ناطحات السحاب الرائعة المرتفعة في الصحراء ومناطق التجارة الحرة التي تبيع الذهب والماس وأنماط الحياة الفاخرة والشواطئ المشمسة، هذه هي السمات المميزة لدبي، إحدى الإمارات السبعة التي تشكل دولة الإمارات العربية المتحدة، وهي مركز مالي بارز في الشرق الأوسط ويلقبها كثر بـ”ملتقى الأثرياء العالميين”، مع اقتصاد منفتح يرحب بالشركات والأفراد من جميع أنحاء العالم، ويكتسب شهرة في تقديم سيارات الشرطة الخارقة وبناء جزر اصطناعية على شكل نخيل في البحر.
تعتبر أبراج المكاتب المصنوعة من الزجاج والفولاذ والفنادق الفاخرة على طول شارع الشيخ زايد تذكيرًا لامعًا بصعود دبي من مجموعة من القبائل المتناثرة في الصحراء إلى ما يسمى “بإحدى المعجزات الحضرية للعالم الحديث”، حيث تزدهر الأعمال التجارية والشركات العالمية العملاقة التي رافقتها سمعة الدولة الخليجية في الاستقرار وموقفها المنفتح للأعمال.
خلف هذه الصورة التي رسمتها الإمارة الساحرة بعناية على مر السنين، تتمتع دبي أيضًا بسمعة أكثر قتامة كملاذ ضريبي، ومركز مفضل لغسيل الأموال، غالبًا من خلال سوق العقارات المزدهر فيها، ووجهة رئيسية لتدفق الأموال غير المشروعة التي ساعدت في إثراء رجال الأعمال وتحويل المدينة إلى مركز رئيسي لتجارة الذهب، باختصار، إذا كنت سياسيًا هاربًا من ثورة أو حرب أو تواجه اتهامات بالفساد، فإن الإمارات ستكون وجهتك المفضلة.
الوجهة دبي
في تسعينيات القرن الماضي، تراجعت عائدات النفط في إمارة دبي، وبدأت قيادتها في البحث عن استثمارات في الخارج، ووجدت طريقها إلى الأمام في مجال العقارات، حيث شيَّدت العشرات من التطورات السكنية الجديدة، وأطول مبنى في العالم، واثنين من الجزر شبه الاصطناعية على شكل أشجار النخيل، التي لم يتم الانتهاء من إحداها (نخلة جبل علي) بسبب الأزمة المالية لعام 2008، عندما توقفت العديد من المشاريع العقارية بسبب نقص الائتمان.
منذ ذلك الحين، كان التطوير العقاري مصدرًا مهمًا للدخل للإمارة، حيث استقطب رأس المال الأجنبي والأثرياء من جميع أنحاء العالم، واليوم يبلغ عدد سكان دبي 3.3 مليون نسمة، لكن نصف مليون فقط من هؤلاء السكان هم مواطنون إماراتيون، ويعني هذا أنها قامت ببناء اقتصادها حول كونها موطنًا للمغتربين.
الصعوبات التي واجهتها السلطات الألبانية في تأمين تسليم المطلوبين الألبان من الإمارات دفعت عددًا متزايدًا من الشخصيات الإجرامية الألبانية إلى البحث عن ملاذ هناك
كانت المخاوف بشأن دور الإمارات كمركز للجرائم المالية موجودة منذ عقود، ففي تسعينيات القرن الماضي، تورط بنك الائتمان والتجارة الدولي – وهو مؤسسة عالمية مملوكة بمعظمها للعائلة المالكة في أبو ظبي وحكومة أبوظبي – في الرشوة وغسيل الأموال والاتجار بالجنس وتمويل الإرهاب، ما أكسبه لقبًا ساخرًا “بنك المحتالين والمجرمين الدوليين”.
بعد 3 عقود تقريبًا، تكشف وثائق باندورا، وهي مجموعة من السجلات السرية التي حصل عليها الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين، أن الملاك الحقيقيين للعديد من الشركات العالمية العملاقة التي رافقتها سمعة الدولة الخليجية في الاستقرار وموقفها المنفتح من الأعمال التجارية يضم مجموعة من اللاعبين المشبوهين في العالم الخارجي من بينهم رجل أعمال بلجيكي متهم بالتربح من تهريب الذهب الذي اُنتزع من المناطق التي مزقتها أعمال العنف في جمهورية الكونغو الديمقراطية.
مالكو العقارات في دبي هم أيضًا شخصيات من المشهد الإجرامي الدولي، مثل تاجر الكوكايين دانيال كيناهان الذي وجد ملاذه الآمن في الإمارة، بعد تعرضه لحادث إطلاق نار تسبب في مقتل 18 شخصًا من الحضور، ووصفته السلطات الأيرلندية بـ”حرب عصابات المخدرات”، تمكن دانيال من النجاة، وانتقل برفقة أبيه وشقيقه إلى دبي عام 2016.
في التسعينيات، كان والد دانيال يُوصف بأنه مَنْ أدخل الهيريون إلى أيرلندا، خلال ذلك الوقت كان دانيال في دبلن لاعبًا في حلبات الملاكمة، سُجن والده عدة مرات في مدن مختلفة، واستكمل دانيال وشقيقه الصغير العمل في المخدرات، وخلال سنوات، وصفتهم تحقيقات صحفية استقصائية بأنهم “أغرقوا أوروبا في المخدارت”، إذ سيطروا على ثلث المخدرات المصدرة إلى أوروبا.
في البيانات المسربة، أُدرج كيناهان كمالك لمكتب كبير مساحته 115 مترًا مربعًا في برج جميرا باي، على بعد 15 دقيقة بالسيارة من الشاطئ، وأدرجت شركتان شارك في تأسيسهما كيناهان على مر السنين نفس الوحدة العقارية، رقم 3005، كمكتب لها، في جزر الجميرا، حيث الترجيب بالعملاء الذين يفضلون إبقاء هوياتهم وأعمالهم سرية، وفقًا لسجلات الأعمال ومقال نُشر في صحيفة The Irish Times.
تشير المعلومات المتعلقة بجواز سفر كيناهان وبطاقة الهوية الإماراتية إلى أنه استحوذ على هذا العقار بين عامي 2017 و2018، في ذلك الوقت، كان تورطه في تهريب المخدرات معروفًا علنًا في جميع أنحاء أوروبا.
أسس كيناهان شركة للمواد الغذائية والملابس والمنسوجات وصفها تحقيق استقصائي للاتحاد الدولي للصحفيين الاستقاصائيين بـ”واجهة لنقل المخدرات وغسل الأموال”، وأكدت وزارة الخزانة الأمريكية في أبريل/نيسان الماضي ذلك بالقول: “تستخدم مجموعة كيناهان دبي بشكل متكرر كمركز لتسهيل أنشطتها غير المشروعة”، وقد أدى النشاط إلى العديد من جرائم القتل.
جاء هذا الإعلان بعد تحقيق كبير شمل عدة وكالات للشرطة، وأعلن السفير الأمريكي في أيرلندا عن مكافأة قدرها 5 ملايين دولار لأي شخص يساعد في القبض على كيناهان أو والده أو شقيقه، الذين يخضعون أيضًا لعقوبات، وأعلنت عن فرض عقوبات على كيناهان وأعضاء آخرين في المجموعة، لتضطر الإمارات في النهاية إلى الموافقة على تجميد أصول كيناهان وعائلته واستثماراتهم.
تلقي قصة الشركات الخارجية التي أُنشأت داخل مجموعة الشركات في دبي الضوء على صعود الإمارة الخليجية كواحدة من العواصم المالية في العالم، وعلى دور الإمارات كحلقة وصل لغسيل الأموال والجرائم المالية الأخرى.
في ديسمبر/كانون الأول 2020، تحركت النيابة الخاصة لمكافحة الفساد والجريمة المنظمة في ألبانيا، ضد ما يسمى “عصابة دوريس” الإجرامية القوية التي تتمركز في مدينة دوريس الساحلية الألبانية، وأصدرت أوامر اعتقال دولية لبعضهم، بما في ذلك أحد سكان دبي ويدعى بلورينت درويشاج.
اعتقلته الشرطة في الإمارات، وبدأت السلطات في تيرانا عملية تأمين تسليمه، ومع ذلك، لم يتم تسليم درويشاج بعد، وتم الإفراج عنه منذ ذلك الحين، لكن الأمر لا يتعلق فقط بدرويشاج، في الواقع، يبدو أن الصعوبات التي واجهتها السلطات الألبانية في تأمين تسليم المطلوبين الألبان من الإمارات دفعت عددًا متزايدًا من الشخصيات الإجرامية الألبانية إلى البحث عن ملاذ هناك.
الملاذ الآمن
نمت مكانة دولة الإمارات في نظام السرية المالية الخارجية في العالم بشكل ملحوظ خلال العقد الماضي، ففي عام 2009، أدرجت شبكة العدالة الضريبية، وهي مجموعة أبحاث ودعوة لمكافحة الفساد، دبي في المرتبة 31 في تصنيفها لأهم الولايات القضائية الخارجية بناءً على مستويات السرية المالية لديها وحجم أنشطتها المالية الخارجية، وبحلول عام 2020، احتلت الإمارات المرتبة العاشرة على مؤشر السرية المالية للمجموعة.
وفقًا لتحقيق مطول نشره الاتحاد الدولي للصحافة الاستقصائية استنادًا إلى وثائق باندورا، تعد الإمارات موطنًا لتجارة مزدهرة في السرية المالية، حيث تقدم لشركات وهمية تخفي هويات أصحابها الحقيقيين، العشرات من مناطق التجارة الحرة الداخلية التي توفر المزيد من العقارات وشركات الواجهة؛ وبالتالي فقد اجتذب تدفقات مالية كبيرة وبعض المجرمين الأكثر شهرة في العالم.
بحسب مؤسسة مكافحة الجريمة المنظمة والفساد، فإن بعض مالكي العقارات في دبي من المقيمين أو المستثمرين الشرعيين الذين اتهموا أو أدينوا بارتكاب جرائم أو يخضعون لعقوبات دولية
وتعد دبي واحدة من أكثر الولايات القضائية الخارجية سرية في العالم، ويرجع ذلك أساسًا إلى الافتقار للشفافية المالية، وفقًا لشبكة العدالة الضريبية التي كتبت في تقييم عام 2020 أن دبي لديها نظام معروف يسميه دعاة مكافخة الفساد “نهج عدم طرح الأسئلة وعدم رؤية الشر” للتعامل مع الأموال المرتبطة بتهريب الذهب والاتجار بالأسلحة والمخدرات والجرائم الأخرى.
في مارس/آذار 2019، أدرج الاتحاد الأوروبي دولة الإمارات – إلى جانب 9 ولايات قضائية أخرى – على قائمته السوداء للملاذات الضريبية التي أُنشئت عام 2017 بعد الكشف عن مخططات التهرب الضريبي واسعة النطاق التي تستخدمها الشركات والأثرياء لخفض فواتيرهم الضريبية من خلال التواطؤ المصرفي في هذه الدول.
يمكن أن تكون هجرة أصحاب الملايين علامة إيجابية لاقتصاد الدولة، فقد كانت خسائر دول مثل الهند وروسيا وتركيا مكاسب لملاذات دول أخرى مثل الإمارات التي أصبحت مؤخرًا وجهة أصحاب الملايين المهاجرين، نظرًا لاستقرار وبريق أشهر إمارة، دبي، فقد شهدت في عام 2017 تدفق 5 آلاف مليونير، مما زاد من حجم سكانها الأثرياء بنسبة 6%، وهو أكبر مكسب في العالم، بحسب تقرير لصحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية.
وفي سبتمبر/أيلول 2018، أبلغت وكالة التحقيقات الفيدرالية الباكستانية (FIA) المحكمة العليا أن الأثرياء الباكستانيين يمتلكون استثمارات وأصولًا بقيمة 150 مليار دولار غسلوها في عقارات بدولة الإمارات وحدها، ولم تحرز الجهات القضائية أي تقدم في إعادة الأموال التي تقول الحكومة الباكستانية إنه يمكن إثبات أنها تعود إلى شخصيات سياسية ومسؤولين ورجال أعمال فاسدين.
في أحدث مؤشر لمدركات الفساد في العالم، تقول منظمة الشفافية الدولية المناهضة للكسب غير المشروع في تقرير حمل عنوان “دور دبي في تسهيل الفساد والتدفقات المالية العالمية غير المشروعة” إن “دبي أصبحت مركزًا عالميًا نشطًا لغسيل الأموال، حيث يمكن للفاسدين والمجرمين الآخرين شراء عقارات فاخرة بملايين الدولارات في دبي دون قيود، فقط مقابل القليل من الأسئلة المطروحة من السلطات المعنية”.
في تقرير صدر في يونيو/حزيران 2019، قال مركز الدراسات الدفاعية المتقدمة (C4ADS)، ومقره واشنطن، إن سوق العقارات في دبي اُستخدم كملجأ لغسل الأموال، من العديد من منتفعي الحروب وممولي الإرهاب ومهربي المخدرات، وحدد المركز 44 عقارًا بقيمة 28.2 مليون دولار كانت مملوكة مباشرة من أفراد خاضعين للعقوبات، و37 عقارًا آخر بقيمة 80 مليون دولار تقريبًا كانت مملوكة لأعضاء ضمن شبكاتهم الموسعة.
من الواضح أن هذه القضايا ليست جديدة، ففي مايو/أيار 2022، كشف تسريب لبيانات العقارات في دبي عن عدد الأجانب الذين ضخوا أموالهم في الشقق والفيلات هناك، وبحسب مؤسسة مكافحة الجريمة المنظمة والفساد، فإن بعض مالكي العقارات في دبي من المقيمين أو المستثمرين الشرعيين الذين اتهموا أو أدينوا بارتكاب جرائم أو يخضعون لعقوبات دولية، والبعض الآخر من الموظفين العموميين الذين يصعب التوفيق بين ملكيتهم للممتلكات باهظة الثمن ومصادر دخلهم المعروفة.
من بينهم هؤلاء أكثر من 100 عضو من النخبة السياسية في روسيا، أو مسؤولين عموميين، أو رجال أعمال مقربين من الكرملين، بالإضافة إلى عشرات الأوروبيين المتورطين في غسل الأموال والفساد.
العديد من المسؤولين والمشرِّعين الأوروبيين الذين اتُهموا بسوء إدارة الأموال العامة هم أيضًا من بين المالكين المدرجين، وقد فشل البعض في الإعلان رسميًا عن عقاراتهم في دبي.
بحسب مركز الدراسات الدفاعية المتقدمة، فإن وجود هؤلاء الأفراد في سجلات سوق العقارات في دبي يسلط الضوء على الخطر المتمثل في أن متطلبات الإقامة الفضفاضة في الإمارة ونهج “الأسئلة القليلة المطروحة” للتنظيم يمكّن الشخصيات المشكوك فيها من استخدامها كملاذ آمن بعيدًا عن وطنها الأصلي، ومكان لغسل مكاسبهم غير المشروعة أو تخزين ثرواتهم.
في مارس/آذار 2022، وضعت هيئة الرقابة الرئيسية لمكافحة غسيل الأموال في العالم دولة الإمارات على “القائمة الرمادية” للبلدان التي تحتاج إلى مزيد من المراقبة، ويمثل هذا التصنيف الجديد “للقائمة الرمادية” بحسب وكالة “بلومبيرج” انتكاسة للإمارات في وقت تواجه فيه منافسة أكبر من المملكة العربية السعودية المجاورة، التي تعمل على تنمية أسواقها المالية وتتخذ خطوات لجذب المزيد من الاستثمار.
على الرغم من أوجه القصور في دبي، فإن دولة الإمارات ككل هي في أفضل الدول تصنيفًا بمؤشر مدركات الفساد للعام 2021 في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيًا، والـ24 من أصل 180 دولة، برصيد 70 نقطة، ومع ذلك، تفتقر أيضًا إلى المؤسسات الديمقراطية واحترام الحقوق السياسية، وهو أمر شائع في جميع أنحاء الخليج ومنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مما يجعلهما أكثر عرضة للفساد.
مأوى الفاسدين
تقدم الأبراج الشاهقة والفنادق الفخمة من فئة الخمس نجوم والشواطئ الخاصة كثيرًا من الخيارات للهاربين والفاسدين والمجرمين ورؤساء العصابات الباحثين عن الخصوصية ومكان لتخزين أموالهم، لكن الأهم من ذلك، أن هذه المدن التي بنيت باحتياطيات هائلة من النفط والغاز توفر أمنًا عاليًا لشخصيات مثيرة للجدل، كانت ذات يوم قوية.
في عام عام 2020، وجد تقرير صادر عن مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، ومقرها الولايات المتحدة، أن “الثروة التي يقوم عليها ازدهار دبي تعود إلى تدفق مستمر من العائدات غير المشروعة الناتجة عن الفساد والجريمة”، وحذَّر التقرير من أن أمراء الحرب الأفغان ورجال العصابات الروس والفاسدين النيجيريين وغاسلي الأموال الأوروبيين ومنتهكي العقوبات الإيرانية ومهربي الذهب من شرق إفريقيا، يجدون دبي مكانًا ملائمًا للعمل.
هذه الدولة الخليجية ليست فيها قوانين وأنظمة صارمة فيما يتعلق بنقل الأموال التي يجلبها الفارون منها
ربما يكون هذا هو السبب وراء ظهور الرئيس الأفغاني أشرف غني في أبو ظبي، في أغسطس/آب 2021، بعد هروبه من مقاتلي حركة طالبان الذين سيطروا على بلاده، فقد أعلنت الإمارات قبولها استضافة غني وعائلته بدعوى إنسانية، حتى عندما انتقد أعضاء حكومته الرئيس الأفغاني بسبب هروبه من كابول.
تقول مجلة The Economist البريطانية، إن مسؤولين أفغانًا آخرين خططوا لذلك مسبقًا، إذ يُشتَبَه بأنَّهم نقلوا مئات ملايين الدولارات من كابول إلى دبي على مدار السنوات، فوفقًا لبرقيات دبلوماسية أمريكية، سافر نائب الرئيس السابق أحمد ضياء مسعود، ذات مرة إلى دبي ومعه 52 مليون دولار نقدًا، وذهب بعض ماله إلى العقارات، ويقال إن شير خان فارنود، الرئيس السابق لبنك كابول، يمتلك عشرات العقارات في جزيرة نخلة جميرا الفاخرة في دبي أو على الأقل كان اسمه مدرجًا في سجلات الممتلكات.
سبق الرئيس الأفغاني الذي زعمت روسيا أنه فر بأربع سيارات وطائرة هليكوبتر مليئة بالمال من البنك المركزي سياسيون كُثُر يعتبرون الإمارات ديارًا لهم، ففي عام 2020، انضم الملك الإسباني السابق خوان كارلوس الذي يواجه عددًا لا يُحصى من التهم والتحقيقات المالية المتعلقة بالفساد وتلقِّي رِشى من السعودية والبحرين، إلى قائمة المنفيين البارزين الذين سعوا للحصول على مأوى في الإمارات في السنوات الماضية.
وفي عام 2017، فر أشقاء ورؤساء وزراء تايلانديون سابقون من بينهم تاكسين شيناواترا الذي أطيح به في انقلاب عسكري وسط اتهامات بالفساد، وينجلوك شيناوترا التي هربت إلى دبي، حيث يملك شقيقها تاكسين منزلًا، خشية سجنها بعد خسائر بمليارات الدولارات في قضية تتعلق ببرنامج لدعم الأرز.
لسنوات قبل عودتها إلى باكستان حيث اغتيلت في عام 2007، فعلت ذلك أيضًا رئيسة الوزراء الباكستانية السابقة بينظير بوتو. كما وفرت الإمارات ملاذًا آمنًا لرئيس الوزراء الباكستاني برويز مشرف الذي اضطر للتنحي بسبب اتهامات بالفساد، لكنه يحتفظ بمنزله في دبي رغم الحكم عليه في بلده بالإعدام بتهمة الخيانة لتعطيل وإلغاء الدستور الباكستاني، وهو حكم ألغته محكمة باكستانية عليا لاحقًا.
سبق هؤلاء كثير ممن كانوا مطلوبين في بلادهم، وتحوَّل بعضهم لاحقًا إلى قادة للثورات المضادة في العالم العربي، وقادوا – بدعم مالي وسياسي وعسكري إماراتي – عمليات التخريب في داخل وخارج بلدانهم.
أبرز هؤلاء الذي تأويهم الإمارات، محمد دحلان، السياسي الفلسطيني الذي فصلته حركة “فتح” في يونيو/حزيران 2011، وحكم عليه بالسجن بعد مواجهة تهم بالفساد وتعذيب معتقلين عندما أدار الأمن في غزة، والتخطيط لتشكيل حركة مسلحة للسيطرة على مقاليد الحكم بالقوة، وألقى بعض الفلسطينيين باللوم عليه عندما فرضت حماس سيطرتها في عام 2007، وينظر إليه البعض على أنه أداة لـ”إسرائيل”.
لقد مرت 11 عامًا منذ أن وطأ دحلان، البالغ من العمر 60 عامًا، الأرض التي يتصورها الفلسطينيون كدولتهم المستقبلية، ويعيش على بعد 1300 ميل من إخوانه الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة. يتميز منزله الواسع في أبو ظبي، بأرائك وثيرة وأسقف مقببة وثريات ومسبح لامتناهي.
هذا الرجل القوي الذي تحول إلى مليونير في المنفى هو “محور المؤامرات في جميع أنحاء المنطقة” بحسب وصف صحيفة “لوموند” الفرنسية، في تحقيق لها عام 2017، حيث يسعى القادة العرب من خلاله لفرض تغييرات على اعتراضات الرئيس محمود عباس، وأصبح المرشح المفضل لما يسمى الرباعية العربية – مصر والأردن والسعودية والإمارات – التي تضغط على السلطة الفلسطينية للسماح لدحلان بالعودة إلى الوطن.
وفي عام 2012، استقبلت أبو ظبي المرشح المصري السابق للرئاسة الفريق أحمد شفيق، الذي ترك البلاد بعد أن لاحقته الكثير من تهم الفساد في المحاكم المصرية، وأقام في أبوظبي 5 سنوات، حتى أعلن نهاية عام 2017 عزمه خوض انتخابات الرئاسة ضد حليف أبو ظبي القوي الرئيس عبد الفتاح السيسي، وانتهى الأمر بترحيله إلى القاهرة، ووضعه قيد الإقامة الجبرية التي انتهت بتراجعه عن الترشح.
ومن بين الآخرين الابن الأكبر للرئيس اليمني الراحل، أحمد علي عبد الله صالح، الذي يواجه تهم فساد وغسيل أموال في فرنسا، فعقب الإطاحة بوالده من الحكم في 2011، حوَّل أموالاً كثيرة إلى الإمارات، وبنى مشروعًا عقاريًا ضخمًا كلَّفه مبالغ طائلة بمنطقة جميرة في إمارة دبي بالإمارات.
يطرح اختيار هؤلاء القادة لوجهتهم الجديدة أسئلة كثيرة عن الأسباب التي دفعتهم إلى البحث عن ملاذ آمن في هذه الدولة الخليجية، التي ليس لديها معاهدة لتسليم المجرمين مع الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة أو ألمانيا أو العديد من الدول الأخرى، ويعني هذا عمليًا أنه يمكن للمشتبهين الجنائيين المطلوبين الاختباء في دبي لتجنب مواجهة العدالة.
العامل الآخر المهم أن هذه الدولة الخليجية ليست فيها قوانين وأنظمة صارمة فيما يتعلق بنقل الأموال التي يجلبها الفارون منها، لكن السبب الرئيسي والأهم هو الدور الذي لعبته الإمارات كمضيفة لسياسيين مطلوبين وكبار الشخصيات، الذي يمنحها نفوذًا محتملاً، ويجعلها تملك الأوراق السياسية التي يمكن اللعب أو الاحتفاظ بها في وقت لاحق، فهي من جانبها تهدف إلى أن تظهر لحليفتها الولايات المتحدة أنها شريك أمني موثوق به.
الشيء الوحيد الذي يميز الإمارات عن الملاذات السرية الأخرى هو أن الولايات المتحدة تعتبر الإمارات حليفًا عسكريًا مهمًا ودرعًا ضد الإرهاب في الشرق الأوسط، وبسبب الدور الذي تلعبه الإمارات في الأمن القومي الأمريكي والمصالح الاقتصادية في المنطقة، لم تمارس الولايات المتحدة هذا النوع من الضغط على الإمارات الذي تمارسه على سويسرا وجزر فيرجن البريطانية والملاذات البحرية الأخرى.
لدى الإمارات كل هذه الأسباب التي يُضاف إليها أن غالبية الهاربين إليها يحضرون أموالاً طائلة معهم، فتكلفة المعيشة في البلاد مرتفعة مثل أبراجها، حتى لو تم تقديم بعض الدعم، حيث يقيم البعض في أبو ظبي، والبعض الآخر في دبي، المركز التجاري والسياحي للإمارات العربية المتحدة.
الأمر الأكثر إثارة للقلق بحسب مؤلفي التقرير الصادر عن مؤسسة كارنيجي أن السلطات الإماراتية لديها الأدوات والمعرفة التقنية لتضييق الخناق على الممارسات غير القانونية مثل غسيل الأموال، فضلاً عن امتلاكها التقنيات الحديثة وكاميرات المراقبة والقبضة الأمنية والاستبدادية على السلطة التي تضمن الحماية والولاء، لكنها غالبًا ما ترفض المحاولات الخارجية لمعرفة ما إذا كان الفاسدون والمجرمون يشترون الممتلكات أو يغسلون الأموال عبر الإمارة.