على نحوٍ مفاجئ، أعلن الاحتلال عن دعمه لمشروع “ماجن” التي تستهدف تجنيد المستوطنين في القدس المحتلة وتدريبهم على حمل السلاح، مع نشر مئات الكاميرات في الشوارع والبلدات الفلسطينية لتعزيز القبضة الأمنية على المدينة.
ويقوم المشروع الذي أُطلق عليه اسم “ماجن” على تشكيل مجموعات مسلحة من المستوطنين، بحيث يتمّ تشكيل فرق “احتياطية” من عناصر مَهَرة للتدخّل إلى حين وصول الجيش أو الشرطة لأماكن الأحداث، إضافة إلى نصب 3 آلاف كاميرا مراقبة جديدة في جميع أنحاء مدينة القدس المحتلة.
وكجزء من هذا المشروع، سيحصل المستوطنون الذين سيتطوّعون ضمن هذه الميليشيا على موافقة سريعة للحصول على الأسلحة وتلقّي برامج تدريب، وسيحصلون على شهادة من الشرطة ومعدّات عسكرية كنتيجة للمشروع.
اللافت أن هذا المشروع لم يأتِ بشكل تطوعي، بل تشرف عليه بلدية القدس التابعة للاحتلال بالتعاون مع جمعية “يهودا الخالدة” ووزارة الأمن الداخلي وشرطة الاحتلال، من أجل إنشاء فصول احتياطية مجتمعية في القدس المحتلة.
والملاحظ أن الآونة الأخيرة، وتحديداً منذ مارس/ آذار الماضي، تعالت الأصوات داخل الاحتلال المطالِبة بحمل السلاح تحت ذريعة الحماية والتصدي للعمليات، بعد موجة العمليات التي ضربت الأراضي المحتلة عام 1948 في تلك الفترة.
وصدرت أبرز الدعوات عن رئيس الائتلاف الحكومي السابق نفتالي بينيت وشخصيات إسرائيلية رسمية، وهو ما يعكس ضعف الشعور بالأمان لدى الإسرائيليين مع تنامي المقاومة الفلسطينية منذ نهاية معركة سيف القدس.
تاريخ العصابات الاستيطانية
عند الحديث عن عصابات المستوطنين يجب العودة إلى الوراء وبالذات إلى بدايات الاحتلال لنفسه، حيث ظهرت حينها العصابات الصهيونية -منها “البالماخ” و”الإرغون” و”الهاغاناه” و”شتيرن” وغيرها- وتسببت في قتل وتهجير الشعب الفلسطيني إبّان النكبة (1948)، وتعكس الفكر الإرهابي المتأصّل في مشروع الحركة الصهيونية للاستيطان في فلسطين.
صورة لعصابات الهاغاناه
وارتكبت هذه العصابات مذابح ومجازر شهيرة في التاريخ الفلسطيني، منها مجازر دير ياسين والطنطورة وبلد الشيخ وأبو شوشة بهدف تهجيرها، وهي العقلية ذاتها التي نفّذت مجزرة كفر قاسم عام 1956 لترويع الفلسطينيين في منطقة المثلث، وإجبارهم على الهجرة إلى الأردن.
ولعقود طويلة وظّفت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة جماعات المستوطنين للنشاط بالضفة الغربية والقدس المحتلتَين، حيث وفّرت لهم الغطاء القانوني والدعم المالي والسياسي، كما حظيت هذه الجماعات بدعم الحاخامات وارتكبت الجرائم بلا عقاب.
وأظهرت معطيات شرطة الاحتلال أن 3.8% فقط من ملفات اعتداءات المستوطنين ضد فلسطينيين انتهت بلوائح اتّهام، إذ أكّدت منظمة “ييش دين” الحقوقية أن “جهاز إنفاذ القانون الإسرائيلي يسمح على مرّ السنين باستمرار بانفلات المستوطنين، وسط فشل الشرطة الإسرائيلية في معالجة عنف المستوطنين ضد فلسطينيين”.
إرهاب المستوطنين في الضفة.. النشأة والظهور
انطلق إرهاب المستوطنين في 12 أبريل/ نيسان 1968، حيث سُجّل أول اعتداء منظَّم من قبل المستوطنين ضد الفلسطينيين، وذلك عندما قامت مجموعة منهم بقيادة الحاخام المتطرف موشيه ليفنغر باقتحام فندق النهر الخالد وسط مدينة الخليل للاحتفال بعيد الفصح العبري.
رفضَ ليفنغر إخلاء الفندق المملوك لعائلة القواسمة للاحتفال بعيد الفصح، وبقيَ فيه مع مجموعة من المستوطنين المدجّجين بالسلاح، وشكّلت هذه الحادثة عمليًّا موطئ القدم الأولى للاستيطان في الخليل وجنوب الضفة الغربية.
ووظّف الحاخام ليفنغر العربدة وترويع الفلسطينيين بالخليل بحماية من جيش الاحتلال لتوسيع المشروع الاستيطاني هناك، وبعد حوالي 10 سنوات من زرعه بقلب الخليل القديمة والسيطرة على الفندق، ومع تولّي حزب الليكود برئاسة مناحيم بيغن السلطة في الاحتلال، منح الاحتلال التسهيلات لمجموعة المستوطنين بقيادة ليفنغر للسيطرة على العقارات وممتلكات الفلسطينيين في شارع الشهداء الشهير بالمدينة.
الحاخام موشي ليفنغر (وسط) في الخليل عام 1996
ودفعت حكومة بيغن عام 1980 أشد المستوطنين تطرفًا للاستيطان في قلب الخليل، بعد السيطرة على مبنى الدبويا الذي سمّاه المستوطنون “بيت هداسا”، وهو ملاصق للمسجد الإبراهيمي الشريف.
ومع مطلع الثمانينيات من القرن الماضي تمَّ تشكيل “التنظيم اليهودي الأسري” الذي قاده المستوطنون، والذي انطلقت نواته من قلب الاستيطان في الخليل، وكان في عضويته صهر الحاخام لفنيغر، وبدأت فكرة التنظيم كـ”جماعة أهلية” تابعة لحركة “غوش إيمونيم” التي تنشط في دعم المستوطنين وتوسيع المشروع الاستيطاني، واندرج تحت لوائه 27 مسلحًا، غالبيتهم العظمى شغلوا مناصب عليا في الحركة ومنظمات استيطانية أخرى، وأسّسَ التنظيم السرّي الثلاثي مناحيم ليفني، يهوشع بن شوشان ويهودا عتصيون.
أتت فكرة تشكيل التنظيم السرّي الذي نشط حتى عام 1984 ردًّا على توقيع اتفاقية كامب ديفيد، التي أفضت إلى معاهدة السلام الإسرائيلية المصرية عام 1979.
وسعى التنظيم إلى إحباط اتفاقية السلام بين تل أبيب والقاهرة، إذ رأى فيها المقدمة الأولى لإقامة الدولة الفلسطينية بالضفة الغربية وغزة وشرقي القدس، كما أنه هدف لتوسيع الاستيطان في الضفة الغربية والأغوار، وعدم اقتصاره على منطقة الخليل.
وتعدّ عصابة “شبيبة التلال” مجموعة استيطانية متطرفة، يعيش معظم أعضائها، وتعدادهم بالآلاف، في بؤر استيطانية وخيام على قمم جبال الضفة، ويسكنون في مزارع ومبانٍ متنقّلة ضمن مناطق مفتوحة خارج المستوطنات وفوق أراضٍ بملكية خاصة للفلسطينيين.
في 16 نوفمبر/ تشرين الثاني 1998، أعطى وزير الأمن الإسرائيلي آنذاك، أرييل شارون، الضوء الأخضر لتأسيس “شبيبة التلال”، وحثّ شباب المستوطنين على “الاستيلاء على قمم التلال”، وذلك سعيًا منه لإحباط محادثات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ولا سيما تنفيذ اتفاقية واي ريفر التي أبرمها منافسه السياسي بنيامين نتنياهو مع السلطة الفلسطينية.
عصابة “شبيبة التلال”
ويؤمن أتباع هذه العصابات، وهي صاحبة فكرة البؤر الاستيطانية ومشاريع الاستيطان الرعوي، بـ”أرض إسرائيل الكبرى”، إذ يعتبرون الفلسطينيين دخلاء ويجب طردهم من البلاد للحفاظ على “يهودية الدولة”، وشرعوا في نشاطهم الإرهابي بالضفة ليتوسّع لاحقًا ويمتدّ إلى جانبَي الخط الأخضر.
ومع توغُّل المشروع الاستيطاني في الضفة والأغوار والقدس، وهيمنة المستوطنين على معسكر اليمين الإسرائيلي، ومحاولات المجتمع الدولي الدفع نحو حلّ الدولتَين، ظهرت عام 2008 عمليات إرهابية وهجمات على الفلسطينيين وممتلكاتهم وأراضيهم.
ووقعت الهجمات والاعتداءات تحت اسم “تدفيع الثمن”، وانطلقت من مستوطنة “يتسهار”، إذ أتت انتقامًا من الفلسطينيين لدورهم في المقاومة الشعبية أو العمليات المسلحة التي تنفَّذ ضد الاحتلال، وكذلك سعيًا لعرقلة أي توجُّه لتجديد مسار المفاوضات مع الفلسطينيين.
ومنذ ذلك الحين تُسجَّل سنويًّا مئات العمليات الإرهابية والهجمات على الفلسطينيين، وتستهدف أيضًا المساجد والكنائس والمقابر والمواقع الأثرية التي يتم تدمير معالمها التاريخية العربية والإسلامية واستبدالها بمعالم توراتية مزيَّفة.
ثقافة حمل السلاح.. جيش أصله “عصابات”
الباحث والمختصّ في شؤون القدس، جمال عمرو، يقول إن الإعلان الإسرائيلي الأخير عن تشكيل “عصابات استيطانية” غرضها الرماية والقتل ليست الأولى، وهي تعود إلى فترة ما قبل ظهور المشروع الصهيوني على أرض فلسطين.
ويضيف عمرو لـ”نون بوست” إن إجمالي المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية منذ قيامها على أرض فلسطين تبلغ 178 مجزرة، وبالتالي هناك تاريخ وثقافة يقومان على أساس حمل السلاح إلى جانب أن أصل جيش الاحتلال هو “العصابات”.
ووفق الباحث في شؤون القدس، فإن مناحيم بيغين، راعي مجزرة دير ياسين، يُعتبر أحد المطلوبين دوليًّا في السابق على خلفية هذه المجزرة، وهو أحد قادة الاحتلال سياسيًّا وعسكريًّا، وبالتالي لا يوجد فرق بين العسكري والمدني في الاحتلال.
ويشير إلى أن المحطات التاريخية المتعددة شهدت دعمًا رسميًّا من قبل الاحتلال لفكرة حمل السلاح، كان أبرزها في الانتفاضة الأولى عام 1987 حيث نفّذوا عمليات اغتيال بحقّ الفلسطينيين وكانت الجرائم تمرّ بسلام، وكذلك في الانتفاضة الثانية.
وعن الدوافع والأهداف، يرى عمرو أن الاحتلال يريد تثبيت الاستيطان بديلًا عن الفلسطينيين، فهو لا يؤمن بوجود الضفة الغربية أو القدس الشرقية على الإطلاق، وأن الاحتلال دولة موحَّدة من البحر إلى النهر باستثناء إدارات مدنية فلسطينية مقطّعة الأوصال.
يؤكد المختص في شؤون القدس، جمال عمرو، أن الآثار المترتّبة عن رعاية هذه المشاريع رسميًّا، سواء كانت “ماجن” أو غيرها، تؤدّي إلى تقوية المستوطنين وجبهتهم ومنحهم مزيدًا من الجرأة، وإفلات الجيش من المحاسبة باعتبار أن من يقوم بالإعدامات هم المستوطنون.
ويضيف: “المطلوب من هذه الرعاية ردع الشعب الفلسطيني وإخافة الفلسطينيين وافتتاح بؤر استيطانية جديدة تحت تهديد السلاح حتى بالمقاومة الشعبية التي يتم الترويج لها، بحيث يُراد للفلسطينيين أن يتحولوا إلى مفعول به دائمًا”.
وبحسب عمرو، هناك مليون مستوطن في الضفة الغربية يصنعون جمهورًا إسرائيليًّا له وزن ديموغرافي يمنع أي تمدد عمراني للفلسطينيين في مناطق التقسيم “أ” و”ب” و”ج”، ويحظر عليهم البناء على أرضهم تحت ذريعة هذه التقسيمات.