تتّجه أنظار العالم اليوم إلى إسطنبول التي تحتضن مراسم التوقيع على آلية تصدير الحبوب الأوكرانية، اتفاقية من المرتقب أن تساهم في وضع حدّ لجزء من الأزمة العالمية للغذاء، إذ تسبّبت الحرب الروسية ضد أوكرانيا في نقص كبير للحبوب وتصاعُد الجوع في جميع أنحاء العالم.
وساطة ناجحة
من المنتظر أن يتمَّ توقيع الاتفاقية عشية اليوم الجمعة بمشاركة الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، وحضور وفدَي روسيا وأوكرانيا، وكان من المفترض أصلًا توقيع الاتفاقية يوم الأربعاء، ثم تمَّ تأجيلها إلى يوم الخميس وبعدها إلى اليوم الجمعة.
ينصّ هذا الاتفاق الذي جاء بعد جولات من المفاوضات على إنهاء الخلافات والتحفُّظات بين موسكو وكييف بشأن آليات إخراج الحبوب، من ذلك إعادة استخدام البحر الأسود عبر ممرات آمنة ووقف إطلاق النار في مناطق عبور الحبوب.
وتمَّ الاتفاق على أن يتمَّ تصدير القمح الأوكراني عبر 3 موانئ أوكرانية (أوديسا ونشورنومورسك ويوجني)، وسيكون خطّ سير السفن تحت رعاية الأمم المتحدة، على أن يتمَّ توسيع خطوط التصدير مستقبلًا، بالتالي ستقوم كييف بنزع الألغام البحرية التي تمنع وصول السفن الحربية الروسية إلى أوديسا.
ويشترطُ نصّ الاتفاق أن يتمَّ تفتيش كل السفن التجارية المعدّة لنقل الحبوب والتي ستمرُّ عبر البحر الأسود عن طريق السلطات التركية -راعية الاتفاق-، للتأكُّد من أن السفن المتجهة إلى جمع الحبوب لا تحتوي على أسلحة، فضلًا عن تفتيش نقاط الخروج والوصول في الموانئ، وضمان سلامة الملاحة في مسارات التنقل.
لا تتوقف الوساطة التركية عند حدود مسألة الحبوب فقط، وإنما تمتدّ إلى ملف وقف الحرب
في المقابل وعدت واشنطن بما يُسمّى بضمانات “الراحة” حتى تتمكن شركات الشحن من تزويد روسيا بسفن كبيرة لتصدير الحبوب والأسمدة، دون أن تتعرض للعقوبات المفروضة على روسيا بسبب حربها ضد أوكرانيا.
وقبل هذا الاتفاق كانت السفن الروسية لا تستطيع الرسو في كثير من الموانئ، نتيجة العقوبات المفروضة على موسكو والشروط المفروضة على السفن الروسية للرسو في الموانئ، ما أثّر على حركة السفن المحمّلة بالحبوب.
كما تنصّ الاتفاقية على توفير الوسائل الكفيلة بإيصال ثمن الحبوب التي تصدّرها موسكو إلى الأسواق العالمية للبنوك الروسية رغم أنها تخضع لعقوبات مشدّدة، على أن يتمَّ أيضًا إنشاء مركز تنسيق في إسطنبول يضمّ ممثلين لجميع الأطراف وبمشاركة خبراء من الأمم المتحدة متخصصين في الملاحة البحرية، وذلك لضمان تطبيق الاتفاق على أحسن وجه وألّا يتمّ التلاعُب ببعض بنوده لصالح أحد الأطراف.
جاء هذا الاتفاق بعد أشهر من الحرب الروسية ضد أوكرانيا، والتي تسبّبت في بقاء أطنان من الحبوب الأوكرانية عالقة في موانئ البحر الأسود، إذ قامت موسكو بمحاصرة أوكرانيا منذ أول يوم في الحرب، رغم العقوبات التي فُرضت عليها.
جهود تركية لافتة
يشارك في توقيع الاتفاق الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الذي لعب دور الوسيط في هذه المفاوضات، وهو ما يؤكد أهمية الدور الذي لعبته تركيا للخروج من أزمة تصدير الحبوب التي تسبّبت في أزمة غداء عالمية.
وتعمل تركيا إلى جانب الأمم المتحدة منذ قرابة الشهرَين على إيجاد حلٍّ يرضي الطرفَين لاستئناف تصدير الحبوب إلى دول العالم عبر البحر الأسود، في ظلّ تواصُل المعارك العسكرية بين روسيا وأوكرانيا منذ فبراير/ شباط الماضي.
يعود نجاح الوساطة التركية إلى عدة أسباب، من بينها أولًا اشتراك تركيا في الحدود مع كلا البلَدين، وصفة البلد كقوة في البحر الأسود وعضو في الناتو، ما أهّلها للقيام بالمهمات الكبرى التي لها تأثير بتطورات الأحداث في العالم، وساهم هذا بدرجة كبيرة في نجاح مهمتها.
فضلًا عن ذلك، يعود هذا النجاح إلى العلاقات الوثيقة التي تربط أنقرة بكييف وموسكو سياسيًّا واقتصاديًّا، فبالنسبة إلى موسكو تظهر أهمية هذه العلاقات في التنسيق الكبير بين البلدَين في العديد من الملفات وتنامي التعاون الاقتصادي، إذ وصلَ حجم التبادل التجاري السنوي بين البلدَين إلى نحو 30 مليار دولار.
أما أوكرانيا، فتظهر أهمية علاقتها مع تركيا في تزويد أنقرة لكييف بأسلحة وتقنيات دفاعية لتطوير جيشها ودعم قدراتها القتالية والدفاعية، أبرزها طائرة بيرقدار المسيَّرة وموافقتها على إقامة مصنع كبير لتصنيع هذه الطائرات في أوكرانيا.
وسبق أن عبّر عدة مسؤولين عن أهمية الدور التركي في الوصول إلى اتفاق بين كييف وموسكو في هذا الخصوص، من ذلك رئيس الوزراء الإيطالي، ماريو دراغي، الذي عبّر عن تقديره الكبير لجهود الوساطة التركية لفتح ممرّ آمن في البحر الأسود لنقل الحبوب من الموانئ الأوكرانية، مؤكدًا أن هذه الجهود جديرة بالثناء.
لا تتوقف الوساطة التركية عند حدود مسألة الحبوب فقط، وإنما تمتدّ إلى ملف وقف الحرب، إذ نجحت أنقرة في انتزاع دور الوساطة لوقف الحرب الروسية الأوكرانية، متفوّقة على العديد من الدول الراغبة في أداء هذه المهمة.
سيكون للاتفاقية المتوقع إبرامها بين أوكرانيا وروسيا تأثير سريع في خفض أسعار العديد من المواد أبرزها السميد والطحين والزيوت
في هذا الصدد، التقى الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بنظيره الروسي، فلاديمير بوتين، في طهران قبل أيام، واحتضنت بلاده لقاءات بين وزيرَي خارجية روسيا وأوكرانيا، كما استقبلت مسؤولين كبارًا في البلاد ومسؤولين عن أطراف متدخلة في الحرب.
نتيجة هذه الوساطة المهمة، ستدعم تركيا مكانتها الإقليمية وسط كبرى الدول في العالم، فهي من كانت السبب في الوصول إلى حلّ له أن يساهم في إنهاء التدهور الكارثي للأمن الغذائي العالمي، ويعيد تجارة الحبوب إلى سالف عهدها.
كما ستكون لهذه الوساطة الناجحة عوائد اقتصادية مهمة، إذ ستنعش الأسواق التركية وتشجّع المستثمرين الأجانب على مزيد الاستثمار في البلاد، وهو ما سيعود بالفائدة على الليرة التركية التي شهدت في الأشهر الماضية تراجُعًا كبيرًا، كما ستفتح الوساطة الأبواب أمام أنقرة للفوز بجزء كبير من عقود إعادة الإعمار في حال حلَّ السلام في أوكرانيا.
أسعار الغذاء
من المنتظر أن تسمح جهود الوساطة التركية ببيع حوالي 20 مليون طن من الحبوب المتراكمة في الصوامع الأوكرانية عبر البحر الأسود، وهو ما سيكون له الأثر الكبير على السوق العالمية للحبوب، ويساهم في وضع حدّ للأزمة الحاصلة.
تعدّ كل من روسيا وأوكرانيا أبرز منتجَين للقمح على مستوى العالم، فهما ينتجان حوالي نصف الإنتاج العالمي من هذه المادة، لذلك كان تأثير الحرب الروسية الأوكرانية كبيرًا على أسعار الحبوب ومدى تواجدها في الأسواق.
سيكون للاتفاقية المتوقع إبرامها بين أوكرانيا وروسيا تأثير سريع في خفض أسعار العديد من المواد أبرزها السميد والطحين والزيوت، والتي شهدت ارتفاعًا كبيرًا في الأشهر الأخيرة، ما سيجنّب العالم أزمة غذاء كبرى ومشكلة إنسانية، إذ ساهمت الحرب بنصيب وافر في ارتفاع أسعار الغذاء، وفي شُحّ المواد الغذائية في البلدان الأكثر فقرًا.
يُذكر أن أزمة الغذاء مسّت عدة دول، لا سيما في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، ولكن أيضًا في لبنان ومصر وتونس ودول عربية أخرى، وبحسب تقديرات برنامج الغذاء العالمي يواجه نحو 49 مليون إنسان حول العالم مستويات خطيرة من الجوع، فيما ينام يوميًّا حوالي 811 مليون إنسان حول العالم دون عشاء.
تعوّل العديد من الشعوب على نجاح وساطة تركيا وإبرام اتفاقيات تصدير الحبوب والالتزام بتطبيقها ونجاحها، لتجنيب العالم أزمة غذائية ستودي بحياة ملايين البشر، خاصة من الفئات المحتاجة والتي لا دخل مستقرّ لها.