قُبيل أيام من عطلة عيد الأضحى، كانت كل المؤشرات تشير إلى انسداد المخارج أمام جنرالات الجيش السوداني، ففي ظل أزمة سياسية تعصف بالبلاد منذ أكثر من 8 أشهر، وجد العسكريون أنفسهم محاصرين عبر اعتصامات أقامتها لجان المقاومة السودانية في مدن العاصمة الثلاثة، حيث جاءت الاعتصامات كتتويج لنضال مستمر طوال 8 أشهر راح ضحيته أكثر من 100 قتيل، متزامنًا ذلك الحراك مع تضامن دولي واسع وإجماع من قوى دولية وإقليمية على ضرورة مغادرة العسكريين للسلطة.
سبق تلك الأجواء، قبيل عطلة العيد، حوار سياسي توسطت فيه كل من الولايات المتحدة والسفارة السعودية بالخرطوم من أجل كسر حالة الجمود بين العسكريين وقوى الحرية والتغيير، الطرفان الأساسيان في الصراع السياسي بالسودان.
وأيضًا قبيل عيد الأضحى بأيام، أعلن البرهان عبر خطاب إلى الشعب السوداني، مجموعة من القرارات التي بدت في ظاهرها إيذانًا بخروج العسكر من العملية السياسية، إلا أن تقديرات قوى الحرية والتغيير رأت أن الخطاب لا يعدو إلا كونه مناورة سياسية، لتعلن رفضها القاطع لمحتوى الخطاب بعد أقل من 24 ساعة من بثه.
الخطاب الذي أعلنه البرهان، انقسم بشأنه المراقبون والمحللون السياسيون، فالعديد من المراقبين سايروا قوى الحرية والتغيير موقفها المتوجس من الخطاب، لكن أيضًا كانت هناك بعض الجهات التي رأت أن الخطاب مؤشر جيد وخطوة في الاتجاه الصحيح.
مجموعة التوافق الوطني المنشقة عن الحرية والتغيير، كانت بعيدة عن خلفية صناعة القرار
بعض الأصوات التي استبشرت بالخطاب كانت من داخل قوى الحرية والتغيير نفسها، فقد حدث أن صرّح القيادي بالحرية والتغيير، الصديق الصادق المهدي، نجل إمام الأنصار الراحل الصادق المهدي، بأن الخطاب يحمل الكثير من المؤشرات الجيدة، هذا قبل أن يعود ويضم صوته إلى الصوت الموحد لقوى الحرية والتغيير، الذي جاء رافضًا للخطاب جملة وتفصيلًا.
خطاب مفاجئ
خروج العسكريين من العملية السياسية هو أحد الأهداف المعلنة التي تصبو إليها العملية السياسية، وبذلك ربما رأى البعض أن الخطاب من المحتمل أن يأتي تتويجًا لعملية سياسية نضالية طويلة، لكن ما كان مفاجئًا هو التوقيت الذي أعلن فيه البرهان نية العسكر الانسحاب من العملية السياسية وتسليم الحكم لحكومة مدنية، فقبل الخطاب بساعات كان القمع الأمني قد خلف 9 قتلى في تظاهرات “30 يونيو”، وكان التصعيد بين الطرفين يبلغ أوجّه.
إضافة إلى القمع الذي كان علامة سلبية بشأن مصداقية نوايا العسكريين، فقد اتضح أيضًا أن أقرب المقربين من العسكريين، مجموعة التوافق الوطني المنشقة عن الحرية والتغيير، كانت بعيدة عن خلفية صناعة القرار، فقد تفاجأت هي أيضًا بقرارات البرهان، تجلّى ذلك في عقدها لاجتماع عاجل للخروج بموقف موحد من فحوى الخطاب، الذي أكد – الموقف الذي أعلنته في مؤتمر صحفي عقب الاجتماع العاجل – أن الخطاب ضم بعض النقاط الغامضة التي تحتاج إلى مزيد من التوضيح.
خطاب يلعب على الخلاف؟
العديد من القرارات حواها خطاب البرهان الذي ألقاه بصفته قائدًا للقوات المسلحة وممثلًا للمؤسسة العسكرية، أبرز تلك القرارات كان الإعلان عن انسحاب المؤسسة العسكرية من الحوار الذي كانت تسيره الآلية الثلاثية بين العسكريين والقوى السياسية المدنية، بحجة أنه بانسحاب القوات المسلحة فإنها ستفسح المجال للقوى المدنية للتحاور فيما بينها للوصول لحكومة مدنية، يعقب ذلك حل مجلس السيادة وتكوين مجلس أعلى للقوات المسلحة مكون من الجيش والدعم السريع تنحصر مهامه في الأمن والدفاع.
قوى الحرية والتغيير وعدد من المراقبين رأوا أن خطاب البرهان جاء كـ”مناورة مكشوفة” باعتبار أن توحد القوى السياسية واتفاقها على حكومة مدنية هو أمر صعب المنال في ظل الظروف الحاليّة، وأن البرهان أراد بخطابه إظهار القوى السياسية المدنية في موقف خلاف، للاستئثار بالحكم بحجة عجز القوى المدنية عن التوحد.
جعل مجموعة التوافق الوطني تخرج في أكثر من مرة في وقت سابق تعرب فيه عن رفضها المسبق لأي اتفاق ثنائي بين العسكريين والحرية والتغيير
توجس قوى الحرية والتغيير من إمكانية مراهنة البرهان على اختلاف القوى السياسية المدنية، رغم توحدها داخليًا الفترة الأخيرة، يبدو أنه جاء من ناحية مجموعة التوافق الوطني التي انشقت عنها ودعمت العسكريين قبيل انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، التي تحوي بالإضافة إلى قوى سياسية ذات ثقل خفيف في المشهد – الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق سلام جوبا، التي تتخذ قوتها السياسية من نصوصه التي تحظى بضمان وسند إقليمي، كواحد من أهم منجزات الفترة الانتقالية.
مجموعة التوافق الوطني هي الأخرى بدت متوجسة، وتخشى أن تفضي الخطوات إلى مشهد يقلص صلاحياتها أو يمس مكتسبات اتفاق سلام جوبا، ورغم أن إقصاء المجموعة بشكل كامل يعد مستبعدًا بشكل قاطع، فإن بعض أطرافها بدت متوجسة، وبالذات الشق الذي لا يتمتع بحاضنة جماهيرية كبيرة.
وتوجس مجموعة التوافق الوطني لم يكن وليد خطاب البرهان الأخير، بل يعود إلى ما قبله، فقد سبق إعلان البرهان عن انسحاب الجيش من الحوار – الذي قاطعته قوى الحرية والتغيير مسبقًا – اجتماعات ثنائية، برعاية أمريكية سعودية، بين الحرية والتغيير والعسكريين خارج إطار حوار الآلية الثلاثية الذي يضم مجموعة التوافق الوطني، ما جعل مجموعة التوافق الوطني تخرج في أكثر من مرة في وقت سابق تعرب فيه رفضها المسبق لأي اتفاق ثنائي بين العسكريين والحرية والتغيير.
هواجس التجربة المصرية
أحد الهواجس التي دفعت الحرية والتغيير لرفض خطاب البرهان، هي الفقرة التي نصت على تشكيل جسم عسكري جديد لم يكن له وجود في التاريخ القريب في هيكل المؤسسة العسكرية، وهو ما دعاه البرهان بـ”مجلس أعلى للقوات المسلحة” الذي قال البرهان إنه سيتم تشكيله عقب حل مجلس السيادة وتشكيل الحكومة، وسيتكون من القوات المسلحة وقوات الدعم السريع وستكون من مهامه الأمن والدفاع.
“مجلس أعلى للقوات المسلحة” أعاد للأذهان التجربة المصرية، إذ بذات الجسم العسكري في النسخة المصرية، الذي استدعاه السيسي من تاريخ قديم للقوات المسلحة المصرية، تم الاستيلاء على الحكم والانقلاب على إرادة الجماهير والعملية الديمقراطية في مصر في 30 يونيو/حزيران 2013.
وإضافة إلى الهواجس التي ألقاها المسمى للجسم العسكري الجديد، وتطابقه مع التجربة المصرية، فقد ثارت أيضًا الهواجس على خلفية أحاديث تداولتها الأوساط قبيل خطاب البرهان بساعات عن زيارة سرية قام بها البرهان إلى القاهرة والتقى فيها بعبد الفتاح السيسي قبيل يوم واحد من خطابه.
ورغم أن البرهان في خطابه أكد أن حدود صلاحيات المجلس تنحصر في مهام الأمن والدفاع، وأن ما يوكل إليه من مهام يستكمل بالاتفاق مع الحكومة التنفيذية المزمع تشكيلها، إلا أن ذلك لم يكن كافيًا للجم مخاوف المدنيين من وجود مثل هذا الجسم الذي قد ينقض على الحكم بمبررات عديدة.
هل كان على الحرية والتغيير خوض الرهان؟
سواء كان البرهان جادًا في خطابه أم لا، أو أنه راهن على انقسام الحرية والتغيير والقوى السياسية الأخرى وعدم قدرتها على تشكيل حكومة مدنية، فلم يكن من الحنكة السياسية أن تقدم قوى الحرية والتغيير تصديقًا عمليًا لادعاء البرهان بالممارسة، فمجرد رفض الخطاب بشكل كامل، رغم تأكيد العديدين على أن الخطوط العريضة فيه تصلح للخروج من الأزمة السياسية، سيضع ذلك الرفض الحرية والتغيير في خانة الخامل عن الفعل، بل سيؤكد على مصداقية ادعاءات البرهان التي تقول الحرية والتغيير إنه يدعيها، بأن القوى السياسية غير قادرة على الوصول إلى صيغة حكم توافقية.
فعدم توحد القوى السياسية المدنية، كانت هي الجملة التي رددها البرهان منذ وقت مبكر وبشكل متكرر، للدرجة التي يمكن أن توصف فيها الجملة بأنها العبارة المفتاحية في جميع خطابات البرهان طوال الفترات الماضية.
فمنذ أول خطاب أعلن فيه البرهان عن رغبة المؤسسة العسكرية في الوصول إلى حل سياسي للأزمة في البلاد أبريل/نيسان الماضي، ظل البرهان يردد اشتراط توحد القوى السياسية كشرط لتحقيق ذلك الحل.
وبخصوص المخاوف من الانقسامات، لا يبدو من الصعب على الحرية والتغيير الوصول إلى صيغة توافقية أو حتى الوصول إلى اتفاق مع مجموعة الوفاق الوطني، فالمجموعة تضم عددًا من قادة الحركات الذين عملوا لفترة طويلة مع الحرية والتغيير من أجل إسقاط نظام البشير، هذا بالإضافة إلى العديد من المشتركات الأيدولوجية والسياسية التي تتقاسمها الحرية والتغيير مع مجموعة الوفاق الوطني التي تتكون معظمها من حركات مسلحة.
لذلك لا يبدو من الصعب الوصول مع مجموعة التوافق الوطني إلى حكومة تنفيذية، إذ لن تمس بالتأكيد مكتسبات سلام جوبا، وسيتم تضمينها في أي حكومة قادمة سواء شكلها العسكريون أم المدنيون، لكن يبقى هناك بعض المخاوف البسيطة، من شخصيات بعينها دعمت الانقلاب من داخل مجموعة التوافق الوطني طمعًا في مصالح ذاتية، خلافًا للحركات التي كانت عينها على نصيبها في السلطة المخصص بحكم اتفاق جوبا، وتخشى أن يمس بأي شكلٍ من الأشكال.
وبخصوص المخاوف من الجسم المزمع تشكيله “المجلس الأعلى للقوات المسلحة”، فإن خطاب البرهان قد وضع حدوده بشكل لا لبس فيه في مهام الأمن والدفاع، هذا إلى أن ما تبقى من مهامه قد أقر الخطاب باستكمالها مع الحكومة التنفيذية التي دعا لتشكيلها عقب حل المجلس السيادي.
أما المخاوف من تكرار التجربة المصرية، فلا تبدو مقنعة، نسبة للموقف الذي يوجد فيه العسكريون الآن بوصفهم الحاكم الفعلي والأزمة في آن واحد، هذا بالإضافة إلى الدعم والإجماع الدولي والإقليمي الذي تحظى به القوى السياسية في السودان، مع عدم وجود أي حليف إقليمي او دولي للعسكريين، بعد اتضاح أن المملكة السعودية – التي كانت تعتبر حليفًا إقليميًا للعسكريين – ترغب في وصول المدنيين للسلطة في السودان لسبب ما، أو على الأقل الوصول إلى تسوية وصيغة مستقرة للحكم في السودان، التي لا يمكن أن تتم حال استئثار العسكريين بالسلطة.
منذ خطاب البرهان في الرابع من الشهر، ثم مرورًا بعطلة عيد الأضحى وما بعدها، ظل المشهد السياسي السوداني هادئًا، لم يحرك سكونه إلا البيان الذي أعلنه قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو حميدتي، مساء السبت الماضي، وجاء مؤيدًا لقرارات البرهان، ومدعيًا أنها اتخذت بالتشاور بينهم وبين المؤسسة العسكرية، ليعيد البيان الروح مرة أخرى إلى خطاب البرهان، وإمكانية المضي فيما يدعيه قدمًا، فإن صدق وجد السودانيون مخرجًا لأزمة طالت منذ أشهر، يدفع ثمنها المواطن الذي يحلم بالاستقرار السياسي والاقتصادي، وإن لم يكن البرهان جادًا في خطابه، فـ”الميّة تكدّب الغطاس”.