكري لـ”زهرة الأقحوان”
سافرت ناريمان -شقيقة مهيبة مؤسسة التنظيم- قبل شهور من نكبة 1948 إلى مصر لتعلُّم الطيران، لاستغلال ما تتعلمه في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، ولا تزال عائلتها تحتفظ بصورتها بلباس الطيّارين إلى جانب طائرة في أحد المعاهد العسكرية المصرية بمنطقة إمبابة.
أما طبيعة عملهن العسكري كانت على تعتمد على شنّ الهجمات المباغتة ضد العصابات الصهيونية، ومن ضمن تلك المعارك التي خضنها كانت حين هاجمن وكرًا صهيونيًّا في ظلام الليل، وفوجئن بأن رجال العصابة يشربون الشاي ويصطلون بنار أوقدوها، فما وجدوا إلا البنادق مصوّبة إلى صدورهم، حاول رئيسهم التصدي لكن عاجلته رصاصة من إحداهن حتى أردته، فرفع الباقون أيديهم وسلّموا أنفسهم، وتمَّ اقتيادهم إلى المعسكر العربي.
وفي إحدى الهجمات، كادت مؤسِّسة التنظيم أن تقع في الأسر بعد أن نفدَت ذخيرتها وأصابتها الشظايا، لكن عددًا من المجاهدين العرب هبّوا لنجدتها، وبعدها قررت السفر إلى عمّان وقصدت القصر الملكي لطلب الدعم بالسلاح.
انتهى عمل التنظيم عندما ضيّق الاحتلال الإسرائيلي أكثر على الفلسطينيين، وبدأت عمليات التهجير العرقي الدامي في يافا، حتى اضطرت مهيبة الانتقال إلى مصر مع شقيقتها والعيش هناك كلاجئة فلسطينية وتزوّجت وعملت بالتدريس، لكن مع مرور السنين لم يُسمح لها بالعودة إلى فلسطين المحتلة حتى توفيت عام 2000.
ورغم قصر مدة عمل تنظيم “زهرة الأقحوان”، إلا أنه شكّل تطورًا كبيرًا على صعيد المقاومة الفلسطينية خلال سنوات نشاطه، فما أثبته على أرض الواقع عكسَ قدرة النساء على التخطيط وقيادة مهمّات عسكرية وتجنيد المال والسلاح بالشكل السليم، حتى توارثت المناضلات الحديثات تلك الثقافة العسكرية القديمة لتنفيذ العمليات البطولية التي وقعت في العقود الأخيرة.