تستحوذ السينما الهندية على وجدان الكثير من الجماهير في العالم العربي، يرجع السبب في ذلك الانتشار لكونها تقدّم قصصًا مسليّة رائعة تجعل المشاهد يسبح في عالم الخيال ويحلم مع أبطال الأفلام بحياة أفضل، فمعظم الأفلام الهندية ميلودرامية، موسيقية، غنائية، تقوم على قصص العنف والمطاردات مع إضافة عناصر التشويق إلى قصص المغامرات العاطفية والأساطير، بما في ذلك من الثأر والانتقام والخيانة والتمرد والخطف، إضافة إلى عمليات الاختلاس والتزوير وترويج المخدرات وتهريب الأسلحة.
ولطالما عُرفت السينما الهندية بمبالغاتها المتعلقة بالإغراق في الميلودراما واللّامعقول في أفلام الحركة (الأكشن)، الذي يتجاوز بقدر كبير فكرة “السوبر هيرو” في السينما الأميركية، إذ لا يمكن تخيُّل شخص -مهما بلغت قوته- وهو يحمل سيارة بيد واحدة، أو ينجو من عشرات الطلقات النارية، ثم يقفز ليطيح بـ 50 شخصًا في دقائق معدودة.
لكن في الآونة الأخيرة، وبعد أن كثرت الانتقادات للميلودراما في السينما الهندية، اتّجه روّاد صناعتها إلى تكثيف إنتاج الأفلام الواقعية التي تناقش قضايا اجتماعية مهمة، كالزواج والفقر المستشري والصحة والتعليم وغيرها.
إيرادات بلغت 34 مليون دولار
فيلم Pad Man (رجل الفوطة) أو (رجل الحيض) كان واحدًا من بين أشهر الأفلام الاجتماعية التي أنتجتها السينما الهندية مؤخرًا، إذ حقّق إيرادات بلغت 34 مليون دولار أمريكي في جميع أنحاء العالم، حيث تمّ عرضه بالتزامن في 5 أسواق دولية هي الولايات المتحدة وكندا والصين واليابان، بالإضافة إلى الهند، ولاحقًا أصبحَ الفيلمُ الهندي الأول الذي يُعرَض في 50 دولةً حول العالم، ومن الأفلام النادرة التي مُنحت حق التصوير في مقرّ الأمم المتحدة في نيويورك.
يناقشُ الفيلم قضيةً تُعتبر من المحرّمات، فقد سلّط الضوء على احتياجات النساء أثناء الدورة الشهرية لـ”الفوط الصحية”، من خلال دراما كوميدية جديدة مليئة بالطرافة، وهو الأسلوب الذي يتبعه نجم العمل أكشاي كومار دومًا لجذب المشاهدين.
الفيلم مقتبس من أحداث حقيقية، إذ يتناول قصة رائد الأعمال الهندي أروناكلام موروغانانثام Arunachalam Muruganantham، الرجل الذي قام بتصنيع الفوط الصحية للنساء الفقيرات في قريته بأسعار مخفَّضة، بعد أن لاحظ معاناتهنّ في اقتناء الفوط العالمية بسبب تكلفتها الباهظة.
بطولة مشتركة
تَشارك الممثل الهندي المعروف أكشاي كومار بطولة الفيلم مع النجمة الجميلة سونام كابور، مثّل كومار (لاكشمي في الفيلم) دور شاب متزوّج حديثًا، يعشق زوجته بجنون، ويسعى بكل السبل للاهتمام بها والخوف عليها، إلى أن يلمح يومًا ما قطعة قماش متّسخة في يدها تحاول أن تداريها عنه، فيكتشف أنَّ تلك الخرقة هي وسيلة زوجته للاهتمام بنفسها في فترة الدورة الشهرية.
يخشى الزوج أن تُصاب زوجته بالأمراض بسبب ذلك، فاتّجه إلى متجر صغير لشراء فوطة صحية، ليكتشف أنَّ هذه السلعة مرتفعة الثمن بشكل مبالغ فيه، لذلك اضطرَّ إلى الاستدانة من صديق له ليكمل الثمن، ثم لاحظ أنَّ البائعَ قام بلفّ العلبة وكأنَّه يعطيه شيئًا محظورًا.
عاد لاكشمي بهذه الهدية الثمينة لزوجته، فرفضتها رفضًا قاطعًا، لأنَّ ثمنها سيدمّر ميزانية الأسرة، وربما يحرمهم من شراء الحليب، هذا الأمر كانَ نقطةَ تحول في حياة الزوج الذي قرّر أن يصنع فوطًا صحيةً لزوجته بتكلفة قليلة، فأصبح شغله الشاغل حتى على حساب عمله في ورشة الحديد.
حاول لاكشمي إعادة الفوطة بعد إصرار زوجته على عدم استخدامها، لكن صاحب المحل رفضَ، ثم عاد البطل إلى الورشة التي يعمل بها، ويُصادف أن يُجرح أحد العاملين في الورشة، ليسارع لاكشمي إلى تضميد الجرح بالفوطة الصحية التي كان يحملها في جيبه، بدلًا من خرقة متّسخة كان رفاقه يريدون تغطيته بها.
وعندما ذهبوا بالجريح إلى الطبيب أثنى على ما فعله لاكشمي، وقال لهم إن الأقمشة المتّسخة كان من الممكن أن تسبّب التهابات للجرح وأن الفوط الصحية معقّمة، ويفهم لاكشمي أن كثيرًا من النساء في القرية أُصبن بالأمراض، وربما بالعقم، بسبب استخدامهن للأقمشة المتسخة أو حتى الرماد للتعامل مع الدورة الشهرية.
لاحقًا، أدرك البطل أن المواد الخام التي تُستخدَم في صناعة الفوطة الصحية لا تتجاوز 10 روبيات (أقل من ريال سعودي واحد)، ولكن المنتَج يُباع بـ 40 ضعفًا لهذا السعر، ما جعله يصمِّم على فكرة تصنيع الفوطة بسعر في متناول اليد.
يستعرضُ الفيلم في قالب كوميدي رومانسي لا يخلو من الطرافة، محاولات لاكشمي المتعددة لصناعة الفوطة الصحية، والتي تأرجحت بين الفشل والفضيحة والطرد من القرية بسبب الوصمة، إذ تمَّ تصنيفه على أنه “منحرف” بسبب اهتمامه بهذه القضية.
بعد عامَين من التجارب المرهِقة، يكتشفُ بطل الفيلم أن الشركات التي تنتج الفوط الصحية التجارية تستخدم ألياف السليلوز المستمدة من لُبّ خشب الصنوبر، حيث تساعد الألياف على الامتصاص مع الحفاظ على الشكل، فابتكر آلة منخفضة التكلفة يمكن تشغيلها بأقل قدر من التدريب، واستخرج اللُّبّ المعالج من خشب الصنوبر من مورد في مومباي، لتقوم الآلة بطحن وتصنيع وتعقيم وضغط الفوط تحت ضوء الأشعة فوق البنفسجية قبل تغليفها للبيع، وبلغت تكلفة الماكينة المبتكرة 940 دولارًا أمريكيًّا فقط.
بهذه التكلفة الزهيدة وصل إلى قمة النجاح باختراع يغيّر حياة ملايين النساء، إذ أشارت الدراسات إلى أن 2% فقط من النساء الهنديات في المناطق الريفية يستخدمن الفوط الصحية، والأغلبية العظمى منهن يستخدمن قطع قماش غير صحية للاعتناء بأنفسهن خلال الدورة الشهرية.
تحدّي الفوط
Pad Man Challenge (تحدي الفوط الصحية)، هو تحدٍّ دعا إليه صاحب القصة الحقيقية، رائد الأعمال الهندي أروناكلام موروغانانثام مع بدء الترويج لفيلم Pad Man، ويتمثّل التحدي في نشر صورة للمشارك على حساباته الرسمية على مواقع التواصل الاجتماعي حاملًا فوطة صحية، وهو ما قام به موروغانثام، ثم دعا إليه فريق عمل الفيلم، فاستجاب له بطل الفيلم أكشاي كومار، والمنتجة توينكل خانا.
هدف التحدّي هو دعم النساء في الهند، ورفع الوصمة الاجتماعية المصاحبة لكلِّ ما يخصّ فترة الحيض، وهو بذلك دعوة للحديث دون خجل عن آلام تلك الفترة الجسدية والنفسية، بعد أن كانت مثل هذه الدعوة من المحرمات.
استجاب للمبادرة عددٌ كبيرٌ من نجوم السينما الهندية، منهم عامر خان، ديبيكا بادوكون، أنيل كابور، أرجون كابور، أنوشكا شارما، فارون دهاوان وعاليا بهات.
معاناة المرأة في المجتمع الهندي
“نحن النساء نفضّل الموت بالمرض، على العيش بالخجل!”، هذه العبارة وردت على لسان بطلة الفيلم وهي تلخّص معاناة المرأة في المجتمعات التي يسودها الجهل، حيث تعاني النساء من الاضطهاد والظلم في الهند بسبب الثقافة الشعبية من ناحية، والسطوة الدينية من ناحية أُخرى، وتحديدًا في القرى الفقيرة تصبحُ أمورٌ كاستخدام الفوط الصحية رفاهيةً بعيدة المنال لأسباب عديدة.
من خلال الفيلم، نكتشف أن المرأة في الريف الهندي عندما يأتيها الطمث يحرم عليها دخول المنزل لأنها “غير طاهرة”، وبالتالي تقضي 5 أيام كل شهر في غرفة مخصَّصة خارج المنزل، أشبه بشرفة لكنها محاطة بسياج حديد حتى لا يهاجمها أحد من الغرباء، وتظل جالسة في تلك الغرفة لا تفعل شيئًا، لا تقوم بأعمال المنزل أو أي عمل، كما أن الدين يلعب دورًا حاسمًا في كل هذا الازدراء، فعند مدخل المعابد الهندوسية غالبًا ما تكون هناك علامة تقول: “ممنوع الأحذية والكاميرات والمرأة الحائض”.
تعليقًا على الموضوع، قالت ديبسيتا شار، رئيسة اتحاد الطلبة في جامعة جواهر لال نهرو في العاصمة الهندية نيودلهي: “عندما أتت لي الدورة الشهرية لأول مرة، أعطتني والدتي قطعة قماش قطنية بدلًا من منشفة صحية.. بعد كل استخدام كان يتم غسلها ثم استخدامها مرة أخرى”.
أضافت شار: “اليوم تشتري الفوط الصحية، لكنها تذهب إلى متجر بعيد حيث لا يعرفها العاملون فيه، وفي المتاجر التجارية الصغيرة في الهند حيث يجب أن تُطلَب السلع مسبقًا، يتمّ لفّ الفوط الصحية في ورقة ثم توضع داخل كيس من البلاستيك الأسود حتى لا يستطيع أن يراها أحد”.
إذا عدنا إلى الفيلم، يلاحَظ أن البطل اصطدم أيضًا بهذه المحظورات، فقد رفضت زوجته وشقيقاته تجربة الفوط التي أنتجها، لأنَّ المجتمع الهندي يحيط فترة الحيض بهالة من العيب والحرج، ورفضت كذلك طالبات الجامعات عرضه لاختبار الفوط الصحية هذه، فما كان منه إلَّا أن قامَ بتجربة الفوط الصحية بنفسه.
صنع بطل الفيلم لاكشمي ما يُشبه الرحم الصناعي، باستخدام البطانة المطاطية الموجودة داخل كرة القدم، حيث وضع فيها دم حيوان، ثم أحدثَ ثقبًا صغيرًا داخلها، ووصله بأنبوب يصل إلى سرواله الذي يحتوي على الفوطة الصحية التي صنعها، واختبرها مع العديد من النشاطات الرياضية، مثل رياضات المشي وركوب الدراجة والقفز.
“أمريكا لديها سوبرمان، باتمان، سبايدرمان وغيرهم من الأبطال الخارقين، لكن الهند لديها Pad man، البطل الخارق الحقيقي، الذي حارب الجهل والفقر وانتصر!”
بعد نجاحه في تحقيق هدفه، قامت الحكومة الهندية والمجتمع الدولي -بما في ذلك الأمم المتحدة- بتكريم البطل الذي كانت تنبذه أسرته ومجتمعه في وقت سابق، لدرجة أنه كان يشعر بالحرج لاهتمامه الشديد بموضوع الصحة النسائية.
ويؤكد صاحب القصة الحقيقية أن 85% من أحداث فيلم Pad Man حدثت بالفعل، مضيفًا في حوار صحفي وهو يتحدث عن تجربته الخاصة: “لقد عانيت كثيرًا عندما حاولت صنع فوط صحية والترويج للفكرة. لقد هجرتني عائلتي -بما في ذلك والدتي وزوجتي-، حتى أن القرويين قيدوني بشجرة وضربوني. لكن بعد رؤيتي ناجحًا الآن، يأتون ويقولون إنهم جميعًا كانوا يعلمون أنني سأصبح مشهورًا في يوم من الأيام”.
وتابع قائلًا: “رغم تخوُّفنا من مواجهة بعض القضايا في الدول العربية، فقد تمَّ عرض الفيلم في كل الأماكن باستثناء باكستان. إنه إنجاز عظيم لنا”.
الفيلم مميز ورائع، لأنه أولًا ينبّه إلى التوعية بأهمية الفوط الصحية، وخطورة الممارسات التي تقوم بها نسبة كبيرة من النساء، كما يقدّم Pad Man تجربة واقعية للنضال الاجتماعي ومساعدة الناس، والأهم أنه يبرز كيف أن المجتمع الهندي، وخاصة في الريف، ما زال يعاني من وطأة ذكورية مستفحلة، فالنساء وقت الدورة الشهرية يعاملن على أنهن غير طاهرات، حيث يتم عزلهنّ عن المنزل لمدة 5 أيام في كل شهر.
أما أجمل العبارات التي جاءت في الفيلم، فقد وردت على لسان البطل، عندما قال: “أمريكا لديها سوبرمان، باتمان، سبايدرمان وغيرهم من الأبطال الخارقين، لكن الهند لديها Pad man، البطل الخارق الحقيقي، الذي حارب الجهل والفقر وانتصر!”.