“هل تعلمون لمَ تركتُ مدرستي؟ لأنه لم يكن لدي إلا صديق واحد في صفي المكوَّن من 35 طالبًا، لقد سئمت العنصرية الموجودة هناك”.. هزّت صرخة الفتى السوري أحمد كنجو المدوية تلك الرأي العام في تركيا، وأشعلت نقاشات عديدة على أكثر من صعيد، لعلّ أخطرها تسرّب الكراهية من خطابات السياسيين وموائد النميمة المنزلية إلى مقاعد المدرسة وباحاتها الرياضية.
وأعادت تلك الصرخة التذكير بقصة الطفل السوري وائل سعود، الذي وُجد منتحرًا بعد تعرضه لمضايقات ذات طابع عنصري من معلمه في المدرسة، وحوادث مروّعة أخرى كان المتسبّب الرئيسي بها الضخّ الإعلامي لخطاب التمييز والكراهية ضد اللاجئين.
تسلُّل الأحاديث التي تحمل صبغة تمييزية ضد الأجانب واللاجئين إلى الجامعات والمدارس، كان إحدى ثمار الشحن المتزايد الذي تمارسه بعض الأحزاب والشخصيات السياسية والعامة ووسائل الإعلام و”الترندات” ضد وجود السوريين والأجانب بشكل عام في البلاد، حيث يقوم البرنامج الانتخابي لبعض الأحزاب والمرشحين على فكرة طرد اللاجئين من تركيا، ويجد هؤلاء في شريحة الطلاب حاضنة مناسبة لطرح أفكارهم، خاصة أن الفئة العمرية التي تدرس في المرحلة الثانوية والجامعية سيكون من حقّها المشاركة في الانتخابات القادمة.
على سبيل المثال، يقوم السياسي التركي أوميت أوزداغ بجولات في المدن التركية ويعرّج على الجامعات لبثّ أفكاره، وفي الوقت الذي كان يلقي فيه محاضرة في جامعة بيلكنت في العاصمة أنقرة، تعرّض طالب سوري اعترضَ على كلام أوزداغ للضرب من مرافقته، وهي حادثة تكشف إلى أين يمكن أن يمتدَّ الموقف الذي يبدأ شرره من خطاب وينتهي بسلوك عنفي وإجرامي.
لكن، هل باتت المؤسسات التعليمية التركية عشًّا للعنصرية والكراهية؟
تعجّ المدارس والجامعات التركية بمئات آلاف الطلبة الأجانب الذين يتعلمون ويحاولون الاندماج والتعايش في المجتمع، وبحسب تصريح مسؤول في وزارة التربية التركية لـ”نون بوست”، فإن “ضبط الخطاب والتصرفات في المؤسسات التعليمية يحتاج في المرتبة الأولى إلى مواقف حاسمة حكوميًّا للسيطرة عليه، بالإضافة إلى توعية المجتمع تجاه خطورة هذا الأمر”، وفي هذا التكثيف نسلّط الضوء على هذه القضية التي من الممكن أن تتصاعد خلال الشهور القادمة.
أرقام
تشير آخر الإحصاءات الصادرة عن وزارة التربية التركية إلى أن الأجانب باتوا يشكّلون رقمًا وازنًا في المدارس التركية، فمن أصل أكثر من 5 ملايين أجنبي يقيمون في البلاد، يوجد مليون و400 ألف ممّن هم في سنّ التعليم، ومنهم 855 ألف طالب أجنبي مسجّل في المدارس التركية رسميًّا، بمن فيهم 730 ألفًا من اللاجئين السوريين.
وفي المرحلة الجامعية يوجد ما يزيد على 142 ألف طالب من كافة دول العالم متوزّعين على الجامعات التركية بمختلف فروعها، وهو رقم كبير إذا ما قورن بالسنوات الماضية، ويحجز السوريون أيضًا مقاعد الأكثرية بين الطلاب الأجانب في الجامعات التركية، بما يزيد عن 29 ألف طالب في مختلف التخصصات والجامعات التي بات يفوق تعدادها 170 جامعة.
وتتّجه تركيا حاليًّا نحو دعم التعليم واستقطاب الطلاب الأجانب، وهو ما أعلن عنه رئيس مجلس الأعمال الاقتصادية للتعليم، عرفان جوندوز، الذي لفت إلى أن بلاده “تهدف إلى زيادة عدد الطلاب الدوليين الذين تستضيفهم إلى 300 ألف بحلول عام 2023”.
وتستفيد تركيا اقتصاديًّا بشكل كبير من استقطاب الطلبة الأجانب، وهو ما أشارت إليه أليف ده واجي، نائبة المدير العام لمعارض قطاع التعليم في الخارج، حيث قالت إن الطالب الأجنبي ينفق سنويًّا نحو 7 آلاف دولار على الدراسة والمعيشة، مضيفة أن الطلاب الأجانب “يساهمون في اقتصاد تركيا سنويًّا بنحو مليار دولار”.
في المدارس
رغم أن أعداد الطلاب الأجانب في ازدياد، إلا أن عقبات الاندماج والانخراط في المجتمع ما زالت تواجه التلاميذ بالإضافة إلى أهاليهم، خاصة اللاجئين السوريين الذين يعانون من تفاقم خطاب الكراهية ضد أولادهم، إمّا من أقرانهم وإمّا في بعض الحالات من المدرِّسين أو إدارة المدرسة.
تتحدث والدة الطالب إبراهيم لـ”نون بوست” عمّا جرى مع ابنها في مدرسته الابتدائية في حي باغجلار بمدينة إسطنبول: “في السنة الماضية رجع ابني إبراهيم إلى المنزل وهو يبكي ويقول لي إنه لن يعود إلى مدرسته، وبعد سؤاله عمّا حصل قال لي إن أصدقاءه باتوا يقولون له: “أنت سوري، لن نقترب منك””.
تضيف السيدة: “في اليوم التالي أرسلتُ ابنتي مع إبراهيم لأنها تتكلم اللغة التركية، وعندما قالت للإدارة ماذا يحصل مع ابني أنكروا ذلك وقالوا لها إن الطلاب الأتراك محترمون، وأن إبراهيم هو من يحاول استفزازهم”، بعد ذلك اضطرت السيدة إلى نقل ابنها إلى مدرسة خاصة بالأجانب، وتدفع أقساط عالية لكي لا يتكرر الموقف مع ابنها.
عند السؤال عمّا إذا قدّمت شكاية للجهات المعنية، أجابت أنها لا تجرؤ هي أو أحد من عائلتها الذهاب بهذا الاتجاه، لكي لا يصيب عائلتها أي ضرر جرّاء هذا الأمر، وبالفعل ربما تتسبّب محاولة تقديم اعتراض أو شكوى في مشاكل لا تحمد عقباها، حيث نشرت وسائل الإعلام منذ أسابيع قصة عن طالبة جامعية خضعت لإجراءات الترحيل بعد تقدّمها بشكوى بحقّ معلمة لإدارة مدرسة في ولاية غازي عنتاب، بسبب تعنيف الأخيرة لأختها الصغرى.
وإثر ذلك قامت المعلمة برفع شكوى بحقّ الطالبة بحجّة أنها تطاولت بالكلام معها وشتمتها، ليتمَّ إيقاف الطالبة الجامعية وسوقها إلى مركز الترحيل، ولولا تدخُّل المنظمات الحقوقية المعنية بشؤون اللاجئين والمهاجرين لما أُطلق سراحها وعادت إلى بلدها.
وفي حين قد تبدو هذه الحادثة فردية ولا يمكن تعميمها في دولة للقانون فيها كلمته المسموعة والناجزة، إلا أن مثل هذه الحوادث تسري بين الناس وتنتشر انتشار النار في الهشيم، وتتسبّب في شائعات لا نهاية لها، وتخلق ردة فعل سلبية بشأن اللجوء إلى السلطات وحكم القانون.
تحدّث الشاب أحمد الصيصي بدوره لـ”نون بوست” حول كيف تعاملت معه موظفة بمديرية التربية في إسطنبول، حيث يقول: “بعد مجيئي إلى تركيا نهاية عام 2016، كان من أهدافي إكمال تعليمي المنقطع منذ 5 سنوات، فذهبت إلى إحدى المدارس التي تستقبل الطلبة السوريين في منطقة اسنيورت بإسطنبول للتسجيل في مرحلة التعليم الثانوي التي تخوّلني دخول الجامعة”.
تفاجأ الصيصي بردّة فعل مديرة المدرسة التي كانت تتحدث بلهجة حادة جدًّا، وتقول: “لا يمكنني قبولك، أنت كبير جدًّا على هذا المستوى التعليمي”، مشيرًا إلى أنه أوضح لها ظروفه وأسباب انقطاعه عن الدراسة مع تقديم جميع الأوراق المطلوبة، لتردَّ: “لا يوجد أمل، لا تتكلم، اذهب وابحث عن عمل في مصانع إسطنبول”، لكنه لم يتقدم بشكوى ضدها.
في طرف مقابل، قام والد الطالب أحمد الحلبي بالذهاب إلى مديرية التربية في مكان إقامته، وتكلم مع المسؤولين هناك عمّا حصل مع ابنه في المدرسة الإعدادية، حيث قام أصدقاء أحمد بضربه وقالوا له: “أنت سوري ويجب أن يظل رأسك في الأرض”.
سرعان ما تحرّك المسؤولون في مديرية التربية وذهبوا إلى المدرسة ومعهم دورية من الشرطة، حيث احتجزت الأولاد الثلاثة وقامت بإحضار أهاليهم للاعتذار والتوقيع على إنذار أنه في حال تكرر الأمر فإنهم سيعملون على إجراءات أشد قسوة، ويروي والد الطالب أحمد لـ”نون بوست” أن أهالي الطلاب الآخرين اعتذروا منه، لكنه لم يرضَ لابنه أن يبقى في المدرسة ذاتها، حيث نقله إلى مدارس “إمام وخطيب”، وهي مدارس محافظة موجودة في تركيا.
قانونيًّا
بطبيعة الحال، يعاقب القانون التركي من يرتكب الممارسات العنصرية، ويستطيع من يتعرض لموقف عنصري أن يتقدم بشكوى وألّا يسكت عما يحصل لأن الصمت عن تلك الممارسات يفاقمها، وخلال المقابلات التي أجريناها مع الطلاب وأهلهم وجدنا أنهم يتردّدون في تقديم بلاغ أو شكاية بسبب مخاوفهم من تبعات محتمَلة، مثل التهديد من الزملاء أو الخوف من المدرِّسين.
“من الأكيد أن تركيا دولة يحكمها القانون ولا يمكن للتصرفات العنصرية في المدارس أن تمرَّ مرور الكرام”، هذا ما قاله الأستاذ عصمت أوصول لـ”نون بوست”، وهو مفتّش في مديرية التربية المركزية في إسطنبول وأيضًا مفتّش سابق في وزارة التربية التركية، وسألناه عن كيفية التعامل مع خطاب الكراهية والاعتداءات العنصرية، ليوضّح في عدة نقاط ما يمكن فعله:
– يستدعي أولًا المدرِّس الطلاب ليفهم الحادثة وأسبابها، أي يتمّ التحقيق في مجريات الحادثة وأخذ إفادة الطلاب، كما أن هناك نظامًا خاصًّا في المدارس الإعدادية لضبط سلوكيات الطلاب يُدعى “مجلس الانضباط”.
وفي هذا المجلس، يحضر الطلاب ويتمّ التحقيق وفهم مصدر الحادثة، ومن الذي كان صاحب ذاك السلوك غير السوي، لأن العنصرية هي سلوك غير سوي وتصدر عن شخص غير متزن فعليًّا، وفقًا لأوصول.
– يقوم المسؤول بعد التثبُّت من الحادثة بالتواصل مع عائلة المتسبّب شفهيًّا، وبحال التكرار يتحول التنبيه إلى مكتوب، ثم تكون الخطوة اللاحقة بنقل الطالب المذنب إلى مدرسة أخرى.
– وبالنسبة إلى التعامُل مع المدرِّسين الذين يتورّطون بسلوك عنصري، فإنه بحال حدوث شيء كهذا، بحسب قانون مديرية التعليم، يُفتح تحقيق مباشر بحقّ المدرِّس، ويأتي مفتّش إلى المدرسة لأخذ إفادته وإفادة المدرِّسين الآخرين والطلاب، وبعد التثبُّت من أسباب الحدث ومجرياته وما إن كان المدرِّس جانيًا يأخذ تنبيهًا أو عقابًا.
– ضرورة مراجعة مديرية التعليم الخاصة بالمنطقة وليس المدرسة.
وفي خصوص هذه النقطة الأخيرة، أشار أوصول إلى أنه “لا يوجد هناك مدير مدرسة يقوم بإجراء جدّي بهذه الأحوال عادة، لذلك بهذه الحالات عليكم بالتوجُّه إلى مديرية التعليم الخاصة بالمنطقة وتحديدًا مدير الشعبة المسؤولة عن مدراس منطقتكم، تشرحون له القصة ثم تثبتونها بشكل مكتوب ومتابعة الأمر”.
– ضرورة فضح كل موقف عنصري، ونضعه أمام الجميع سواء في مواقع التواصل الاجتماعي أو في النظام التعليمي.
3 حالات
الناشط في حقوق اللاجئين، طه غازي، تحدّث لـ”نون بوست” عمّا يحصل في المدارس التركية ضد الطلاب الأجانب بالعموم والسوريين بالخصوص، حيث يقول: “بات الخطاب العنصري يؤثر على شرائح المجتمع التركي، وقد وصل إلى شريحة الطلاب في المدارس والجامعات، وهذا الأمر بات متفشّيًا في الفترة الأخيرة سواء من الطلاب أو من المدرّسين تجاه الأجانب”.
وبحسب متابعة غازي للعديد من هذا القضايا، صنّف حالات الكراهية في المدارس إلى 3 حالات:
– حالات كراهية وعنصرية مترافقة مع اعتداءات لفظية وجسدية على الطلاب الأجانب وخاصة السوريين من أقرانهم الأتراك، وهذا الشيء موجود بكثافة في المرحلتَين الإعدادية والثانوية.
– بعض الطلاب الأتراك في المرحلة الابتدائية يتأثّرون ببيئتهم الأسرية، حيث الطفل يتشرّب الخطاب العنصري من عائلته، وهو ما بات ملاحظًا، إذ إن نسبة الطلاب الأتراك في المرحلة الابتدائية الذين باتوا يرفضون التعاون مع الطلاب السوريين في صفوفهم بأي أمر تزداد عامًا إثر آخر.
– عنصرية المدرِّسين، حيث يعمل المدرّسون على نقل الطلاب السوريين من صفوفهم لعدم رغبتهم بوجودهم، وفي هذا الإطار يتقدّم المدرّس بطلب للإدارة يقول فيه إن هذا الطالب يحتاج إلى تقوية اللغة التركية، وهو الأمر الذي يدفع المدرسة لنقل هذا الطالب دون فهم الأسباب والدوافع.
وفي هذا السياق يقول طه غازي: “الدور المهم هنا برسم المدرّسين السوريين المتواجدين حاليًّا في المدارس التركية للعمل كجسور تواصل، بالإضافة إلى دور الأهل بأن يكونوا قريبين من الطفل والانتباه إلى نمطية تصرفاته السلوكية في المنزل وكيف تتغير”.
كما يشير أن المسؤولية تقع على عاتق مؤسسات الحكومة التركية وتحديدًا دوائر التربية، إذ إن خطاب الكراهية غير مقتصر على الشارع، إنما بات منتشرًا في بعض المؤسسات الحكومية التركية ضد الطلاب.
في الجامعات
في العموم، يملك طلبة الجامعات وعيًا وفهمًا للأمور أفضل ممّا يكون عليه الأمر في المرحلة الابتدائية أو الإعدادية، لكن في الآونة الأخيرة انتقل وباء الكراهية إلى مدرّجات الجامعات، خصوصًا مع الضخّ الإعلامي على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يتمّ التركيز على المعلومات المغلوطة عن اللاجئين السوريين الذين يدخلون الجامعات التركية، وبات الخطاب السائد هو أن الطلبة السوريين ينضمّون إلى الجامعات دون امتحان قبول وبالمجّان، وهو ما جرى نفيه مرارًا وتكرارًا من الحكومة ومن الطلاب.
يروي محمد فتال لـ”نون بوست” موقفًا مع أستاذ بالجامعة التي كان يدرس فيها سابقًا، حيث قال هذا الأستاذ: “صديقكم الطالب السوري محمد فتال الذي دخل هذه الجامعة معكم وأخذ مقاعدكم، زارني أمس وطلب مني أن أنجحه في المادة هذه لأنه يعمل ولا يملك الوقت للقدوم للجامعة”، وفي تفاصيل الموقف يشير فتال إلى أنه قُبل في جامعة يلدز التقنية التي تعتبر واحدة من أفضل الجامعات الهندسية التقنية في تركيا، وبعد دراسة التركية والإنجليزية بدأ مسيرته التعليمية في الجامعة.
يكمل فتال: “حاولت جاهدًا أن أكمل مسيرتي التعليمية رغم وضعي الاقتصادي الصعب، في عام 2017 اضطررت للبحث عن عمل بوقت كامل، وحاولت الاستفادة من قرار أصدرته الجامعة يعطي الطلاب حق تقديم موادهم الجامعية التي رسبوا بها سابقًا وتقديم الامتحانات فقط دون الحاجة لحضور المحاضرات، وكان القرار يصبّ في مصلحتي بشكل كامل”.
يضيف: “كان يتوجب عليّ إعلام أستاذ المادة حتى يستثنيني من تفقُّد حضور المحاضرة، وعند زيارتي لأحد الأساتذة طالبًا منه استثنائي من حضور المادة بحسب قرار الجامعة، استشاط الاستاذ غضبًا وطردني من مكتبه، حاولت جاهدًا تفسير وضعي الدراسي وأن ما أطلبه حقي وأنه أمر قانوني 100% لكن دون جدوى”.
تفاجأ فتال عندما أعلمه أصدقاؤه في الكليّة أن أستاذ المادة عند تفقّده الحضور توقف عند اسمي، وقال بأعلى صوت وأمام جميع الطلاب ما ذكرنا سابقًا، ويشير فتال إلى أن الأستاذ “زوّر القصة كاملة، واستخدم ادّعاءه للتحريض على الطلاب السوريين والأجانب في الجامعة”.
وتجدر الإشارة إلى أن هذا الأستاذ هو عضو في الهيئة الإدارية للكلية التي يدرس فيها محمد، حيث بعد هذه الحادثة قرر فتال بشكل نهائي سحب قيده الجامعي والانتقال إلى جامعة أخرى بنظام التعليم المفتوح.
أحد طلاب جامعة بهتشة شهير الخاصة في إسطنبول، يسرد لنا مشكلة حصلت معه ومع أصدقائه، حيث يقول: “تمّت دعوتنا للتقديم إلى أوراق الجنسية التركية على اعتبار أننا طلاب في هذه الجامعة، وعندما أتى وقت التقدم أخبرَنا الموظف الذي يريد استلام الأوراق أنه يريد هدية منا كوننا سنحصل على الجنسية، وهي أشبه بالرشوة، أخبرنا الجامعة بالأمر ورفعوا قضية على الموظف، وبدأت محكمته لنرى أنفسنا صرنا طرفًا في القضية، وعند استشارتنا للجامعة بالموضوع وأن تتحمّل مسؤولياتها، قال لنا أعضاء مكتب الطلاب الدوليين: “اذهبوا، أنتم سوريون، حلّو مشاكلكم بعيدًا عنّا””.
في الجامعة نفسها يروي طالب آخر، رفضَ الكشف عن اسمه أيضًا، عن أستاذ يحاول خلال دروسه إدخال سيرة السوريين ومشاكلهم وكيف أنهم أثّروا على الاقتصاد التركي، عدا عن أنه يتحدث التركية في محاضرات ودروس يجب أن تُعطى بالإنجليزية.
ويقول الطالب: “ذهبنا إلى الأستاذ وأخبرناه أننا سجّلنا في الفرع الإنجليزي ويجب عليك أن تتحدث الإنجليزية، عندها غضب وقال: “هذه تركيا اذهبوا وتعلموا لغتها”، ورفع شكوى بنا إلى مجلس إدارة الجامعة بدعوى إساءة الأدب معه، وفُصلتُ أنا و3 من أصدقائي لفصل كامل بسبب ما حصل، في حين أن الإدارة لم تستمع إلينا أبدًا”، هذا الأمر جبرَ الطلاب على الانتقال إلى جامعة أخرى.
في السياق ذاته، تجرّأت الطالبة هنادي، التي تدرس علم الاجتماع في إحدى الجامعات التركية، وتقدمت بشكوى ضد أستاذة وجّهت كلامًا لها، حيث قالت الدكتورة الجامعية: “يجب عليك أن تتعلمي كيف تصلين إلى حضارتنا نحن الأتراك، يبدو أنكم أنتم السوريون لا تعرفون معنى الحضارة”، بعدما تقدمت هنادي بشكواها أُحيلت الأستاذة إلى مجلس تأديبي وفُصلت من الجامعة، وتقول هنادي لـ”نون بوست”: “يجب على الجميع ألّا يسكتوا عن حقهم تجاه أي شخص كان، أستاذًا أو طالبًا”.
يتفق الناشط طه غازي مع ما قالته الطالبة هنادي، ويضيف: “طلاب الجامعات قادرون على التحرك أكثر من طلاب المدارس ضد العنصرية نتيجة الوعي والثقافة التي يمتلكونهما، فهم يستطيعون التوجه إلى الشرطة أو إلى الموظفين المسؤولين في الجامعات من أجل طرح قضاياهم”.
إذ إن الطالب في الجامعة يستطيع التوجه لإدارة الجامعة لعرض شكواه، ويتمّ فورًا عقد مجلس تأديبي من قبل الهيئة الإدارية ضد المعتدي وتُتّخذ الإجراءات بحقّه، وربما يصل الأمر إلى إحالته إلى القضاء وسجن المتهم.
كما أن الطالب يستطيع التوجه إلى القضاء، حيث يعتبر القانون التركي حوادث العنصرية، سواء كانت متعلقة بالجندر أو الدين أو الهوية، جريمة كراهية يحاسب عليها، ويجب لفت الانتباه إلى أنه لا يجب على الضحية التقدم إلى الشرطة، بل عليه أن يقدم بلاغًا إلى مديريات الأمن التركي حتى تتم ملاحقة الأمر وتسجيله، ولكن في حال كان هناك ضرر جسدي فيتمُّ التوجه إلى الشرطة ليتمَّ تسجيله كاعتداء وعرض الضحية على الطبيب.
يُشار إلى أن الطلاب السوريين أحرزوا تفوقًا كبيرًا هذا العام في الجامعات التركية، حيث حصد عشرات السوريين المراتب الأولى في الأفرع التي يدرسونها في مختلف الجامعات، وعلى غير العادة لن يقيم اتحاد طلبة سوريا حفلًا لتكريم المتفوقين وذلك بسبب الحملة العنصرية المستعرة في الآونة الأخيرة، حيث تُقابَل تجمعات السوريين وأفعالهم بالكثير من الكلام غير المنصف على وسائل التواصل، بحسب ما تكلم مصدر من الاتحاد لـ”نون بوست”.
في وجه هذه المواقف المتكررة من المضايقات ذات الخلفية العنصرية، التقى وزير الداخلية التركي سليمان صويلو مع 21 طالبًا سوريًّا حصلوا على مراتب التفوق في الجامعات التركية هذا العام، ورفض صويلو فكرة التفريق بين السوريين والأتراك لأنهم أبناء بيئة واحدة وعاشوا في جغرافية واحدة.
ووجّه صويلو حديثه للطلاب قائلًا: “دعونا لا ننسى أبدًا ماضينا، وكيف كنا، وكيف عاش من قبلنا، وما هي الصعوبات التي مرّوا بها”، وحمّل صويلو الطلاب المتفوقين مسؤولية كبيرة بقوله: “تتحمّلون مسؤولية باقي السوريين، وتصبحون قدوة ومثالًا عن أمّتكم”.
لماذا تتسلل العنصرية؟
نعود إلى نقطة البداية، إذ إن المؤسسات التعليمية كالمدارس والجامعات لها حرمتها ويتمحور دورها حول التعليم والتثقيف والتوعية ومواجهة الأمية والجهل والتخلف، إذًا لماذا تتسلل العنصرية وخطاب الكراهية إليها؟
بالنسبة إلى طلاب المرحلة الابتدائية والإعدادية، فإن التمييز يُكتسب غالبًا في الحيّ والمنزل، ومن التلفزيون والإنترنت، وربما يكون هناك دور مباشر من الأم والأب بتحذير ابنهما من الأجانب والتعامل معهم أو الاقتراب منهم.
يؤكد هذا الكلام الناشط طه غازي بقوله: “إن الأساس لدى شريحة التلاميذ أن يكونوا لا يدركون معنى هذه الأمور، ولكن اكتسابهم للأفكار العنصرية إنما يكون من أُسرهم ويتعاملون بها على غير وعي وإدراك في السنوات الأولى”.
كذلك يؤكد عصمت أوصول على الأمر ذاته، قائلًا: “قد يكون السبب الأساسي للعنصرية في المؤسسات التعليمية هو السياسة والانتخابات، لأن هذا الأمر غير موجود بين الشعب في الأصل، العنصرية التي تنفجر الآن هي موجّهة وتنتشر بسبب الانتخابات”.
ويضيف الأستاذ أوصول أنه “بات عمل الأحزاب السياسية تصدير ملف اللاجئين واستفزاز الناس به”، لافتًا إلى “أن أي فعل عنصري يصدر من الطلاب فاعلم أنه من المنزل وموجّه من الأهل”.
وبالانتقال إلى مرحلة الثانوية والجامعية، تلعب وسائل التواصل الاجتماعي الدور الأكبر بنقل أفكار السياسيين والأحزاب الرافضة للوجود السوري في تركيا، إضافة إلى ضخّ المعلومات الكاذبة مثل أن السوريين يدخلون الجامعات دون امتحان قبول أو دفع الأجور، وهي معلومات مغلوطة حتمًا، أضِف إلى ذلك أن هذا الجيل في تركيا هو أقل تقبُّلًا للآخر على الأساس العرقي والديني والإثني وفقًا لدراسة بحثية صدرت عام 2019.
بالمحصلة، يخوض الطلاب الأجانب وأقرانهم من الأتراك في المؤسسات التعليمية التركية تحديات الاندماج والتعايش في بيئة تبدو من الخارج محتدّة ومضطربة، ويأتي خطاب الكراهية من السياسيين والإعلام المُستقطَب ليضع محاولاتهم على المحك، من أجل ذلك يجدر بالجميع في تركيا، مجتمعًا وحكومة وأجانب، أن يواجهو هذا الخطر بأكبر قدر من المسؤولية، لأن إفساد براءة الجيل وميوله الفطرية للتقارب والتودد ونسج العلاقات والصداقات، سينعكس على الجميع، بلا رحمة.