تمر تجربة الثورة التونسية بأصعب لحظاتها وأكثرها مفصلية، فبعد أن نجح حزب نداء تونس في الفوز بالانتخابات التشريعية التي أُقيمت يوم 26 أكتوبر الماضي، ازدادت فرص الحزب في الفوز بالانتخابات الرئاسية التي ستقام جولتها الثانية خلال أسابيع بين مرشح نداء تونس “الباجي قائد السبسي” والرئيس الحالي “منصف المرزوقي”.
ورغم عدم وجود تشكيكات جدية في نزاهة العملية الانتخابية، يعتبر صعود حزب نداء تونس مبعثًا للقلق، حيث إن هذا الحزب يضم في صفوفه شخصيات من أبرز قيادات النظام القديم، كما أن الحزب دعا علنًا في صيف 2013 إلى الإطاحة بكل المؤسسات المنتخبة في تونس وتكرار تجربة “تمرّد” المصرية، وبعد الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية أصدر رئيس الحزب ومرشحه “الباجي قائد السبسي” تصريحات خطيرة قال فيها إن من انتخبوا منافسه هم “الإسلاميون والمتشددون والجهاديون والتكفيريون”.
وتكمن خطورة تصريحات السبسي في كونها أبدت عدم مبالاته بما سينتج عنها من حالة استقطاب حادة في المجتمع التونسي، وتزداد خطورتها عندما نجد أنه صرح مجددًا أنه لا مفر من هذا الاستقطاب الثنائي في الجولة الثانية، وعندما حمل المسئولية لحركة النهضة وانشغل هو وحزبه بمهاجمتها بسبب عدم إجبارها لقواعدها بالوقوف على الحياد في الجولة الأولى، الأمر الذي بدا فيه حزب نداء تونس كأنه يحاسب أنصار حركة النهضة على انتخابهم للمرزوقي.
عدم المبالاة التي أظهرها السبسي وحزبه، نجد عكسها تمامًا لدى رئيس حركة النهضة، الشيخ “راشد الغنوشي”، الذي نشر كلمة مسجلة مساء الأمس بدا فيها شديد الارتباك وهو يدعو قيادات وقواعد الحركة إلى الحياد التام في الجولة الثانية من الانتخابات، قائلاً: “حركة النهضة ليست جزءًا من المعركة، تركنا الحرية لأنصارنا لاختيار أي مرشح، نحن جادون وصادقون في ذلك”، مضيفًا: “لنتقي الله في بلادنا .. هذه أمانة بين أيدينا .. أجدد الدعوة إلى التهدئة وإلى تجنب كل الاحتشادات وكل مظاهر الحشد حتى لو كان ذلك لأجل قضية جيدة مثل قضية فلسطين حتى لا تختلط الأمور .. لن نتظاهر في هذه الأيام حتى لا تختلط الأمور”.
وإن كان الغنوشي لم يقدم تفسيرات كافية لحالة الارتباك التي ظهر فيها وللتحذيرات التي وردت في كلمته، فإن السبب المنطقي لهذا القلق هو قيام قيادات حزب نداء تونس وخاصة “الباجي قائد السبسي” و”محسن مرزوق”، بإصدار تصريحات حادة تؤدي بشكل مباشر إلى زيادة حالة التوتر في الشارع وإلى تعميق حالة الاستقطاب التي بدأت تتحول إلى مظاهرات ضد الحزب في بعض المدن التونسية، بالإضافة إلى خوف حركة النهضة من استغلال حالة الاحتقان هذه وتطورها حتى يتم اللجوء في وقت لاحق إلى استخدام الحل الأمني كطريقة مطابقة لما فعله نظام زين العابدين بن علي في أول عهده في مطلع التسعينات.
وعلى عكس ما يروج له من نجاح للثورة التونسية ومن فقدان النظام القديم لعناصر قوته، لازال النظام القديم قويًا وسيكون أشد قوة في الأيام القادمة، سواء فاز السبسي بالرئاسة أو لم يفز، خاصة بعد أن ضمن شرعية تشكيل الحكومة التي ستتيح له وضع يده على وزارة الداخلية، العصب الأساسي لحكم زين العابدين بن علي، وخاصة في حال استمرار حالة الاحتقان التي ربما تتفاقم بشكل كبير في حال فوز المرزوقي بالرئاسة وفي حال حدوث تصادم بين رأسي السلطة التنفيذية، الرئيس ورئيس الحكومة.
وفي سنة 1997 وصل السياسي التركي “نجم الدين أربكان” إلى حالة مشابهة للحالة التي وصل إليها المشهد التونسي، مع وجود اختلافات كثيرة، وكان أمامه خيارات كثيرة من بينها ممارسة حقوقه السياسية بشكل طبيعي والبقاء على رأس الحكومة الائتلافية وممارسة حقوقه كرئيس للوزراء، أو البقاء في السلطة والرضوخ لإملاءات النظام، فاختار التخلي عن كلا الخيارين واستقال من السلطة في هدوء خوفًا من توريط بلده في صراع بين النظام من جهة وفئة من الشعب من جهة أخرى كما حدث في تركيا سنة 1982 وكما يحدث اليوم في مصر.
وكما أن بإمكان النهضة اليوم أن تمارس حقوقها السياسية بشكل طبيعي وتقرر دعم المرزوقي لمنع سيطرة نداء تونس على رأسي السلطة التنفيذية إلى جانب السلطة التشريعية، فإن بإمكانها أن تعترف بأنها خسرت هذه المعركة وأن تعود إلى بيتها الداخلي وتراجع أخطاءها التي جعلت حوالي ثلث من صوتوا لها في سنة 2011 يمتنعون عن التصويت لها في الانتخابات التشريعية في سنة 2014، وأن تسعى جاهدة إلى تجنب التصادم مع النظام الذي أفصح أكثر من مرة عن عدم خشيته من تقسيم الشعب وعن استعداده لتوظيف الإرهاب لأجل العودة إلى سدة الحكم وعن عدم خجله من التباهي بعلاقاته مع نظام بشار الأسد في سوريا، وبعلاقاته مع نظام الجنرال عبد الفتاح السيسي في مصر.