يبدو أن قدر العاصمة اللبيبة طرابلس في السنوات العشرة الأخيرة ارتبط بالعنف والاقتتال والفوضى، فما إن تنتهي مواجهات دامية بين مجموعات مسلحة هناك، حتى تبدأ أخرى، فكل الأنظار مسلطة نحوها والكل يسعى للسيطرة عليها، فمن سيطر على العاصمة وأهم مناطقها الحيوية كانت له الغلبة والنفوذ على موارد الدولة.
هذه المشاهد المتكررة للعنف والاقتتال في طرابلس، لم تكن موجودة في السابق، إذ كانت العاصمة الليبية من أجمل العواصم العربية وأرقى المدن المغاربية، لكن آلة الحرب وسعي كل طرف إلى الحكم وتحقيق مكاسب على حساب الليبيين شوّه المدينة وأرجعها سنوات ضوئية إلى الخلف.
عروس البحر المتوسط
كانت طرابلس – المدينة المقامة على رأس صخري مطل على البحر الأبيض المتوسط مقابل الرأس الجنوبي لجزيرة صقلية – تسمى “عروس البحر المتوسط” لجمال عمرانها وروعة بساتينها وتاريخها الكبير الحافل بالحضارات.
لم تصبح طرابلس عاصمة لليبيا إلا بعد سنة 1969، حيث احتضنت مقار قيادات الدولة والوزارات المختلفة، فضلًا عن مقر السفارات والبعثات الدبلوماسية، وتركزت جهود الدولة لتطويرها وتنمية البنية التحتية فيها، وقبل ذلك تناوبت مهمة العاصمة مع بنغازي والبيضاء.
شهدت طرابلس مع بداية السبعينيات حركة إعمار وبناء للبنية التحتية، مستغلة الازدهار الاقتصادي الكبير للبلاد وتوفر موارد مالية كبيرة من بيع النفط والغاز، إذ تُعرف ليبيا بامتلاكها لثروات نفطية كبرى.
لم تعد طرابلس تروق للسياح لكثرة الألغام المغروسة هناك، حيث قُتل حتى أبريل/نيسان من السنة الحالية ما لا يقلّ عن 130 شخصًا
أصبحت العاصمة تضمّ مطارًا متطورًا وميناءً بحريًا عصريًا وناطحات سحاب ومشروعات إنمائية وأسواقًا عامرة ومستشفيات متقدمة بعض الشيء ومدارس وجامعات، بما يوحي بتطورها، فأصبحت أجمل وأكبر المدن الليبية دون منازع.
يجد الزائر لطرابلس ما يحتاجه، فبها كل مقومات الجذب السياحي، إذ تضم المنتجعات السياحية المتطورة وأيضًا المباني الأثرية القديمة (الفينيقية واليونانية والرمانية والإسلامية..) والمناظر الطبيعية الجميلة التي تسحر العيون.
من أبرز أماكن الجذب السياحي في طرابلس المدينة العتيقة التي تتربع على أحد أطراف البحر الأبيض المتوسط، ويعود إنشاء بعض معالمها إلى القرن السابع قبل الميلاد، على أيدي الفينيقيين، هناك للزائر أن يتعرف على أبرز الحضارات التي تعاقبت على المدينة.
تتميز المدينة العتيقة بسورها الكبير الذي يحيط بها من كل جانب والسراي الحمراء أو “قلعة طرابلس” وبرج الساعة، وقوس ماركوس أوريليوس، بالإضافة إلى حوش القرة مانلي وزنقة الفرنسيس وفندق زميط، وميدان الشهداء أو “الساحة الخضراء”.
كما يقصد الزوار مساجد المدينة، إذ تحتوي على عشرات الجوامع العتيقة منها جامع درغوت والناقة وقرجي وأحمد باشا القرملي، ولهذه المساجد سحر خاص فهي تروي مساهمة المدينة في نشر الإسلام بالمنطقة ومشاركاتها في الفتح الإسلامي.
شلل ودمار
قبل سنوات كانت طرابلس قبلة الزوار، لكنها حاليًّا أصبحت قبلة المنظمات الحقوقية التي تدوّن الانتهاكات ومشاهد الدمار والفوضى التي أضحت عليها العاصمة، خاصة منذ إعلان اللواء المتقاعد خليفة حفتر انقلابه على مؤسسات الدولة سنة 2014.
منذ ذلك التاريخ، أصبح الخبر اليومي في ليبيا وقوع اشتباكات في أحياء العاصمة ويختم الخبر بالحديث عن عدد القتلى وحجم الدمار الذي لحق بالبنية التحتية للمدينة ووجع الأهالي الذين سئموا الحروب.
أمام هذا الوضع لم تعد طرابلس ضمن اختيارات السياح، إذ تم استهداف المطار في أكثر من مرة وتدمير جزء كبير منه، نفس الشيء بالنسبة للميناء البحري والطرقات، حيث لم يعد جزء كبير منها صالح للاستعمال وفي استعماله مخاطرة كبيرة.
? #طرابلس ||..
اشتباكات مباشرة داخل الشوارع بالعاصمة طرابلس .#ليبيا pic.twitter.com/rNDZ3VdBXH
— صيــاد الجبــل (@salaaah62) July 21, 2022
تم تدمير المباني وعشرات المرافق الحيوية من مستشفيات ومدارس وجامعات، فليس هناك أي مكان محظور والكل مستهدف من آلة الحرب بين الأخوة، وتدعم هذا بعد حرب حفتر ضد طرابلس في أبريل/نيسان 2019 التي مُني خلالها بخسارة كبيرة لم يخرج من تداعياتها إلى الآن.
رغم محاولات بعض القوى السياسية والعسكرية إحداث مؤسسات موازية في شرق البلاد، فإنهم فشلوا في الحصول على الشرعية المطلوبة
لم تعد طرابلس تروق للسياح لكثرة الألغام المغروسة هناك، حيث قُتل حتى أبريل/نيسان من السنة الحاليّة ما لا يقل عن 130 شخصًا، أغلبهم مدنيّون جرّاء الألغام الأرضيّة والذخائر المتروكة أو غير المنفجرة التي تركتها قوات حفتر في ضواحي الجنوبية لطرابلس وفق “هيومن رايتس ووتش“.
تنتشر في طرابلس إلى الآن، رغم المجهودات الكبيرة لإزالتها، ألغامًا محظورة مضادّة للأفراد تقتل المدنيين عشوائيًا، منها عبوّات ناسفة تنفجر بملامسة الضحية لها وفخاخ متفجرة كما توجد في أحياء العاصمة الجنوبية كميّات هائلة من المخلفات الحربية المتفجرة، منها ذخائر لم تنفجر بعد.
نتيجة ذلك، أصبح سكان العاصمة الليبية والسياح على حدّ سواء يخافون على حياتهم، ما أفقد طرابلس بريقها وجعلها وجهة غير محبذة للزيارة، فلم تعد كالسابق وأصبحت مكانًا خطرًا على الجميع رغم المحاولات المتكررة لإعادة الوضع إلى ما كان عليه.
ضحية الصراع على السلطة والنفوذ
تعتبر طرابلس ضحية الصراع على السلطة والنفوذ، فكل الجماعات السياسية والمسلحة توجه أنظارها نحو العاصمة قصد السيطرة عليها لتحقيق مكاسب والحفاظ على امتيازات كبرى تتمتع بها وتمنحها “شرعية” الوجود.
وكثيرًا ما تشهد العاصمة اشتباكات بين مجموعات مسلحة، آخرها راح ضحيتها 16 قتيلًا – بينهم 3 مدنيين ولحقت أضرارًا ببيوت السكان وسياراتهم -، وجدت الاشتباكات في أحياء الفرناج والسبعة وطريق المشتل وعين زارة، بين جهاز الردع وقوة عسكرية تابعة للمجلس الرئاسي على مدى يومين.
وقبل ذلك حاول رئيس الحكومة المكلف من برلمان طبرق فتحي باشاغا اقتحام العاصمة 3 مرات متتالية بهدف السيطرة على السلطة وتنحية رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، لكنه فشل في جميعها، وخلال تلك المحاولات عرفت أحياء ضواحي طرابلس اشتباكات عنيفة وسقط قتلى وجرحى.
#اشتباكات_طرابلس pic.twitter.com/1NN9A8rAch
— سالم محمد 2 (@L1JmG9xosh7fgo1) July 22, 2022
نفس الشيء بالنسبة لخليفة حفتر، الماسك بزمام الأمور في شرق البلاد بقوة السلاح، إذ حاول مرات عديدة اقتحام العاصمة بالقوة وبدعم خارجي كبير وفشل في ذلك، لكنه نجح في تدمير جزء كبير في المدينة ونشر الخوف بين الأهالي هناك، وجعل العديد من الأحياء أحياء أشباح.
وتوجد في العاصمة المقار الحكومية ومقار المؤسسات الرسمية الكبرى كالبنك المركزي ومؤسسة النفط، لذلك يرى السياسيون والعسكريون أن السيطرة على العاصمة ستمنحهم “شرعية” الحكم واستغلال ثروات البلاد وعائداته المالية.
رغم محاولات بعض القوى السياسية والعسكرية إحداث مؤسسات موازية في شرق البلاد كاستبدال مقر البرلمان وأيضًا فتح مقر موازٍ للبنك المركزي ومقار وزارية موازية، فإنهم فشلوا في الحصول على الشرعية المطلوبة، لذلك تبقى أنظارهم موجهة لطرابلس وفي كل لحظة يتوقع أن تشهد المدينة حربًا ضارية.